الخميس، 16 يونيو 2011


  لون الحناء                                                       
..........                                                                                     قصة قصيرة .. محسن الطوخى  

( حبروك ) .. صديق ابنتى .. عندما حكت لى عنه لأول مرة , ضحكت حتى دمعت عيناى , لم أتصور أن الأسم حقيقى .
فى دار الحضانة قالت المربية الشابة وهى تضحك :                           
- لدينا أكثر من طفل يدعى ( أحمد ) .. نميزهم بالألقاب .
ابتسمت وأنا أطلب عنوان ( حبروك ) , علقت على نظرة , نصفها مكر , ونصفها دهشة . كان النطاق الأبيض العريض يضيق على الخصر, فى توافق تام مع دم الغزال المنسدل حتى الركبتين .
قلت : زوجتى تنتظر فى الخارج .
توارى المكر خجلا , قالت : تعال لتقابل القبطان .
قادتنى الى غرفة المدير
قال العجوز : لم أترك البحر بارادتى .
ولما تساءلت نظرتى قال : الربو ...  وضحك .
مال يشعل غليونه . كان الطفل قد دخل , وقف على بعد ذراع صامتا , تلامسرأسه المتوهجة بلون الحناء – بالكاد – حافة المكتب , كان ينظر الى مرة , والى القبطان مرة , بينما تدفقت فى المكان رائحة الطباق . حرك لون الحناء شيئا دافئا بجوار القلب .
قال الطفل : هى تعثرت على الدرج .. لم أدفعها .
قلت : أعرف هى لم تتهمك .
ثبت نظرته على ولم ينطق .
قلت : ماذا تظننى أحضرت لك ؟
قال وهو يتملص من بين ركبتى : ربما طائر البطريق .
ابتسمت .. كنت أعرف خيال ابنتى , وأحفظ عن ظهر قلب , كراسات صورها الملونة .
..........
كوب شاى دافىء , فوق المنضدة أشياء صغيرة , لفافة حلوى مأخوذ منها قضمة , حبات فيشار متناثرة , وشاح زوجتى الأزرق , مزق من ضؤ الشمس . قبالتى تجلس زوجتى , ترقب من تحت النظارة الشمسية لهو الطفلين بين مربعات الزهور . أتذكر كيف تلون وجه القبطان وأنا أطلب عنوان ( حبروك ) . لمعت فى عينيه ابتسامة , نصفها مكر , ونصفها ريبة . تلاشى المكر فى صفاقة وأنا أذكر له الأسباب . كان يجد الوسيلة ليحدثنى عن البحر , قال لى أن البحر ليست به عناوين . ولما ذكرت شيئا عن خطوط الطول وخطوط العرض , قال أنه يعنى الأعماق , حيث عيون الأسماك ليست لها جفون .

     أعرف نظراتك تلك ...من تحت النظارة الشمسية .. منذ خرجت اليك ... أسعل من رائحة الغليون ... وكأنك عرافة جبل الأوليمب .

هل تقدر أن تخفى كيف يحرك فيك الأشواق لون الحناء ؟ كلمات ما من أغنية حملتها اليك رسالة شوق وأنت غريب مبعد .. جانب من وجه يكسوه الظل , يحمل نفس القسمات .. شامة تعلو الصدغ الأيمن باستحياء .. كذلك لون الحناء , يبعث فيك الرعدة .

      تلك الليلة .. لن تنساها أبدا .. هل تقدر حقا أن تنسى تلك الليلة ؟ .. تأتى ( ليلى ) دامعة .. كنت غريرا أذ تتقاعس .. ماذا تجدى الآن كل كنوز العالم ؟ .. مغرورا كنت بكلمات جوفاء .. وليلى , كانت تستجدى من عينيك القوة .. يقدر ضعف الأنثى أن يفعل مالا تفعله فصيلة جند لو تمنحه القوة .. كيف تركت الحناء ذاك اليوم لا لتعود .. ويأتى الآخر .. يخطف منك الماضى , والزمن الآتى .

قال القبطان : فى البحر تتلقى الانذار , قبل مجىء الأنواء .
تتساءل عيناى فيقول : من لون الماء .
أضحك فيقول : قبل هبوب الريح يتغير لون الماء .. حين يدور الماء ويدور , تتكون عين الاعصار .. هل تعرف عين الاعصار ؟
..........
قالت زوجتى محتدة : ماذا تعنى ؟ .. أنت تطلب عنوانا .. لا أكثر من عنوان .
وافقت أنا على الانتظار , استدارت , عبرت نهر الشارع , توارت خلف الباب الشاهق . ( قبل هبوب الريح ... يتغير لون الماء ) ..

قالت طفلتنا : يوم الجمعة , حين نذهب فى نزهة , يأتى ( حبروك ) معنا .. راقتنى الفكرة .. راقتك الفكرة أيضا . وحين هبطت السلم عائدة , وعبرت الشارع مقتربة . لمحت الريبة فى عينيك .. من أين لى أن أعلم , لون الشعر , والشامة فوق الصدغ ؟ .

قالت والبشر يزاحم فى عينيها الريبة : هاك العنوان .
متشابهة كل الطرقات , راحت تتلو من قصاصة , اسم الشارع , رقم البيت , حرت كثيرا كى أتجنب كل الطرق الممنوعة . وأخيرا نحن أمام البيت المطلوب . أوقفت العربة . لم أفتح بابى . لم أعبر عرض الشارع ليغيبنى المدخل وأعود بعد دقائق بتالمطلوب . قالت وبريق الريبة يتكاثف : سأذهب . لن يتعدى الأمر دقائق . أومأت موافقا . رحت أفتش عن قرص الشمس , خلف ركامات السحب الفضية , وأعرض صفحة وجهى الساخن لرزاز المطر المتساقط .
    
          ( كان السيد يتأهب . وصوت البوق يولول فى الغابة . والذئبة
           الحمراء , أقعت حائرة . أى طريق تسلك . وعلى الربوة ( ناتاشا)
           لا تفهم شيئا . من صوت البوق , كان السيد يعرف ما يجرى فى 
           الغابة .............. )

عادت لتداعب طفلتنا وتقول : تحيا السيدة فى قصر .
قلت : فلنضرب صفحا عن تلك النزهة .
لمعت فى عينيها الريبة . قلت نظرتها ( تهرب من شىء ما ) . لزمت الصمت .
قالت : فى الغد .. نمر لنأخذ ( حبروك ) معنا .
لم أجرؤ أن أسأل , هل شعر الأم بلون الحناء ؟ .. هل تعلو الصدغ الأيمن شامة ترقد باستحياْ ؟
( حبروك ) ذو السنوات الخمس الغضة , يعرف نقطة ضعفى . يأتى , يعبث بالحناء المشتعلة فوق الجبهة ويقول : فى المرة القادمة .. هل تترك أمى تأتى معنا ؟

أنت ذهبت .. وأنت أتيت ب (حبروك ) .. وأنا مزروع تحت الظل الوارف .. وشظايا البقع الشمسية , تتراقص فوق لفافة حلوي مأخوذ منها القضمة .. وحبات فيشار .. ووشاح أزرق .. وأحدق فى عين الاعصار , تحت النظارة الشمسية .

.............

تسكب بسمة , وتقبل خد الطفل وتقول : أجل .. سندعو ماما لتلهو معنا .. يتهلل وجه الطفل . 


ليست هناك تعليقات: