الجمعة، 9 ديسمبر 2016

الأفعى .. قصة قصيرة .. جون شتاينبك

مختارات من القصة القصيرة







الأفعى

جون شتاينبك

ترجمة : رقية كنعان

كان الوقت ظلاما تقريبا عندما قام الطبيب الشاب فيليبس بوضع كيسه على كتفه وغادر البركة في جزرها، تسلق أعلى الصخور وخاض على طول الشارع في حذائه المطاطي. أضواء الشارع كانت مضاءة وقت وصوله إلى مختبره التجاري الصغير في شارع مونتيري. كان بناء ضيقاً صغيراً يقف جزئياً على أرصفة مياه الخليج وجزئياً على الأرض، في الجانبين تزاحمت معامل تعليب السردين.
تسلق الدرجات الخشبية وفتح الباب، ركضت الجرذان البيضاء في أقفاصها أعلى وأسفل السلك وماءت القطط الأسيرة تطلب الحليب. أشعل الضوء فوق طاولة التشريح ووضع كيسه الرطب على الأرض، مشى تجاه الأقفاص الزجاجية بجانب النافذة حيث تعيش الأفاعي المجلجلة، انحنى ونظر إلى الداخل. كانت متكومة على نفسها ترتاح في زوايا القفص ولكن كل رأس بدا واضحا، بدت العيون المغبرة وكأنها تنظر إلى لا شيء، حالما انحنى الشاب فوق القفص، بدأت الألسنة المتشعبة السوداء في الأطراف والوردية في الخلف ترتعش خارجاً وتتحرك ببطء أعلى وأسفل إلى أن ميزت الأفاعي الرجل وسحبت ألسنتها.
خلع الدكتور فيليبس معطفه الجلدي وأضرم ناراً في الموقد الضيق، وضع قدراً من الماء على الموقد، وأسقط علبة فاصولياء في الماء، ثم وقف محدقاً في الكيس على الأرض. كان رجلاً شابا مهملاً، بعينين لطيفتين مشغولتين كعيني من اعتاد النظر خلال المجهر لفترة طويلة، و لديه لحية شقراء خفيفة.
تنفس التيار الهوائي عبر المدخنة، وقدمت لمحة من الدفء من الموقد. غسلت الموجات الصغيرة الأرصفة تحت البناية. رمق الرجل طبقة فوق أخرى من جرار المتحف مرتبة في رفوف تحوي العينات البحرية المحمولة التي يتعامل بها المختبر.
فتح بابا جانبيا ودخل إلى غرفة نومه، سرير عسكري، ضوء قراءة، وكرسي خشبي غير مريح. سحب حذاءه المطاطي، وارتدى خفين مصنوعين من جلد الغنم، وعندما قفل عائداً إلى الغرفة الثانية كان الماء في الإبريق قد بدأ يهمهم.
رفع كيسه إلى الطاولة تحت الضوء الأبيض وأفرغ دزينتين من نجوم البحراستلقت بجانب بعضها البعض على الطاولة. عيناه المشغولتان استدارتا تجاه الجرذان في الأقفاص السلكية. أخذ حبوبا من كيس ورقي، و صبها في معالف الطعام، انزلقت الفئران عن الأسلاك ونزلت على الطعام. زجاجة حليب على رف زجاجي بين إخطبوط صغير محنط وسمكة هلامية، رفعها وسار باتجاه قفص القطط، التقط بلطف قطة صغيرة ممشوقة مبقعة، شد عليها للحظة، ثم أسقطها في صندوق صغير مطلي بالأسود، أحكم الغطاء وأغلق المزلاج ثم أشعل المشعل الذي نفث الغاز في غرفة القتل، و بينما الكفاح الناعم القصير مستمر داخل الصندوق الأسود، ملأ الصحون بالحليب، تسلقت إحدى القطط يده، فابتسم وداعب عنقها. الصندوق كان هادئا الآن فأطفأ المشعل.
على الموقد، كان قدر الماء يغلي باهتياج حول علبة الفاصوليا، رفع الدكتور العلبة بواسطة زوج من الكلابات، فتحها وأفرغ الفاصوليا في صحن زجاجي. راقب نجم البحر على الطاولة بينما كان يأكل. ، قطرات قليلة من سائل حليبي كانت تنتشر من بين أشعته في كل اتجاه.
وضع الصحن في الحوض، وخطا إلى خزانة المعدات، تناول منها مجهراً ومجموعة من أطباق العدسات الصغيرة، ملأ الأطباق واحدا تلو الآخر من أنبوب نزع سدادته يحتوي على ماء البحر ثم رتبها في صف بجانب نجم البحر، أخذ ساعته وألقاها على الطاولة تحت الضوء الأبيض المنسكب. تحركت الأمواج بتنهدات صغيرة تجاه الدعائم تحت الأرضية.
تناول قطارة من أحد الأدراج وانحنى على نجم البحر، في تلك اللحظة كان هناك خطوات ناعمة على الدرجات الخشبية وطرق قوي على الباب. تجهم للحظة ثم فتح الباب. شاهد امرأة طويلة منحنية تقف في طريق الباب. لمعت في الضوء القوي.
تكلمت بصوت ناعم حلقي : "هل يمكنني الدخول؟، أريد أن أتحدث معك".
"إنني مشغول تماماً الآن ،علي أن أقوم بأشياء في موعدها، ولكنه وقف بعيدا عن الباب، فدلفت المرأة الطويلة إلى الداخل.
- "سأظل هادئة إلى أن تستطيع الحديث معي".
أغلق الباب وأحضر الكرسي غير المريح من غرفة النوم، وقال معتذرا :"كما ترين، العملية قد بدأت وعلي أن أنهيها"، كان قد اعتاد أن يأتيه كثير من الناس يدخلون يسألون. فيلجأ للقليل من روتين الشروحات للعمليات الجارية. كان يمكنه قولها دون تفكير: "اجلسي هنا، خلال دقائق سأكون قادراً على الإصغاء لك".
انحنت المرأة الطويلة على الطاولة، بواسطة القطارة جمع الشاب السائل من بين أذرع نجم البحر لتبخ في وعاء من الماء وحرك الماء بلطف بواسطة القطارة و بدأ يتمتم في شروحاته:
"عندما تكون نجوم البحر ناضجة جنسيا فإنها تفرز المني والبويضات في حالة الجزر، باختيار عينات ناضجة وأخذها خارج الماء أهيء لها ظرفاً من المد المنخفض، والآن خلطت المني بالبويضات ووضعت بعضاً من المزيج في كل واحدة من زجاجات الساعة العشرة هذه. في غضون عشرة دقائق سأقتل تلك التي في الزجاجة الأولى بالمنثول، وبعد ذلك بعشرين دقيقة سأقتل المجموعة الثانية، ومجموعة أخرى كل عشرين دقيقة. ثم سأسيطرعلى العملية في مراحل وسأعرض السلسلة على شرائح المجهر للدراسة البيولوجية"، توقف قليلا وأضاف: "هل تحبين أن تتفرجي على المجموعة الأولى تحت المجهر؟".
- "لا ، شكرا لك".
استدار بسرعة تجاهها، الناس عادة يحبون النظر خلال الزجاج، ولكن هي لم تكن تنظر إلى الطاولة نهائيا بل إليه هو. عيناها السوداوان كانتا عليه ولكنهما بدتا و كأنهما لا تريانه. لقد أدرك لم، فالقزحية كانت غامقة مثل البؤبؤ، وما من فاصل لوني بينهما.
قال: "بينما أنتظر الدقائق العشرة الأولى لدي ما أفعله، بعض الناس لا يحبون رؤيته وربما من الأفضل لك أن تدخلي تلك الغرفة ريثما أنتهي".
- "لا"، قالت بنغمتها الناعمة المنبسطة، "افعل ما شئت، سأنتظر إلى أن تستطيع الحديث معي"
استراحت يداها بجانب بعضها البعض على حجرها،. بدت عينيها لامعتين ولكن باقي جسدها كان في حالة حركة مؤجلة.
فكّر:" معدل أيض متدن كذلك الذي لدى الضفدع! "
تملكته الرغبة في هزها خارج جمودها ثانية.
أحضر إناء خشبياً هزازاً إلى الطاولة، وضع المشارط والمقصّات وركب إبرة كبيرة مجوفة على أنبوب ضغط ، ثم من غرفة القتل أحضر القطة المترهلة الميتة ووضعها في الإناء وربط أقدامها إلى خطافات في الجوانب، ألقى نظرة جانبية تجاه المرأة، لم تتحرك، ولم تزل في راحتها.
القطة كشخت في الضوء و لسانها الوردي كان عالقاً بين أسنانها المدببة كالإبر. قص الدكتور فيلبس الجلد حول حلقها برشاقة، بواسطة مشرط أحدث شقا طوليا ووجد شرياناً بواسطة تقنية لا تتطلب الصدع، وضع الإبرة في الوريد وربطها بالأحشاء.
"سائل تحنيط" ، و شرح :"لاحقا سأحقن كتلة صفراء في النظام الوريدي وأخرى حمراء في النظام الشرياني من أجل تحليل الدورة الدموية – دروس بيولوجيا".
نظر جانباً تجاهها، عيناها بدتا مملوأتان غباراً، نظرت بدون أي تعبير على وجهها إلى حلق القطة المفتوح، ولا قطرة من الدم فرت، والشق كان نظيفاً. قال الدكتور فيليبس ناظراً إلى ساعة يده: "وقت المجموعة الأولى"، وهز مجموعة من كريستالات المنثول في زجاج الساعة الأولى. جعلته المرأة عصبياً ، تسلقت الجرذان أسلاك أقفاصها ثانية وصرت بصوت خافت، ضربت الأمواج تحت البناية الدعائم ضربات خفيفة، ارتعش الشاب، وضع قطعاً من الفحم في الموقد وجلس، "الآن، ليس لدي ما أفعله لمدة عشرين دقيقة"،
لاحظ كم كانت المسافة قصيرة بين شفتها السفلى وطرف ذقنها، بدت كمن يستيقظ على مهل ليأتي من بركة عميقة من الوعي. حركت رأسها وعينيها الغبراوين خلال الغرفة ثم عادت إليه.
- "كنت انتظر"، قالت ويداها ممددتان واحدة بجنب الأخرى على حجرها، " لديك أفاعي؟"
"لماذا، نعم"، قالها بصوت مرتفع، "لدي دزينتان من أفاعي الجرس، أستخرج منها السم وأرسله إلى مختبرات العقاقير ضد السموم".
شملته بنظرها وبدت كمن ينظر في دائرة كبيرة حوله.
- "ألديك ثعبان ذكر؟ ثعبان مجلجل ذكر؟".
"حسناً يبدو أنه لدي. جئت في أحد الصباحات ووجدت أفعى في الداخل– في حالة جماع مع أخرى أصغر، ذلك نادر جدا في الأسر، أترين، وهكذا أعرف أن لدي ثعبان ذكر".
- "أين هو ؟"
"لماذا، في القفص الزجاجي بجانب النافذة هناك"، تأرجح رأسها حولها قليلاً لكن يديها الهادئتين لم تتحركا، استدارت ثانية نحوه: - "هل يمكن أن أراه؟"
نهض ومشى إلى القفص بمحاذاة النافذة، على القاع الرملي كانت عقدة الأفاعي تستلقي مجدلة ولكن رؤوسها كانت تبدو واضحة، خرجت الألسنة واضطربت للحظة ثم لوحت أعلى وأسفل تتحسس الجو والذبذبات فيه. أدار الدكتور فيليبس رأسه بعصبية، كانت المرأة تقف بمحاذاته ، لم يسمع صوتها وهي تنهض من الكرسي، كل ما أحس به كان جلد المياه للدعائم وصرير الفئران على المنخل السلكي. قالت برقة:
- "أيها الذكر الذي تحدثت عنه؟"
أشار إلى ثعبان سميك بلون رمادي مغبر يستلقي بمفرده في إحدى زوايا القفص، "ذاك، طوله حوالي خمسة أقدام، أفاعينا في ساحل المحيط الهادي تكون أصغر عادة، وقد اعتاد أن يأخذ كل الجرذان أيضا، ولذا عندما أريد الآخرين أن يأكلوا يكون علي أن أخرجه بعيدا"
حدقت المرأة في الرأس الجاف عديم الحس، انزلق اللسان المتشعب خارجا وظل يرتعش للحظة طويلة، - "أنت متأكد من أنه ذكر؟"
"الأفاعي المجلجلة مسلية جداً"، قالها بعفوية، "فكل تعميم تثبت خطأه، لا أحب أن أقول شيئا قاطعاً حول أفعى جرس، ولكن، نعم أستطيع أن أؤكد لك أنه أفعى ذكر".
ثبتت عينيها على الرأس المسطح، - " هل تبيعه لي؟"
"أبيعه؟"، صرخ، "أبيعك إياه!"
- "أنت تبيع العينات، اليس كذلك؟"
"أوه نعم، بالطبع أبيعها".


