الجمعة، 27 مايو 2011


    أصيل (3 - ؟ ) ...  أنور جعفر
                                       
      منزل أنور جعفر . شقة عادية بالعقار رقم 6, شارع شادى عبد السلام , بميامى . يشملك لحظة دخولك شعور عام بالنظافة , والنظام , والذوق الرفيع . هى سمات ترجع بالتأكيد الى سيدة المنزل . سيدة نوبية دقيقة الجسم والتكوين , تتمتع بوجه تشع منه السماحة والألفة .

      النظام والهدؤ والارستقراطية فى السلوك , هم روح هذه السيدة الفاضلة تسرى فى المكان , وتسرى بالتأكيد فى أنور نفسه , وكان اذاك على مشارف الستين , يستقبل القادم بحفاوة لدى الباب , بعد لحظة من انفراج الشراعة , وابتسامته المبسوطة تملأ وجهه. يخطو الضيف خطوتين لا أكثر ليجد نفسه فى الصالون عبر الصالة .


      عندما عرفت طريقى الى الصالون , لم يكن يضم غير عدد قليل من أدباء ومثقفى اللأسكندريه . أذكر منهم مصطفى نصر , ود. مصطفى عبد الشافى , وعبد العزيز عبد الشافى , وأحمد مبارك , وأحمد فضل شبلول . وربما خلطت الذاكرة بين من حضروا الصالون وبين من انضموا لاحقا فى مرحلة المقاهى الا أن ذلك لا يغير من جوهر الأمور . 

      كنت خلال خدمتى الطويلة فى الجيش قد هجرت الأدب مرغما ,  أقرأ بنهم فى جميع الموضوعات , لكنها قراءة غير موجهه لا تضبطها خطة ما . أرتقت القراءة المكثفة بذوقى ومداركى لكنها لم تشكل نمطا أو اتجاها فكريا . وكنت معزولا عن الصرعات الأدبية الحديثة التى كانت تمور بها الحياة الثقافية فى الثمانينيات , فسقطت فى بحر لجى من مصطلحات لم أكن على دراية بها . تيار الوعى , والبنيوية , والشكلانية , وسريالية الشعر والتصوير ¸ وجودية سارتر وعبثية بيكيت وكامى , فاقبلت على مجلة فصول التى كانت فى ذاك الوقت تحتفى بنشر المقالات النقدية عن تلك الاتجاهات  ورحت اجوب شارع النبى دانيال ( ايام عزه ) فألتقط كل كتاب يتناول النقد الأدبى , وبدأت فى تكوين مكتبتى الخاصة التى سطا عليها الكثيرون ابان حقبتى الرومانسية التى كانت فى سبيلها الى التآكل . وهذا يفسر لى الآن السبب الذى من أجله أننى عندما التقيت بأنور جعفر فكأنما عثرت على ضالتى . ربما كان السبب الأهم هو أنه كان من الأصالة بحيث يدرك كم الزيف والضحالة عند اولئك الذين جرفوا الوسط الأدبى  فى اتجاه اللامعقول , وكل فنون الحداثة , حتى باتت الواقعية سبة لصاحبها . فارتبطت به وداومت على حضور صالونه الجمعة من كل أسبوع . وأعتقد أن أنور بدوره قد ارتاح لصفاتى الشخصية أكثر مما اقتنع بموهبتى الأدبية . فقربنى اليه , ولا أعرف أنه باح بمكنون صدره لأحد سواى . فتوثقت صداقتنا على مدار عشر سنوات , نما فيها الصالون كطفل يحبو ويشب , وتزايد ضيوفه بمن انضموا اليه حتى لم يعد يتسع لمزيد , كما ثقل عبء تقديم المشروبات على سيدة المنزل دون أن تبدى تبرما . ولا أذكر من الذى طرح فكرة عقد الصالون خارج المنزل . لكنها على أى حال لم تكن فكرة أنور جعفر .