- "كم سعره؟ خمسة دولارات؟ عشرة؟"
"أوه ، ليس أكثر من خمسة دولارات، ولكن هل تعرفين شيئا عن أفاعي الجرس؟، ربما تلدغين؟"
نظرت إليه للحظة: -"لا أنوي أخذه معي، سأتركه هنا ولكني أريده أن يكون لي، أريد أن أجيء إلى هنا وأنظر إليه وأطعمه، وأن أعرف أنه لي".
فتحت جزداناً صغيراً وأخرجت ورقة خمسة دولارات، "هاك، الآن إنه ملكي".
بدأ الدكتور فيليبس يشعر بالخوف، "يمكنك أن تأتي وتنظري إليه بدون أن تملكيه"
- "أريده أن يكون لي"
"أوه يا الهي"، صرخ، "لقد نسيت الوقت"، وركض نحو الطاولة،"تأخرت ثلاثة دقائق، لن أبالي كثيرا"، هز كريستالات المنثول في زجاجة الساعة الثانية ثم انسحب عائداً إلى القفص حيث كانت المرأة لا تزال تحدق في الثعبان. سألت: - "ماذا يأكل؟"
"أنا أطعمهم جرذانا بيضاء، من القفص الذي هناك في الأعلى".
- "هلا وضعته في القفص الآخر، أريد أن أطعمه".
"ولكنه لا يحتاج طعاما، لقد تناول جرذا هذا الأسبوع، والأفاعي قد لا تأكل لمدة ثلاثة أو أربعة شهور، كان لدي واحدة لم تأكل لما يزيد عن السنة"، بنغمتها المنفردة سألت: - "هل تبيعني جرذا؟" ، هز كتفيه بلا مبالاة: "فهمت، تريدين أن تراقبي كيفية أكل الأفاعي المجلجلة، حسنا، سأريك، الجرذ سيكلفك خمسة وعشرين سنتا، ذاك أفضل من مصارعة ثيران إن نظرت إليه بطريقة ما، وهو ببساطة ثعبان يتناول عشاءه إن نظرت إليه بطريقة أخرى"
لهجته أصبحت لاذعة، هو يكره الناس الذين يجدون الرياضة في صراع المخلوقات الحية. لم يكن رجل رياضة وإنما عالماً بيولوجياً يمكنه قتل ألف حيوان لأجل المعرفة ولكنه لا يقتل ولو حشرة من أجل المتعة. هذا ما كان قد استقر في ذهنه منذ أمد.
أدارت وجهها ببطء نحوه و تشكلت بداية ابتسامة على شفتيها الرقيقتين، - "أريد أن أطعم ثعباني، سأضعه في القفص الآخر" و فتحت غطاء القفص العلوي وأنزلت يدها لداخله قبل أن يدرك ما كانت على وشك أن تفعل. قفز إلى الأمام وسحبها إلى الخلف فارتطم غطاء القفص وأغلق.
"ألا تعقلين؟"، سأل بشراسة، "ربما ما كان ليقتلك ولكنه كان سيصيبك بالمرض رغم كل ما يمكنني أن أفعل من أجلك" .
قالت بهدوء - "ضعه أنت في القفص الآخر.
اكتشف الدكتور فيليبس أنه كان يحاول تجنب العينين المظلمتين اللتين لم تكونا تنظران إلى شيء. شعر بأن وضع جرذ في القفص خطأ بيّن، بل وإثم كبير، ولم يعرف لماذا. عادة كان يضع الجرذان في القفص عندما يريد شخص أو آخر رؤية ذلك، ولكن هذه الرغبة اليوم أشعرته بالمرض، حاول أن لا يعلل السبب كثيراً.
"إنه أمر جيد للرؤية، يريك كيف تعمل الأفعى، ويجعلك تقدرين أفعى الجرس، وهكذا أيضاً كثيرون يصابون برعب الأفاعي القاتلة لأن الجرذ ذاتي، بمعنى أن الشخص هو الجرذ، أما عندما تنظرين إلى الأمر كله بموضوعية فالجرذ مجرد جرذ والرعب يختفي".
أخذ عصا طويلة مزودة بأنشوطة جلدية من على الجدار، فتح الشرك وأسقط الأنشوطة حول رأس الثعبان وضيق السير الجلدي، أفعى جرس جافة حادة ملأت الحيز، الجسد السميك تلوى وتمسك حول مقبض العصا، رفع الثعبان وألقاه في قفص التغذية، وقف جاهزا للهجوم للحظة ولكن الطنين خبا شيئا فشيئا، زحف الثعبان إلى زاوية، كون رقم ثمانية كبير (8) بجسده واستلقى بسكون. "كما ترين، هذه الأفاعي أليفة تماماً، إني أملكها منذ وقت طويل، و افترض أني قادر على مسكها إذا أردت ولكن كل من يمسك أفاعي الجرس يلدغ آجلاً أو عاجلاً، ولا أريد أن آخذ هذه الفرصة"، التفت تجاه المرأة للحظة كارهاً أن يضع الجرذ في الداخل، تحركت مقابل القفص الجديد، عيناها السوداوان كانتا على الرأس الحجري الصقيل للثعبان مرة أخرى، قالت:-" ضع جرذاً في الداخل".
على مضض اتجه إلى قفص الجرذان، لسبب ما كان يشعر بالأسف من أجل الجرذ، وهو ما لم يشعر به من قبل، مرت عيناه فوق كتلة الأجساد البيضاء المحتشدة التي تتسلق المنخل المعدني باتجاهه. "أي واحد؟"، فكّر، "أي واحد منها سيكون؟"، وفجأة استدار غاضبا تجاه المرأة، "ألا تفضلين أن أضع قطة في الداخل؟ عندها ستشاهدين قتالا حقيقيا، بل وربما تفوز القطة ولكن إن فعلت فقد تقتل الثعبان، سأبيعك قطة إن رغبت!"
دون أن تنظر إليه قالت: -"ضع جرذا في الداخل، أريده أن يأكل".
فتح قفص الجرذان وغرز يده في الداخل، أمسكت أصابعه بذيل فرفع جرذا ممتلئ الجسم أحمر العينين، كافح محاولاً عض أصابعه إلى أن فشل و تدلى بلا حراك. مشى بسرعة عبر الغرفة، فتح قفص التغذية وأسقط الجرذ على رمل القفص. صاح: "الآن راقبيه".
لم تجبه المرأة، راقبت الثعبان الذي كان مستلقياً ساكناً ولسانه يرتعش داخلاً خارجاً بسرعة، يتذوق هواء القفص. هبط الجرذ على أقدامه، استدار وتشمم حول ذيله العاري الوردي وباطمئنان هرول عبر الرمل متشمماً، لم يعرف الدكتور فيليبس إن كانت المياه هي من تنهد أم المرأة، وبزاوية عينه رأى جسدها ينحني ويتيبس.