      وفى الشتاء , أواخر عام 88 بدأنا نرتاد المقاهى لنعقد ندوتنا . لم يكن للندوة بعد اسم , ولم يكن لها خطة , كنا ننخرط فى مناقشة قضية أدبية , أو اصدار حديث , أو يطرح أحد الحاضرين أحدث أعماله فنتبادل فيه الاراء . ثم نفترق فى الهزيع الأخير من الليل , فأعود متثاقلا وقد امتلأ رأسى بعشرات الموضوعات . تلك كانت مدرستى . اذ أنفق الأسبوع بين الندوة والأخرى فى النبش على أرصفة النبى دانيال والمكتبات العامة والخاصة , أرجع الى أصول الموضوعات فأدرسها بنهم الجائع الى المعرفة . فهل استطعت أن أعوض ما فاتنى فى عشرين عاما بياتا شتويا اجباريا ؟ . لا أعتقد أنى أفلحت . كل ما أفلحت فيه هو ازالة بعض الصدأ أعاننى على المساهمة بالدور الذى قدر لى فى تأسيس ورعاية جماعة أصيل الأدبية .

      غادرنا أذن صالون أنور جعفر , لكن الصالون حافظ على تماسكه وانتظامه متنقلا بين مجموعة من المقاهى بدءا من ميامى , فسيدى بشر , فالمنشية , حتى انتهى بنا المطاف فى المقهى التجارية . كان يدفعنا الى الانتقال من مقهى الى سواه ضيق المساحة والصخب الذى يطغى على أصوات المتحدثين . وكان مقهى التجارية نموزجيا حيث وفر موقعه موردا ثريا للشباب من كل التوجهات والميول والمشارب . 
  
      صار للندوة سحرها الخاص , فكنا ننهى أعمال الندوة فننتقل للمتابعة بشكل أكثر تحررا فى البوابين أو نجمة ميامى بشارع اسكندر ابراهيم . وكان العمود الفقرى للندوة فى تلك الفترة هو أنور جعفر نفسه , بحضوره الفريد , وتلقائيته , وبساطته , وتواضعه الجم . بالاضافة الى ثقافته الموسوعية . وأزعم أن الكثيرين من المبتدئين قد تم صقلهم فى تلك الندوة . ونراهم الآن يملأون أرجاء الأسكندرية صخبا , يملكون آفاقا واسعة , وجرأة على عرض أفكارهم , انما اكتسبوها فى أصيل . وربما أن ما تفردت به الندوة انما يكمن فى احتضانها للجميع , واحتفائها بكل التوجهات . ولم يكن الهواه ليجدوا أدنى حرج فى عرض أعمالهم واجتهاداتهم فيجدوا الرعاية بلا مجاملة ولا استعلاء . وانى لأرى من حولى الكثيرين ممن أقبلوا 
على الندوة لديهم الموهبة ولا يملكون الجرأة . نهلوا وارتووا ثم انطلقوا مشرعين أجنحتهم فارتقوا , ونسوا أن يلتفتوا برؤسهم الى الوراء فيتذكروا أصيل .

استمر انعقاد الندوة على مقاهى الآسكندرية ما يربو على سنوات ثلاث , حتى قدر لها أن تستقر بشكل مؤقت كاستضافة فى النادى النوبى العام . تلك الاستضافة التى استغرقت عمر الندوة كله . ولهذا حديث آخر .

الخميس، 26 مايو 2011


    أصيل (2 - ? ) ... حجاج أدول                               

          أمسية من أمسيات صيف عام 86 الحارة , قادتنى قدماى الى قصر ثقافة الحرية ( قصر التذوق الآن ) قاصدا ندوة القصة بعد انقطاع دام عشرون عاما بدأت بالتحاقى بالكلية الحربية فى نهاية الستينيات , أنفقتها فى خدمة ميدانية شاقة فى ربوع وصحارى مصر , لم أنجز فيها شيئا ذا بال , ولم أحقق تطلعاتى نظرا لرومانسيتى الشديدة , فقد كنت أرى للحق وجها واحدا بينما كان له عديد من الأوجه .

        وجدتنى أرتقى مدخل قصر الثقافة , دخلت قاعة القصة القصيرة لأجد عبد الله هاشم يدير ندوة تقليدية . قادتنى المصادفة لأجلس الى جوار ِ( شاب ) أربعينى نوبى الملامح . سمرته المحببة ودماثته أزالتا الحواجز فتعارفنا سريعا بلا عوائق . قادنا الحديث حول شئون الأدب والكتابة الى المجاهرة بالضجر من الندوةالدائرة فانصرفنا قبل انتهائها واستكملنا الحديث سيرا فى النبى دانيال . كان ذلك الأربعينى الدمث هو حجاج أدول . زاملته منذ ذلك الحين  ما يقرب من عشر سنوات  . كنت أستطيع على الدوام أن أسمع مراجل الغضب تدوى فى صدره , كان قد أنفق تسع سنوات مجندا فى الجيش حارب فيها الاسرائيليين وأحرز مع رفاقه النصر وعاد ليجد فى انتظاره مقعدا خشبيا هالكا فى وزارة الزراعة ومرتبا هزيلا فانكفأ شأن النبلاء على موهبته ينحتها بدأب لم أر له مثيلا . كان حينئذ يعالج قصص مجموعته الأولى التى نشرها فيما بعد تحت اسم ( ليالى المسك العتيقة ) . بهرتنى قصة الرحيل الى ناس النهر أحدى قصص المجموعة , تمنيت وقتها لو سمى المجموعة باسمها . وقعت فى غرام بطلة القصة ( آشا آشرى ) , قطعت آشا نياط قلبى وهى تصرخ ملتاعة :     ( صيام يانسٌاى) ..  كان صيام وقتها غائبا بالغرق فى النهر فى رحلة العودة من الغرق الأول فى المدينة الشمالية , ولم يغفر حجاج للخزان أن كان السبب فى تغريبة صيام , ولوعة آشا .  كانت أزمة غرق النوبة والتهجير ماثلة فى كيانه منذ ذلك الوقت . حتى جرفته السياسة فتشعبت بنا الطرق ولم أعد أراه منذ عام 96 أثر رحيل أنور جعفر . كأنما كان أنور هو الخيط الذى يجمعنى بحجاج, رغم أن الأمر لم يكن كذلك , لكن هذا مابدا على أى حال .

      فى لقائى الأول بحجاج وقبل أن نفترق وعد بأن يصحبنى فى الأسبوع المقبل ليقدمنى الى شخص فريد . قال أننى سوف أعجب به . ,قال أيضا أنه بالتأكيد سوف يحتفى بى , وقد كان , أصطحبنى فى الأسبوع التالى الى صالون أنور جعفر لكى تبدأ الخطوة الأولى من رحلة الألف ميل المسماة ( أصيل )