تحرك الثعبان بنعومة لدرجة لا يبدو معها أن هناك حركة على الإطلاق. في الطرف الآخر من القفص كان الجرذ يتزين في وضع جلوس ويلعق الشعر الناعم الأبيض على صدره، حافظ الثعبان على انحناءة مثل حرف "S" في عنقه. أثار الصمت الشاب، فشعر بالدم يتدفق في جسده، قال بصوت عال:"أنظري إنه يحافظ على الانحناء الضارب جاهزاً، أفاعي الجرس حذرة وأقرب للجبن، الآلية أنيقة جدا، عشاء الثعبان يتم تناوله بعملية رشيقة كعمل الجراح، لا يأخذ الاحتمالات في حسبانه".
انساب الثعبان نحو منتصف القفص حتى الآن، وقف الجرذ ورأى الثعبان وبلا مبالاة عاد للعق صدره. "إنه أجمل شيء في العالم".
قال الشاب وعروقه تنبض بقوة "إنه أكثر الأشياء فظاعة في العالم".
دنا الثعبان من الجرذ، رأسه مرفوع بضع بوصات عن الأرض، يتموج ببطء إلى الوراء والأمام، يسدد و يأخذ مسافة، لمح الدكتور فيليبس المرأة، شعر بالغثيان، كانت تتموج هي الأخرى، ليس كثيرا، وإنما بشكل ضئيل.
الجرذ نظر إلى الأعلى ورأى الثعبان، انتفض على أربعة أقدام واقفاً، ثم كانت الضربة، تعذرت الرؤية، فقد كانت مجرد ومضة، ارتج الجرذ تحت ضربة غير مرئية وعاد الثعبان مسرعاً إلى الزاوية التي قدم منها واستقر ولسانه يلعب بشكل مستمر.
"مدهش"، صرخ الدكتور فيليبس،" تماما بين عظام الكتف، الأنياب لا بد وصلت القلب"
سكن الجرذ، متنفساً كرئة بيضاء صغيرة، وفجأة خفق في الهواء ووقع على جانبه، ركلت أقدامه بتشنج لثانية ثم همد. استرخت المرأة ، استرخت بكسل.
"حسنا"، تساءل الشاب، " كان حماماً عاطفياً، أليس كذلك؟"
أدارت عينيها الضبابيتين تجاهه، وسألت: "هل سيأكله الآن؟".
"بالطبع سيأكله. لم يقتله من أجل النشوة، قتله لأنه جائع".
انقلبت زوايا فم المرأة إلى الأعلى هازئة، نظرت ثانية إلى الثعبان وقالت: -"أريد أن أراه يأكله".
للتو خرج الثعبان من زاويته مرة أخرى، لم يكن هناك اعوجاج هجوم في رقبته ، اقترب من الجرذ بحذر شديد، مس الجسد برفق بواسطة أنفه الكليل تحسسه من الرأس إلى الذيل بواسطة ذقنه، بدا وكأنه يقيس الجسد ويقبله، أخيرا فتح فمه ووسع فكه على مفاصل الزوايا. وضع الدكتور فيليبس نصب عينيه ألا يلتفت تجاه المرأة، فكر، إن كانت تفتح فمها فسأشعر بالمرض والخوف، ونجح في إبقاء عينيه بعيدا.
ثبت الثعبان فكه حول رأس الجرذ وبتؤدة بدأ بابتلاعه، تحرك الفكان وكامل الحلق، زحف ببطء، اتسعت مفاصل الفك ثانية. استدار الرجل وذهب إلى طاولته ثانية، "لقد جعلت واحدة من السلسلة تفوتني"، قال بقسوة، "المجموعة لن تكون كاملة"، وضع واحدة من زجاجات ساعة اليد تحت مجهر قليل القوة ونظر إليها، ثم سكب كل محتويات الزجاجات بغضب في الحوض.
انخفضت الأمواج إلى همس رطب قادم من النافذة، أمسك الرجل الشاب بيت الفخ إلى قدميه وأسقط نجم البحر في المياه السوداء، توقف عند القطة التي انحنت وتجهمت بسخرية في الضوء،جسدها كان منتفخا بدم محنط، أوقف الضغط، سحب الإبرة وربط الأوردة.
"هل تشربين بعض القهوة؟"
- "لا، شكرا لك سأذهب حالا".
مشى إليها حيث وقفت أمام قفص الثعبان، اختفي الجرذ بالكامل عدا بوصة من الذيل الوردي علقت خارجه كلسان ساخر. اتسع الحلق ثانية واختفى الذيل، عادت مفاصل الفك لمواقعها، زحف الثعبان بتثاقل إلى زاويته، شكل رقم ثمانية كبير وألقى برأسه على الرمال.
قالت المرأة - "إنه نائم الآن .. إني ذاهبة، ولكني سأعود وأطعم ثعباني كل حين، وسأدفع ثمن الجرذان، أريده أن ينال وفرة منها وفي بعض الأحيان سآخذه معي بعيدا"، رجعت عيناها من حلمها المغبر للحظة: "تذكر أنه لي، لا تأخذ سمّه، أريده أن يحتفظ به، ليلة سعيدة" .. مشت بنعومة إلى الباب وغادرت. سمع وقع أقدامها على الدرج، لكنه لم يسمع خطوها على حجارة الرصيف.
أدار كرسياً وجلس مقابل قفص الأفعى، حاول أن يمسد زوره وهو ينظر إلى الثعبان المخدر. "قرأت الكثير عن رموز الجنس السيكولوجية"، فكّر، "ولكني لا أفهم، ربما أني وحيد جداً، ربما علي أن أقتل الثعبان، لو أني أعلم، لا، لا.. لا يمكنني أن أصلي لأي شيء".
لأسابيع توقع عودتها، "سأخرج وأتركها وحدها هنا عندما تعود، لا أريد أن أرى الشيء اللعين ثانية". لم تعد ثانية أبداً، ولأشهر بحث عنها وهو يتجول في البلدة، مراراً، ركض خلف امرأة طويلة ظانّا أنها هي، ولكنه لم يرها مرة أخرى إلى الأبد.
________
جون شتاينبك
كاتب أمريكي. من أشهر أدباء القرن العشرين. اشتهر بقصصه حول الحرب العالمية الثانية.
ولد في ولاية كاليفورنيا عام 1902.
مؤلفاته:
- كوب من ذهب 1929
- شقة تورتيلا 1935
- معركة ساجال 1936
- فئران ورجال 1937
- عناقيد الغضب 1939
- شرقي عدن 1952
فاز بجائزة بوليتزر عام 1940 عن رواية عناقيد الغضب
فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1962 ، عن مجمل أعماله
توفي في نيويورك عام 1968