الخميس، 19 مايو 2011

قال لى صديقى:                                    
ملم بالتاريخ والجغرافيا , قارىء للأدب وتاريخ الشعوب ,أعرف تاريخ الأديان ومعتقدات الشعوب , أفهم فى الفلك والفيزياء والأنثربولوجى , أتذوق الفنون والموسيقى , ملم بالنسبية والتحليل النفسى ونظرية التطور , أدرك مساهمات فلاسفة ومفكرى عصر النهضة والتنوير , وأدرك تفاصيل الثورات الكبرى فى التاريخ المعاصر , أدرك ويلات الحروب الكبرى على مر التاريخ , ألممت بأسباب قيام وانهيار الحضارات . 
ولا أفهم ما يجرى فى مصر . ولا أبصر مواقع أقدامى . وليس أمامى طريق واضح للخروج من الأزمة . هل نقلتنا ثورة 25 يناير الى حال أفضل , أم الى الأسوأ . هل نحن شعب جدير بأن يتولى أمر نفسه , أم نحن همج لا يصلح حالنا الا بحكومات غاشمة تدير أمورنا بالأساليب القمعية . 
فاذا كان هذا هو حالى , فما بال البسطاء الذين لا يدركون من أمور العالم الا وسائل جلب الرزق يوما بيوم لتوفير الحاجات الأساسية ؟
قلت لصديقى :
أنا مثلك تقلقنى الفوضى الضاربة أطنابها فى الشارع المصرى .وأكاد أحن الى الأمن المصنوع على شفا توازنات تمسك بخيوطها سلطة فاسدة .. لكنى أعى ابعاد الفترة المفصلية التى تعبرها مصر . مصر التى أهدرت العديد من الفرص المماثلة . وشأن الفترات المفصلية فى عمر الشعوب أنها عصية بطبيعتها على أن يحتويها فهم أو ادراك محيط . اذ هى تنقل الأمم عبر نقلات نوعية لا تخضع للحسابات والتحليلات . انها ليست كانصهار العناصر فى بوتقة , يمكن حساب نواتج تفاعلها , فالشعوب والجماعات البشرية أبعد ماتكون عن صفات العناصر المادية الجامدة . 
وأنا على استعداد لقبول المخاطرة . لا أخشى الكتل المتطاحنة فى الشارع المصرى . تيارات اسلامية فيما بينها من جانب , وفيما بينها متحالفة اذاء التيار  العلمانى . رأسمالية متوحشة مع طبقة عمالية مطحونة تتطلع الى حقوقها المهضومة فيما يسمى افتئاتا  بالمطالب الفئوية , سلطة تأمل فى بقاء الوضع كما هو عليه مع بعض الاصلاحات , مقابل برجوازية متطلعة الى تأصيل دولة القانون . شعب مسلم وشعب مسيحى يتبادلان كراهية أصيلة ذات جذور وتاريخ يغذيها كل طرف بتعصب أحمق جاهل .
لا ضير فى أن ينصهر المجتمع المصرى فى صراع حقيقى هذا أوانه . لست مستعدا لقبول فكرة بناء الدولة على الأكاذيب مجددا . والخاسر الوحيد هو من سيبقى متفرجا من خارج الأحداث . فعدم المشاركة يعنى البقاء خارج المعادلة . دعنا ننصهر لنخرج كما طائر الفينيق مجلوا متطهرا بالجحيم . ولا تخشى على مصر , فهى أمة ضاربة بجذورها فى عمق التاريخ . وتملك من عناصر البقاء مالا تملكه أى أمة مرت بتجارب مماثلة .
                                                                   محسن الطوخى