الأحد، 6 نوفمبر 2016

الأرجوحة .. محمد خضير



محمد خضير

الأرجوحة
قصة

على جادة السكون المظللة بمراوح السعف كان فتى حليق الرأس يتحرم فوق دراجته الخفيفة، كالنائم، بين جدول واطئ مزبد بخيوط تشبه رغوة الصابون إلى اليسار، وجدار واطئ من الطين المتهدم إلى اليمين. تبدأ من حافة الجدول المعشب أرض تبعثرت فيها جذوع النخيل وأعشاب السوس والحلفاء المتوحشة، كما كان جدار الطين يحجز أرضًا منخفضة تتجاوز فيها الجداول وتغطيها تمامًاالأعشاب الدقيقة المزهرة والأشجار البرية وأشجار الرمان وعرائش الكروم المتسلقة على الجذوع. تنغمر الجادة بشمس قوية، في حين يحل فيء ساخن فوق أعشاب غابة النخيل وجاداتها الضيقة المحاصرة. وكالنائم، كان الفتى لا يسمع صوتًا حتى لعجلتي دراجته وهما تدوران على غبار الجادة الناعم، ولكنه يشم روائح أزهار الدفلى والأزهار البرية في المنخفض النباتي أسفل جدار الطين وخلف الجدول المزبد. ومن كسرات الجدار كانت تخطف بصره المبهور بأشعة الشمس خلل السعف أزهار الرمان الحمراء المختبئة في كثافة ظل الأوراق، وحركة الأجنحة الرمادية لطيور (الفاختة)، غير أن أزهار الدفلى في أغصانها المتدلية في الجدول الواطئ ترتسم في الماء بين ظل السعف كنقوش في ثوب مخطط. وفي منطقة فيء غزير كانت فروع شجرة توت ضخمة تجتاز الجدار حتى منتصف الجادة. استند الفتى بقدمه إلى الجدار، بعد أن أوقف حركة الدراجة، وأخذ يلتهم ثمار التوت السوداء. ثم ترجل عن دراجته وأسندها إلى الجدار، وقطع الجادة منحدرًا ضفة الأعشاب الزاحفة ليغسل أصابعه الدبقة في ماء الجدول، ثم شرب وبلل رأسه الحليق، مغترفا الماء براحتيه المكورتين. أنصت لأقدام خافتة، وظهر ثلاثة كلاب دخلوا من ثقب الجدار للأرض المنخفضة. وثانية حل في رأسه ذلك الغفو المريح حين امتطى دراجته، وتشرّب بالسكون ذي الرائحة الساخنة، ومن بين جفنيه راقب بعينيه المغمضتين انفصال أجزاء دراجته على التراب، وكانت العجلتان المعوجتان تتسلقان الجدار وتتعثران في حفره وثقوبه، ثم طفتا في السكون بتوازن، وأصبح الفتى يتحرك على قمم النخيل، منمكًا في غفوه بمراقبة الحيوات المتحفزة المختفية في منخفضي الأعشاب: حياة كرات النبات (الخرنوب) اليابسة حياة أثمار الأعذاق غير الناضجة، حياة بويضات أحياء الجداول، ثم الحياة الأكثر غموضًا وتحفزًا في الحقيبة المعلقة بالمقود. فجأة حدث هجوم الحيوات المختبئة وكادت تلقي بالفتى في الجدول أسفل الجادة - انتهى جدار الطين واعترضته أسلاك شائكة تمتد يمينًا ويسارًا مثبتة لأوتاد حديدية، وباب نصف مفتوح من هذه الأسلاك. ترجل وقاد دراجته عبر الباب المثبت بين وتدين، وسار في جادة ضيقة زحفت عليها الأدغال الكالحة. بين جذوع النخيل المزروعة في صفوف منتظمة، طفحت الجداول القصيرة المسدودة بماءٍ أخضر فاقع ذي فقاعات، وبأوراق الأشجار، وبفراغات السماء المنعكسة بين حوض السعف. ثم دخل سقيفة من أشجار الكروم لم يكتمل نضج عناقيدها الكثيرة، وخرج منها إلى شاطئ يمتد مع نهر غير واسع سريع المجرى، حيث لمح غير بعيدة عنها نارًا تلتهب في تنور على الضفة المقابلة وتنعكس في الماء ببقعة ثابتة. وبين الخضرة الواطئة قامت غرفتان من الطين وسقيفة من القصب كأنها استخرجت من قاع النهر وبنيت هناك بشكل رقم (٦) غير بعيدة عن الضفة.
سحب دراجته نحو البيت، وظهرت امرأة ملفوفة بالسواد من خلف التنور الملتهب، وصاح الفتى الحليق، عبر النهر،
- يا أمي، ألديك ولد في الجيش؟
- نعم. إبني علي.
- علي قاسم؟
- نعم هو. أتعرفه؟
مسح الفتى رأسه ونظر إلى الحقيبة المعلقة بمقود الدراجة:
- أنا قادم من هناك. إنه صديقي، أنا وهو في نفس الوحدة.
- كيف حاله؟ مرت مدة طويلة من دون أن يكتب لنا رسالة. كيف هو؟
- يا أمي ولدك قد ....
التفت إلى الحقيبة المعلقة في المقود، وتطلع إلى البيت وإلى السطح وإلى مجرى النهر وإلى وجه المرأة الملوح باللهب، وقالت المرأة الملفوفة بالسواد:
-أهذه حقيبته؟
- هذه؟ .. لا، حقيبتي.
- لديه حقيبة مثلها .. كيف هو؟
- بخير يبعث بسلامه إليكم ولطفلته حليمة.
انتظر متطلعا حوله، وكان دخان خفيف رمادي يعقب ألسنة لهب التنور، ومن زاوية الغرفتين خرجت طفلة في السادسة، وتقدمت نحو النهر.
- إنه يسأل عن طيوره.
- هناك فوق في البرج على السطح. أترى البرج؟
- أرى جزءًا منه كما أرى صفائح التنك المطلة على الحوش لم أتصور أنه يملك هذا العدد الكبير من الطيور.
- لمَ لا تعبر إلينا؟ القنطرة هناك. أبوه خرج لتكريب النخل ومعه زوجة إبنه.
- سأترك الدراجة هنا.
أسند الدراجة إلى جذع نخلة، ثم عبر قنطرة أنصاف جذوع النخيل المغطاة بالتراب المتماسك، واثناء عبوره الحذر شاهد طيور الحمام تخرج من صفائح التنك المثبتة مع ضلعي الغرفتين وفي زاوية التقائهما. كان الماء يجري تحت النطرة في سورات لامعة، وغير التنور كانت شجرة عالية عند الضفة، وثلاث نخلات طويلات، ربطت بين اثنين منها أرجوحة، تحاول الطفلة التي خرجت من الغرفة الصعود إلى حمالتها.
استرح هنا يا بني. أين أنتم الآن؟
ساعد الزائر الطفلة على الاستقرار في حمالة الأرجوحة المقتطعة من كيش خيش، ثم جلس على الحصير الذي فرشته العجوز تحت الشجرة واسعة الظل:
- نحن الآن على الحدود. تم استبدالنا أخيرًا من الجبهة.
- ومتى سيحصل ابني على إجازة؟
- إجازة؟ قريبا. ربما في الشهر الذي يأتي. ألم تسمعوه في الإذاعة؟
- لا. ترك راديوه الصغير هنا ولكن لا أحد يفتحه. دعني أقدم لك شيئًا.
قطعت ساحة البيت نحو السقيفة ينسحب ذيل ثوبها الأسود على التراب، وتبعتها دجاجة راكضة من وراء السقيفة، وكان الحمام يحلق في سماء البيت أو يلتقط ما يجده في ساحته.
- ما اسمك يا بنية؟
- حليمة.
- حليمة. بابا يريدني أن أقبلك.
نهض الزائر وقبّلها، وكانت تغوص في حمالة الأرجوحة المشدودة من أطرافها إلى الحبال المتينة، وتلقى برأسها على عضد ذراعها الممسكة بحبل الأرجوحة، يعكس شعرها القصير موجات حمراء ويكشف عن رقبتها النحيفة. نظرت حليمة إلى الزائر بجانب عينيها وطلبت منه أن يهز أرجوحتها. انحنى خلف ظهرها ثم دفعها دفعًا، ولكنها طلبت أن يؤرجحها بقوة حتى تطير. وتلقى جسدها بعد أن رجعت إليه وأحاط خاصرتها ثم دفع الأرجوحة فصعدت خارج ظل السعف فوق الماء، وغمرت بالشمس، ثم عادت إلى الوراء فحاد عنها، ثم اندفعت ثانية خارج الضفة دون أن يمسها.
- تمسكي جيدًا. سأجعلك تطيرين.
خرجت الأرجوحة من الظل بسرعة، فسقطت الشمس على رقبة حليمة كحد السيف، واجتازت خط قمم النخيل، ثم عادت مسرعة واجتازت الظل من الجهة المعاكسة، وكان فمها مفتوحًا من دون ضحك وشعرها ينفر عن وجهها في الصعود، يزيد الضوء المفاجئ حمرته المتخلفة عن صبغة الحناء، ولكن التأجج ينطفئ فجأة عندما يرتد الشعر عن وجهها في هبوط الأرجوحة. واستند واقفًا إلى النخلة.
- ما اسم هذه الشجرة يا حليمة؟
- بمبر.
- ما اسمها؟
أجابته العجوز التي عادت بقدح لبن:
بمبر. إنها لا تنطق الاسم صحيحًا.
وقدمت إليه القدح:
- إنه من دون ثلج. لا يصلنا الثلج هنا.
- اللبن طيب حتى من دون ثلج. كم بقرة لديكم؟
قالت حليمة:
- ثلاث، خرجت أمي ترعاهن خلف البيت.
يداها ممدودتان إلى أقصاهما لتمسكا حبال الأرجوحة، وتدلى شعرها القصير إلى أسفل لأنها كانت تلقي رأسها إلى الخلف وتتطلع إلى الزائر بعينيها المقلوبتين كلما هبطت الأرجوحة، بعد أن يثقل هجوم المشاهد وسرعة مجرى الماء رأسها، لم يمس الزائر أرجوحتها، وتركها تتأرجح بتوازن.
- الشمس تعمي عيوني.
من التنور الذي خبت فيه النار، قالت جدتها:
- إنها لا تنطق الكلمات صحيحة مع أننا سندخلها المدرسة في السنة القادمة.
قال الزائر:
- كثيرا ما حدثني علي عن هذه الشجرة. قال إنه كان ينام بين أغصانها في سنيه الأولى.
قالت حليمة:
- انا لا أحب ثمرها.
قالت جدتها:
- ألم تأكل البمبر؟
- لا. ولكنه أخبرني أن البمبر يحتوي على سائل لزج.
قالت حليمة:
- نواتها تلتصق بأصابعها ولا تنفك عنها حتى ولو نفضتها بقوة.
- لكنه لا زال غير ناضج. كان يظن أنه نضج ورغب أن أجلب معي بعض ثمار البمبر.
قالت الجدة:
- أظنه لا ينبت في مكان آخر.
- لست أدري. وحدثني عن الأرجوحة.
- لم تنم حليمة في مهد أبدًا. سرعان ما كانت تغفو في هذه الأرجوحة. ست سنوات وهي تنام فيها.
وقالت حليمة:
- هنا قرب الماء.
- كان علي يسبح في النهر وهي تتطلع إليه ويصعب عليها الوقوف داخل الأرجوحة.
سألت حليمة:
- أتعرف السباحة؟
- نعم أعرف.
- ألديكم أنهار كثيرة هناك؟
- كثيرة ولكنها لا تشبه هذا النهر السريع: أتحبين الماء يا حليمة؟
- أخاف الغرق. هزني الآن.
تلقى الزائر الأرجوحة من الخلف بأن وضع راحتيه حول الحمالة الممتلئة بجسد الطفلة الصغير ودفعها فحلقت فوق النهر وانطبعت على سحطة منسحبة فوق الأشكال الطافية، وبصوت ثاقب نادته حليمة:
- ألم يطلب منك أبي أن تسبح؟
- لا. ولكنه طلب أن أقبلك.
- قبلتني. ولكني أريدك أن تسبح.
نظر الزائر إلى امرأة التنور التي كانت تعد العجين، فقالت:
- رطب جسدك بالماء. دائما تطلب ذلك من أبيها.
- سأنفذ رغبتها.
- ولكن لا تستمع دائما لها. رغباتها لا تنقطع.
خلع (دشداشته) وفانيلته خلف شجرة (البمبر) وعلقها داخل الأغصان الكثيفة. قفز إلى النهر وسمع صيحة ابتهاج حليمة، التي بترت حين غاص في الماء الأخضر. لما ظهر فوق الماء أطلق من فمه الماء، وحاول أن يقاوم المجرى ليظل أمام حليمة.
- لا يزال الماء باردًا.
- اسبح إلى هناك. أتستطيع أن تسبح إلى التنور؟
- ذلك سهل.
- سيأخذك الماء كبطة.
انسحبت أمامه مسرعةً مع تيار المد اللامع القمم الساكنة المتقابلة لصفي النخيل في النهر، وأعشاب وأشجار الضفتين، وكان النهر ينعطف على بعد خلف البيت، وفجأة قبل انعطافه كانت الجذوع تنهال في المجرى الغامض المظلل أو تتبادل أمكنتها من ضفة إلى ضفة وهي تسرع في الاختفاء مع النهر. ومن خلال القطرات التي تقفز أمام عينيه وتموه نظره شاهد المرأة تقف وسط التنور كجذع متفحم، وحين وصل إزاء التنور رآها تخبز العجين بين راحتيها وتمدده على قرص قماش أسود وتنحني لتصلق الرغيف اللدن داخل جدار التنور المحدب الساخن، وكأنها لتنقصم وتتفتت رمادًا في إحدى حركات أعضائها المتمهلة. عند الجرف كان باستطاعته أن يمس قاع النهر بقدميه، وأن يكف عن العوم لمقاومة التيار والوقوف في مكانه أمام التنور، وأخذت ترتطم بجسده الأوراق والحشائش وثمار التوت العائمة مع المد، وكان يلتقط هذه الثمار ويلتهمها.
- ما زال الماء باردًا.
- كان علي معتادًا على السباحة صباحًا في مثل هذه الأيام.
- أتعرفين يا أمي؟ أنا هنا كما لو كنت إياه. ولكنها أيام الحرب.
وتمهل كي يتأكد كيف تضيع عيناها في وجهها المتضائل ويكاد يختفي فمها في سكونها المريب، كجذع فحم لن يقوى على الوقوف حتى يتبدد.
- لقد أحببت المكان. انظري إلي كأني هو الذي يسبح ويحادثك الآن. لا تدعي غيابه يهمك كثيرًا.
قالت امرأة التنور كلمات لم تنته، محترقة مختلطة، انطفأت في النهر وغطت عليها صرخة حليمة:
- ارجع لتهزني. أتستطيع السباحة على ظهرك؟
- كالباخرة .. ذلك سهل.
وضع رأسه ضد المجرى وجعل يرفس الماء بقدميه ويحرك يديه تحت جسده كي يبقى طافيًا فأحدث دفقات متتابعة من الماء، كما شاهد الحمام يحلق على برج السطح، وأوراق شجرة (البمبر) العريضة المتراكبة على خضرة معتمة، واختلاط سعف النخلتين المرتفعتين، والأرجوحة التي تهدأ بينهما، يتقلص تحتها ظل السعف، ودخل منطقة فيء الشجرة كأنه يدخل بئرًا. تمسك بالأغصان المتدلية في الماء، وسمع حليمة:
- أتعرف؟ كان جدي جنديًا أيضًا.
سمع جدتها:
- ماذا قالت عن جدها؟
قالت حليمة:
- قلت له أنه كان جنديًا.
قال الزائر:
- كل الناس يصبحون في يوم ما جنودًا.
سمع جدتها:
- حارب في الحرب العظمى. إنها تستأنس بالحكايات التي يقصها عليها.
قالت حليمة:
- يا لها من حكايات لطيفة!
قالت جدتها:
- وأخبار أبيك. انتظري فقط كي يأتي في إجازة.
قال الزائر:
- نعم. يا لها من أخبار. أخبار عجيبة يا حليمة.
سمع حليمة:
- فترت الأرجوحة. هزني الآن.
خرج من ظل الشجرة، وكان وجهه مبللًا، فسألته حليمة:
- هل احمرت عيناك؟
- يحدث ذلك لمن يسبح.
- لا. أبي لم تحمر عيناه يومًا.
أحاط عجزتها داخل الحملة ودفعها، فافتقدها في الشمس، واحتواها حين عادت، موقفا حركة الأرجوحة:
- كيف أنت يا حليمة؟
- لماذا أوقفتها؟ كانت دفعة جيدة، ولم يهزني أحد كذلك.
وذابت ثانية في الشمس، وعادت تضع رأسها على عضد ذراعها الممدودة، ساكنة الوجه وقد أغمضت عينيها:
- أرى أبي. ها هو يؤرجحني في حضنه. ولكنهه لا يتكلم كالأخرس. حلق شعر رأسه مثلك، وكأني غريبة عنه فهو لا يعرفني ولا يتكلم معي أبدًا.
ثم فتحت عينيها وقالت:
- أين ذهب؟ كان معي يؤرجحني.
- لقد اختفى الآن. حين تفتحين عينيك يختفي.
- أين؟
- لنبحث يا حليمة. أتسلق النخلة؟ كلا. وإلا رأيناه. هل غاص في الماء؟ لا. وإلا اختنق إذا ما بقي طويلا تحت الماء. آه أتعرفين أين؟ في تلك الحقيبة.. أترينها يا حليمة؟
- أية حقيبة؟
- تلك في الضفة الأخرى. الحقيبة المعلقة في الدراجة.
- الحقيبة الصغيرة؟ كيف تسع جسده؟
- ولكنه كالدخان. تذكري يا حليمة إنه كالدخان؟
- لم أره جيدًا. كنت. في حضنه.
- أأجلس معك في الأرجوحة؟
أوقف الحبال المتأرجحة وأنزل حليمة، ثم رفعها لتستقر في حضنه داخل حمالة الأرجوحة، وحاول أن يهز جسديها بقدميه، حين جاءت الجدة العجوز تحمل رغيفًا:
- ألم تجوعا؟ كُلا بانتظار الغذاء حين يأتي جدها، وسأصعد لأطعم الحمام.
قسمت الرغيف الساخن بينهما، وطلبا منها أن تهزهما قبل أن تصعد إلى السطح.
- أأستطيع هزكما؟
تحركت الحبال قليلًا فقليلًا، وأسرعت الأرجوحة فاجتازت الفيء بقليل، ثم حلقت فوق المجرى، وكانت الجدة تختفي خلف السقيفة.
- اتكئي إلى صدري يا حليمة وأغمضي عينيك.
- ثوبك مبلل.
- لم أجفف جسدي جيدًا.
- أتحب البمبر؟
- نعم. أشتهي أن آكل منه.
- أنا لا أحبه. وما اسمك؟
- ستار.
- كاسم ابن المختار. نحن نلعب خلف المغسل ويريد أن ندخله.
- مغسل الموتى؟
- نعم. أرني أبي الآن. أراه يخرج من الحقيبة هناك ويأتي نحونا.
- بلا رأس ولا يدين ولا رجلين ومن دون ثياب. كالدخان.
- نعم. نعم.
- دعيه يقترب. تظاهري بالنوم ولا تفزعيه لأنه لا يحب غير النيام كالموتى.
وقاوم الزائر مجرى النهر بيقظة عينيه الواهنة، يضم حليمة إليه ويحملها محلقًا، يدخل معها الأبواب المفتوحة بين جذوع النخل ذات مراوح السعف العريضة، حيث شعر بالغفو الجميل اللين المبلل يدنو منه أيضا، وكانا يخترقان أوراق الأشجار وأزهار الرمان وأعشاب السوس، باتجاه المد اللامع.
- هل نمت يا حليمة؟
- خرج من الحقيبة كالدخان ولم يتكلم.
- وأين هو الآن؟
- لست أدري. لقد ذهب. غاص في النهر.
ولم يلبثا هما كذلك، أن غاصا في إثره
_______ 