السبت، 7 مايو 2011


قراءة فى رواية                                                                     

رجل يجلس على المقهى . يشرب الشاى . ويدخن الشيشة . وينتظر فكره

لأحمد عبد الجبار

                                                                                                                             
أمتعتنى رواية الرجل الذى يجلس على المقهى, فقد حلقت بى من فكرة الى أخرى فوق رشاقة العبارات , وغرابة الصور الذهنية التى تذكرك بأعمال جارسيا .
الا أنها بنفس القدرقد أرهقتنى فى محاولة تكوين رؤية انطباعية عنها . ولما عدت الى المقدمة التى كتبها محمود الوردانى - وكنت مررت عليها دون أن أقرأها – فوجئت بأنه لم يشر الى الرواية  أدنى اشاره . فهدتنى الحيلة الى استخدام العبارة المقتبسة عن  ( أوفيد ) والتى صدر بها عبد الجبار روايته .
          ( اذا أردت أن تستمتع عيناك بالنور وأنت آمن ... فاتركنى أنشره لك على الأرض )
والنور هو المعرفة . فكأنما قصد عبد الجبار  أن يسلط بروايته نورا على المشهد العام الذى يعيشه مجتمع فقد البوصلة .
فنحن فى الرواية بازاء شخصية محورية نراها من خلال عينى وادراك صديق وندرك من السياق أنها شخصية مرفوضة  يتضح ذلك فى سخرية الأصدقاء , واهمال عمال المقاهى والحبيبة التى لم تؤمن بفكرته .
هو شخص آمن بلا مبررات بأنه انما اختير من قبل القدر للقيام بعبء جسيم وفريد . وهو استقبال الفكرة , أما الشروط التى وضعها لاستقبال فكرته , فهى شروط ماركيزية . وهى شروط تشكل عالم الرواية – شديد الخصوصية – اذ هى ملزمة للمتلقى . ويجب عليه أن يخضع لها تمام الخضوع طالما هو بين دفتى الرواية , ليتسنى له تلقى دفقة النور وهو آمن . فان قبل المتلقى هذه الشروط الصارمة عن رضى , فسوف تمنح له الرواية نفسها . والا فسوف يخرج خالى الوفاض .
والفكرة هى المحور الذى تدور حوله حياة الشخصية ( الفكرة كاسم للجنس ) . وتخبرنا الرواية مبدئيا أنه –الشخص المحورى – لم يخلص أبدا لشىء .. لكنه عندما ( حاول ) جديا أن يخلص للفكرة فالطريقة التى اتبعها يجب أن تكون غاية فى الغرابة . أن يجلس على المقهى يشرب شايا , ويدخن الشيشة , وينتظر . ومهما كانت درجة استقبالك لتلك الطريقة , فيجب عليك أن تتقبلها طبقا لشروط النص . واحدى طرق تقبلك لها أن تعتبرها بقعة من بقع النور التى فرشها عبد الجبار . اذ هى ترغمك على استحضار المفارقة بين شروط الحصول على فكرة . ( أن تسعى اليها , وتلتمس الأسباب , وتستعد بالهيئة المناسبة ) .. وبين عالم افتراضى يصنعه لك يسوغ أساليب لا يقبلها المنطق . اذ هو فعل عبثى يذكرك بفلادمير واسترابون اللذين جلسا يثرثران فى الستينيات فى انتظار جودو .
وقد كنت أظن أن جمود الشخصية وعدم تطورها يمثل أحد عيوب التطور الدرامى . الى أن نبهنى المدخل الذى سلكته عبر أوفيد الى أن انتظار الفكرة قد لحقه التطور بما يخدم دراما النص . ففيما بعد سوف يضاف الى طقوس الانتظار ضرورة أن تأتى الفكرة من خلفه , وتلمس كتفه , ثم تقول : أنا الفكرة . ثم فى تطور لاحق تنسحب الفكرة نفسها من المشهد وتهيمن تيمة الانتظار نفسها .
أما جمود الشخصية فهو بقعة أخرى من بقع النور يفرشها عبد الجبار ليعبر بها عن واقع راوح فى مكانه لعقود من الزمن بينما يفور سطحه بأفكار التطور والحداثة , وتصنع ثورة الاتصالات عالم مواز يسرع الخطى بينما الجسم الحقيقى يسقط فى فخ الجمود . وسواء قصد عبد الجبار ذلك أو لم يقصد , فأنا أؤمن بأن الرواية تكتب نفسها , وتعبر عن أغراضها بمعزل عن مقاصد الكاتب .
فاذا عدنا الى الرواية , فسوف نكتشف أن انتظار الفكرة هو المعادل للهروب من واقع شديد المرارة , الى واقع افتراضى مصنوع بعناية , تنتخب له القواعد المناسبة التى تحول الهزيمة والاخفاق – من خلال دور ذى قيمة -  الى نجاح . حيث انتظار الفكرة هو سلوك ينطوى على نوع من السمو . ويشبه الى حد ما انتظار الرسل للوحى . الأمر الذى يجعل الناس فى عز الحر والاختناق ينتبهون لثوان معدودة لحضوره الجميل , ويبتسمون فرحين لأسباب غامضة .
ثم هو فى الوقت نفسه يعتمد اسلوبا مناقضا لأساليب اصحاب الرسالات الذين يبادرون بالابلاغ . اذ هو يعتمد أسلوب المراوغة ازاء الآخرين فينكر فى عبثية انتظاره لأى فكرة , ولا يسمح لعالمه النفسى بتجاوز محيطه الداخلى الى الخارج . كأنما يتشرنق داخل فكرته . بل انه يجيب احيانا باعتداد ( ومن أنا ياصديقى حتى أحمل فكرة ) .
وعناصر الواقع المرير الذى تحياه الشخصية تحشدها الرواية من خلال السرد .
- فهو يعانى من صعوبات العيش حيث لا عمل له , وعندما يعثر على عمل لا تكفى القروش القليلة ضرورات الحياه .
- وهو لا يجد نفسه فى العمل الذى يمارسه بلا ابداع , فكل ماعليه أن يقف يراقب الماكينة , ينتظر المنتج وهو يخرج .
- وهو فاقد للثقة فى قدراته حتى ليخشى أن يكون ضعيفا جنسيا . والجنس هنا مرادف للفعل بشكل عام .
- وهو مولع بالسيدات المسنات السمينات ( وهو ولع مرضى ) له جذوره فى علم النفس التحليلى .