 قصة الأرجوحة للكاتب العراقي محمد خضير هي التي منحته الشهرة في العالم العربي ونشرت في مجلة الآداب البيروتية عام 1968 قال عنها غسان كنفاني انها من اعظم قصص الحرب في ادبنا العربي وهي من قصص الحرب المكتوبة بعد نكسة حزيران1967 وقد قال عنها محمد خضير: "عندما كتبت هذه القصة كنت في سن الخامسة والعشرين ووجدت حقيقة صعوبة في السيطرة على المشاعر الذاتية التي كانت تختمر في نفس شابة قليلة الخبرة في السياسة والحرب لكني كنت على وعي كاف بظروف كتابة القصة .. ومع ذلك كانت الموازنة صعبة بين الحدث الكبير وفن التعبير عن سخونته وأثره وصدمته ".. القصة نشرت لاحقا في مجوعته القصصية الأولى "المملكة السوداء"

الخميس، 21 يوليو 2016

مجموعة قصصية بعنوان " الضعفاء يموتون "

صدرت في يناير 2016
عن دار دار كً تً بً للنشر .. مصطفى الجارحي
بالتعاون مع دار " الدار " للنشر والتوزيع .. محمد صلاح مراد
تضم المجموعة ثمانية عشر قصة قصيرة بالعناوين :

1- الضعفاء يموتون.
2- كونترالتو.
3- القطار.
4- الغالية.
5- ابن جنية.
6- أحلام مستحيلة.
7- جوع.
8- عينان زرقاوان.
9- ثريا.
10- باكورة إنجازات الثورة.
11- شهد.
12-لقاء.
13- مرجريت.
14- الشرك.
15- شرخ في جدار الروح.
16- تخوم المستحيل.
17- جليد.
18- عمدة سلومة. 

الثلاثاء، 24 يوليو 2012



                                   مختارات من القصة القصيرة 


                                    بذلة الأسير

قصة قصيرة
نجيب محفوظ



كان جحشه بائع السجائر أول السابقين إلى محطه الزقازيق حين اقترب ميعاد قدوم القطار.  وكان   يعد المحطه بحق سوقه الاثيرة فيمضى على الإفريز فى نشاط منقطع النظير , يتصيد بعينيه الصغيرتين الخبيرتين,  ولعل جحشه لو سُئل عن مهنته للعنها شر لعنه, لأنه كبقية الناس برم بحياته ساخط على حظه, ولعله لو ملك حرية الاختيار لآثر أن يكون سائق سيارة أحد الأغنياء , فيرتدى لباس الأفندية, ويأكل من طعام البك, ويرافقه إلى الأماكن المختاره فى الصيف والشتاء مؤثراً من أعمال الكفاح فى سبيل القوت ما هو أدنى إلى التسليه والملهاة. على أنه كانت له أسبابه الخاصة ودواعيه الخفية لإيثار هذا العمل وتمنيه, من يوم رأى الغر سائق أحد الأعيان يتعرض للفتاة نبوية خادم المأمور فى الطريق, ويغازلها بجسارة وثقة, بل سمعه مرة يقول لها وهو يفرك يده حبوراً : سآتى معك قريباً ومعى الخاتم, ورأى الفتاة تبتسم فى دلال وترفع طرف الملاءة عن رأسها كأنها تسويها , والحقيقة أنها  أرادت أن تبدى عن شعرها الفاحم المدهون بالزيت
رأى ذلك فالتهب قلبه وأحس الغيرة تنهشه نهشاً موجعاً, وكان به من عينيها السوداوين أوجاع وأمراض, وكان يتبعها عن كثب, ويقطع عليها السبيل فى الذهاب والإياب, حتى إذا خلا بها  فى عطفة, أعاد على أذنيها ما قال لها الغر: سآتى قريباً ومعى الخاتم. ولكنها لوت عنه رأسها, وقطبت جبينها وقالت باحتقار: هات لك قبقاب أحسن.  فنظر إلى قدميه الغليظتين كأنهما بطنا بخفى جمل, وجلبابه القذر, وطاقيته المعفرة وقال: هذا سبب شقائى وأفول نجمى,  ونفس على الغر عمله وتمناه. على أن آماله لم تقطعه عن مهنته, فثابر على كده قانعاً من آماله بالأحلام, وقصد فى ذلك الأصيل إلى محطة الزقازيق يحمل صندوقه, ونظر إلى الأفق, فرأى القطار قادما من بعد كأنه سحابة دخان, وما زال يدنو ويقترب وتتميز أجزائه ويتصاعد ضجيجه حتى وقف على إفريز المحطه. هرع جحشه إلى العربات المتراصه, فرأى لدهشته على الأبواب حراسا مسلحين ووجوها غريبه تطل من النوافذ بأعين ذاهله منكسره, فقيل له بأن هؤلاء الأسرى الايطاليين تساقطوا بين يدى عدوهم بغير حساب وأنهم يُساقون اليوم إلى المعتقلات