ولا تفوتنا الاشارة فى هذا المقام الى أن الشخصية لا اسم لها . وغياب الاسم ليس حيلة من حيل القص . وانما هو حالة . فالرواية تخبرنا بسمات هذا الاسم الذى نجهله . فهو غير مميز على الاطلاق . لا صفة , ولا سجع أو نغم أو مهنة أو اسم بلد . الى الجد السابع أسماء متشابهة مع كل الأسماء . فالواقع المرير لا يضغط عليه ماديا فقط . انما معنويا أيضا . فيهمشه , ويلغى فرديته ويدمجه فى مجموعة المهمشين الى سابع جد بلا أى وجود حقيقى مميز .

نظرة فى شكل الرواية .


لو تأملنا الشكل البنائى للرواية سوف نكتشف أن الفصل الأول – الذى لم يعطه عبد الجبار عنوانا – والفصل الأخير بعنوان ( المقهى مغلق ) يشكلان معا قصة قصيرة مكتملة الأركان . وفيما بين الفصلين يخوض المتلقى فى مجموعة من التفاصيل والتجارب المتنوعة , التى تلقى مزيدا من الضؤ على الشخصية , دون أن تسهم فى تطور الأحداث . لكنها تأخذنا فى رحلة ممتعة , عبارة عن تنويعات على الفكرة , وعلى تيمة الانتظار . وكلها بصوت الراوى غير المحايد . فهو يقدم الشخصية أو يحكى عنها بغير قليل من السخرية والنقد اللاذع . وخلال هذه الصفحات نلتقى بعالم عبد الجبار وعقله ورؤيته للحياة . فهو يتحدث بأسلوب رشيق عن العمل والحب ,والخوف , والمرض , والحاجة , والجنس , والأصدقاء , والغرور , والفشل , والصبر , والمراوغة , كما يتحدث عن رواد المقاهى , وطلبة الجامعات , وعاملات المحلات , وغير ذلك من التجارب المتنوعة .
فربما ابتدع عبد الجبار شكلا جديدا من اشكال القص . صنع من قصته القصيرة غلافا ضم بين دفتيه بوح نفسه , ومكنون صدره . أفكاره وتأملاته .  ومع تنوع الأفكار والموضوعات فقد حافظ على النسق العام ووحدة الموضوع . عدا فصل وحيد هو الفصل المسمى ( الأم ) , فهو الفصل الوحيد الخارج عن السياق .

وتنتهى أحداث الرواية بالذروة المتوقعة , أذ ينبذ الفكرة عندما تأتيه بالفعل أثناء سيره فى شارع صفيه زغلول وتقول له بوضوح أنها الفكرة . وحتى عندما تتوسل اليه وتقبض على راحته متشبثة بها , فانه يسحب يده ببساطة تاركا اياها تبكى مقهورة . وعندما تسأله ( ألست تنتظرنى ؟ ) يرد باستنكار شديد ( أنا ؟؟ ) . فلم يكن ساعتها على المقهى يشرب شايا ويدخن الشيشة .. قمة العبثية . لكنها العبثية المشروعة التى تنشر لك الضؤ لكى تستمتع عيناك به . لكنك هنا لست آمن .. لابد أن تستشعر الخطر .

                                                                              محسن الطوخى