.
فوقف جحشه متحيرا يقلب عينيه فى الوجوه المغبره , ثم أدركته الكآبه لأنه أيقن أن تلك الوجوه الشاحبه الغارقه فى البؤس والفقر لن يكون فى وسعها إشباع نهمها من سجائره , ووجدهم يلتهمون صندوقه بشراهة جوع , فألقى عليهم نظرة سخط واحتقار , وهمّ أن يوليهم ظهره ويعود من حيث أتى , ولكنه سمع صوتاً يصيح به بالعربيه بلهجه أفرنجيه قائلا : سجائر فحدجه بنظرة دهشة وريبة , ثم فرك سبابته بإبهامه : أى نقود ففهم الجندى وأومأ برأسه فاقترب محاذرا ووقف على بعد لا تبلغه يد الجندى , فخلع الجندى جاكتته بهدوء وقال له وهو يلوح بها : هذه نقودى , فتعجب جحشه وتفرس فى الجاكته الرمادية ذات الأزرار الصفراء بين الدهشة والطمع , ووجب قلبه ولكنه لم يكن ساذجاً أو مغفلاً فأخفى ما قام بنفسه أن يقع فريسة للإيطالى , وأبرز فى هدوء ظاهرى علبة سجائر ومد يديه ليأخذ الجاكتة , فقطب الجندى جبينه وصاح به : علبه واحده بجاكته ؟ هات عشراً , فذعر جحشه وتراجع إلى الوراء وقد غاض طمعه وأوشك أن يأخذ فى غير السبيل , فصاح به الجندى : أعطنى عددا مناسباً تسعاً أو ثمانية , فهز الشاب رأسه بعناد , فقال الجندى : إذن سبعاً , ولكنه هز رأسه كما فعل فى الأولى وتظاهر بأنه يعتزم المسير , فقنع الجندى بست , ثم هبط الى خمس فلوح جحشه بيده متظاهراً باليأس , وتراجع إلى المقعد وجلس فصاح به الجندى المجنون : تعال رضيت بأربع , فلم يلق له بالا وليدله على عدم اكتراثه, أشعل سيجارة ومضى يدخن فى تلذذ وهدوء , فثارت ثائرة الجندى , وأهاجه الغضب , وبدا وكأنه ليس له غاية فى الوجود سوى الاستيلاء على سجائر , فهبط بطلبه إلى ثلاث , ثم اثنين , ولبث جحشه جالسا يغالب اضطرام عواطفه وأوجاع طمعه , ولما نزل الجندى إلى اثنتين أبدى حركة بغير إراده رآها الجندى فقال له وهو يمد يده بالجاكتة : هات . فلم ير بداً من النهوض , ودنا من القطار حتى أخذ الجاكتة وأعطى الجندى العلبتين , وتفرس الجاكتة بعين جذلة راضية وقد لاحت على شفتيه ابتسامة ظفر , ووضع الصندوق على المقعد وارتدى الجاكته وزررها فبدت فضفاضة , ولكنه لم يعن لذلك وتاه عجباً وسرورا واسترد صندوقه وأخذ يقطع الافريز فخراً طروباً , وارتسمت لعينيه صورة نبوية فى ملاءتها اللف فقال متمتما : لو ترانى الآن نعم لن تتجافانى بعد اليوم ولن تلوى وجهها عنى احتقارا ولن يجد الغر ما يفخر به على , ولكنه ذكر أن الغر يرتدى بدلة كاملة لا جاكتة مفردة فكيف السبيل إلى البنطلون ؟ وفكر مليا وألقى على رؤوس الأسرى المطلة من نوافذ القطار نظرة ذات معنى , ولعب الطمع بقلبه من جديد فاضطربت نفسه بعد أن أوشكت أن تستقر , ودلف إلى القطار ونادى بجرأه : سجائر سجائر العلبه ببنطلون لمن ليس معه نقود العلبه ببنطلون , وأعاد ندائه هذا مثنى وثلاثاً وخشى أن يغيب على الأفهام مقصده فمضى يومىء إلى الجاكتة التى يرتديها , ويلوح بعلبة سجائر , وأحدثت إيماءته الأثر المرجو فلم يتردد جندى أن يهم بخلع جاكتته ولكنه سارع نحوه وأومأ اليه أن يتمهل , ثم أشار إلى بنطلونه يعنى أن ذلك بغيته , وهز الجندى منكبيه باستهانة وخلع البنطلون وتم التبادل , وقبضت يد جحشه على البنطلون بقوة , يكاد يطير من الفرح , وتقهقر إلى مكانه الأول , وأخذ يرتدى البنطلون , وانتهى فى أقل من دقيقة فصار جنديا إيطاليا كاملاً .  ترى هل ينقصه شىء . المؤسف حقا أن هؤلاء الأسرى لا يغطون رؤسهم بالطرابيش ولكنهم يضعون أقدامهم فى أحذيه , ولا غنى عن حذاء ليتساوى بالغر الذى يكرب حياته , وحمل صندوقه وهرع إلى القطار وهو يصرخ : سجائر العلبة بحذاء العلبة بحذاء . واستعان على التفاهم بالإشارة كما فعل فى المرة الأولى , ولكنه قبل أن يظفر بزبون جديد آذنت صفارة القطار بالمسير , فتمخضت عن موجة نشاط شملت الحراس جميعاً وكانت سحائب الظلام تغشى جوانب المحطة وطائر الليل يحلق فى الفضاء فتوقف جحشه وفى نفسه لوعة وفى عينيه حسرة وغيظ , ولما أخذ القطار يتحرك لمحه حارس فى عربة أمامية فبدا على وجهه الغضب وصاح بالإنجليزية ثم بالإيطالية : إصعد بسرعة أيها الأسير , فلم يفهم جحشه ما يقول , وأراد أن ينفس عن صدره فجعل يقلده فى حركاته مستهزءاً مطمئناً إلى بعده عن متناول يديه , فصاح به الحارس مرة أخرى والقطار يبتعد رويداً ورويداً : إصعد إنى أحذرك أصعد . فزم جحشه شفتيه احتقارا وولاه ظهره وهم بالمسير , فكور الحارس قبضة يسراه مهدداً , وصوب بندقيته نحو الشاب الغافل , وأطلق النار . دوى عزيف الرصاصه يصم الآذان .أعقبتها صرخة ألم وفزع  , وتصلب جسم جحشه فى مكانه , فسقط الصندوق من يده وتناثرت علب السجائر والكبريت , ثم انقلب على وجهه جثة هامدة .


الخميس، 19 يوليو 2012



نظرة
قصة قصيرة
يوسف أدريس

....................

كان غريبًا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانًا كبيرًا مثلي لا تعرفه في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله وكان ما تحمله معقدًا حقًا، ففوق رأسها تستقر صينية بطاطس بالفرن وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة وكان الحوض قد انزلق برغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه، حتى أصبح ما تحمله مهددًا بالسقوط. ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل وتلمست سبلاً كثيرة، وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من الصاج وتعود فتميل الصينية، ثم اضبطهما معًا فيميل رأسها هي، ولكنني نجحت أخيرًا في وضع تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبًا حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أرى لها رأسًا وقد حجبه الحمل، كل ما حدث أنها انتظرت قليلاً لتتأكد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير، لم تلتقط أذني منه إلا كلمة ستي.ولم أحول عيني عنها وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي يـُنظف بها الفرن أو حتى من رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها وهي تخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء ولكنها سرعان ما تستأنف المضي. راقبتها طويلاً حتى امتصتنني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة، وأخيرًا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار.استأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفي، شاهدتها تتوقف ولا تتحرك، وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال. أما هي فكانت واقفة على ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون ولم تلحظني ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف ، استدارت على مهل، واستدار الحمل معها وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة، ثم ابتلعتها الحارة.



أجمل رجل غريق فى العالم

 قصة قصيرة 


جابرييل جارسيا ماركيز
  





ظنّه الأطفال لمّا رأوه ، أول مرة ، أنه سفينة من سفن الأعداء. كان مثلَ رعنٍ أسود في البحرِ يقترب منهم شيئا فشيئا. لاحظ الصبيةُ أنه لا يحمل راية ولا صاريًا فظنوا حينئذٍ أنه حوتٌ كبير، ولكن حين وصل إلى ترابِ الشاطئ وحوّلوا عنه طحالبَ السرجسِ و أليافَ المدوز و الأسماكَ التّي كانت تغطيهِ تبيّن لهم أنّه غريق.
شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث.
أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :"ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه. "
عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت.
كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تحمل الريحُ الأطفال ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار ، أمّا الموتى فكانوا نادرين لم يجد لهم الأحياءُ مكانًا لدفنهم فكانوا يلقون بهم من أعلى الجرف..
كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد..
في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق …أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..
لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..
لم تجد نساء القرية للجثة، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية.
فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروالا من قماشِ الأشرعة و كذلك قميصًا من “الأورغندي” الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال..
جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر “الكاراييب” أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن ” أن لذلك علاقة بالميّت” ، وقالت أخرى ” لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف”..
أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول أن أزواجهن من أكبر المساكين..
دخلت النسوة في متاهات الخيال.
قالت أكبرهن:” للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان”. كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل “لوتارو”.
في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..
بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكت البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . اتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله…ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له “ابق وأشرب القهوة معنا” ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: “حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله”.
هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..
في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..
وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض..
عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة.
قالت النسوة: “الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!”..أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين.
ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت “الكتفيّة” حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :” مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟”..
بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: “إنه إستبان!” لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد!
إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: “لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه.”
أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.
عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء..
في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق.
ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..
عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..
منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم:
"
أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس...هناك هي قرية إستبان!".







موت موظف




قصة قصيرة 

 أنطون تشيكوف 

ذات مساء رائع كان ايفان ديمتريفيتش تشرفياكوف، الموظف الذي لا يقل روعة، جالسا في الصف الثاني من مقاعد الصالة، يتطلع في المنظار إلى "أجراس كورنيفيل" . وراح يتطلع وهو يشعر بنفسه في قمة المتعة. وفجأة.. وكثيراً ما تقابلنا "وفجأة" هذه في القصص. والكتّاب على حق، فما أحفل الحياة بالمفاجآت! وفجأة تقلص وجهه، وزاغ بصره، واحتبست أنفاسه.. وحول عينيه عن المنظار وانحنى و .. أتش !!! عطس كما ترون. والعطس ليس محظوراً على أحد في أي مكان. إذ يعطس الفلاحون، ورجال الشرطة، بل وحتى أحياناً المستشارون السريون. الجميع يعطس. ولم يشعر تشرفياكوف بأي حرج، ومسح أنفه بمنديله، وكشخص مهذب نظر حوله ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدا بعطسه. وعلى الفور أحس بالحرج. فقد رأى العجوز الجالس أمامه في الصف الأول يمسح صلعته ورقبته بقفازه بعناية ويدمدم بشيء ما. وعرف تشرفياكوف في شخص العجوز الجنرال بريزجالوف الذي يعمل في مصلحة السكك الحديدية.
وقال تشرفياكوف لنفسه: "لقد بللته. إنه ليس رئيس، بل غريب، ومع ذلك فشيء محرج. ينبغي أن أعتذر".
وتنحنح تشرفياكوف ومال بجسده إلى الأمام وهمس في أذن الجنرال:
عفواً يا صاحب السعادة، لقد بللتكم .. لم أقصد..
لا شيء ، لا شيء.
استحلفكم بالله العفو. إنني.. لم أكن أريد!
أوه، اسكت من فضلك! دعني أصغي!
وأحرج تشرفياكوف فابتسم ببلاهة، وراح ينظر إلى المسرح. كان ينظر ولكنه لم يعد يحس بالمتعة. لقد بدأ القلق يعذبه. وأثناء الاستراحة اقترب من بريزجالوف وتمشى قليلاً بجواره، وبعد أن تغلب على وجله دمدم:
لقد بللتكم يا صاحب السعادة.. اعذروني.. انني لم اكن أقصد أن ..
فقال الجنرال:
اوه كفاك!. أنا قد نسيت وأنت ما زلت تتحدث عن نفس الأمر!
وحرك شفته السفلى بنفاذ صبر.
وقال تشرفياكوف لنفسه وهو يتطلع إلى الجنرال بشك: "يقول نسيت بينما الخبث يطل من عينيه. ولا يريد أن يتحدث. ينبغي أن أوضح له أنني لم أكن أرغب على الإطلاق.. وإن هذا قانون الطبيعة، وإلا ظن أنني أردت أن أبصق عليه. فإذا لم يظن الآن فسيظن فيما بعد!.."
وعندما عاد تشرفياكوف إلى المنزل روى لزوجته ما بدر عنه من سوء تصرف. وخيل إليه أن زوجته نظرت إلى الأمر باستخفاف، فقد جزعت فقط، ولكنها اطمأنت عندما علمت أن بريزجالوف "غريب".
وقالت:
ومع ذلك اذهب إليه واعتذر. وإلا ظن أنك لا تعرف كيف تتصرف في المجتمعات!
تلك هي المسألة! لقد اعتذرت له، ولكنه.. كان غريباً.. لم يقل كلمة مفهومة واحدة. ثم أنه لم يكن هناك متسع للحديث.
وفي اليوم التالي ارتدى تشرفياكوف حلة جديدة، وقص شعره ، وذهب إلى بريزجالوف لتوضيح الأمر.. وعندما دخل غرفة استقبال الجنرال رأى هناك كثيراً من الزوار ورأى بينهم الجنرال نفسه الذي بدأ يستقبل الزوار. وبعد أن سأل عدة أشخاص رفع عينيه إلى تشرفياكوف. فراح الموظف يشرح له:
بالأمس في "اركاديا" لو تذكرون يا صاحب السعادة عطست و.. بللتكم عن غير قصد.. اعذر..
يا للتفاهات... الله يعلم ما هذا! – وتوجه الجنرال إلى الزائر التالي – ماذا تريدون؟
وفكر تشرفياكوف ووجهه يشحب: "لا يريد أن يتحدث. إذن فهو غاضب.. كلا، لا يمكن أن أدع الأمر هكذا.. سوف أشرح له.."
وبعد أن أنهى الجنرال حديثه مع آخر زائر واتجه إلى الغرفة الداخلية، خطا تشرفياكوف خلفه ودمدم:
يا صاحب السعادة! إذا كنت اتجاسر على إزعاج سعادتكم فإنما من واقع الاحساس بالندم!. لم أكن أقصد، كما تعلمون سعادتكم!
فقال الجنرال وهو يختفي خلف الباب:
انك تسخر يا سيدي الكريم!
وفكر تشرفياكوف: "أيه سخرية يمكن أن تكون؟ ليس هناك أية سخرية على الإطلاق! جنرال ومع ذلك لا يستطيع أن يفهم! إذا كان الأمر كذلك فلن أعتذر بعد لهذا المتغطرس. ليذهب إلى الشيطان! سأكتب له رسالة، ولكن لن آتي إليه. أقسم لن آتي!".
هكذا فكر تشرفياكوف وهو عائد إلى المنزل. ولكنه لم يكتب للجنرال رسالة. فقد فكر وفكر ولم يستطع أن يدبج الرسالة. واضطر في اليوم التالي إلى الذهاب بنفسه لشرح الأمر.
ودمدم عندما رفع إليه الجنرال عينين متسائلتين:
جئت بالأمس فأزعجتكم يا صاحب السعادة، لا لكي أسخر منكم كما تفضلتم سعادتكم فقلتم. بل كنت أعتذر لأني عطست فبللتكم.. ولكنه لم يدر بخاطري أبداً أن أسخر. وهل أجسر على السخرية؟ فلو رحنا نسخر، فلن يكون هناك احترام للشخصيات إذن..
وفجأة زأر الجنرال وقد أربد وارتعد:
اخرج من هنا !!
فسأل تشرفياكوف هامساً وهو يذوب رعباً:
ماذا ؟
فردد الجنرال ودق بقدمه:
اخرج من هنا !!
وتمزق شيء ما في بطن تشرفياكوف. وتراجع إلى الباب وهو لا يرى ولا يسمع شيئاً، وخرج إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه.. وعندما وصل آلياً إلى المنزل استلقى على الكنبة دون أن يخلع حلته.. ومات .