‏إظهار الرسائل ذات التسميات ابداع. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ابداع. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 18 يوليو 2012






سوسن

قصة قصيرة

محسن الطوخى
.................

     كل ماقيل عن سوسن لم ينجح إلا فى دفعه إلى اعتراض سبيلها . حتى عنما ترك دراسة الطب وتحول إلى دراسة الآداب , أقنع نفسه بأن ذلك لم يكن بسبب سوسن ,  إنما لنفوره من مشهد الدم . ولما لمحها بردائها البسيط , وجدائل شعرها الفاحم فى أروقة الكلية , ظن أن الحصول عليها بات وشيكا . لكن التردد الجم خطواته . ليس فقط بسبب ما أشيع عنها , لكن لأنه بطبيعته كان ميالا للعزلة , عزوفا عن فتح قلبه للآخرين .
     فى اللقاء الأول , سقط فى عينين ليس لهما قرار . إبتسمت له ابتسامة , قدر أنها ليست ابتسامة عابرة . وعندما تناول يدها الصغيرة الماهرة , همست أناملها أنه سوف تجمعهما قصة من عدة فصول . إستردت يدها بلطف , فكأنما علق بيده شيء من ملمسها . حين استدارت ومضت , قالت هيئتها : أنا فتاة خطرة .. لا تقترب .
................
     لن تتخيل أبدا العوالم التى سوف تلجها , والناس الذين ستقابلهم مع سوسن . سوف تستدرجك بنعومة لترى مالم تكن تتوقعه . وعندما تحتويك , ويتسلل عبير شعرها الطازج إلى حواسك , ستفسر نظرات الناس التى طالما حرت فيها , وستدرك كل الأشياء المبهمة التى حلقت حولك فى أزمان سابقة . وكأن ألف عين تنبت لك , وألف أنف . وعندما تنال القبلة الأولى , لن تهنأ بالعيش بعدها , حيث أنك لن تستطيع أن تبتعد ولن تستطيع أن تقترب أكثر . ستحافظ بالكاد على مسافة الالتصاق .
.................
     - هل التقينا من قبل ؟
كانت هى بصوتها العذب التى ألقت السؤال .
ما برحت تلح على خياله منذ تفرقت بهما السبل  . تحركا بعفوية بعيدا عن تيار الحركة بالميدان الصاخب . لابد أن عينيه لمعتا ببريق الشغف وهو يقول : أنت سوسن .
لم يعد هناك مجال للتردد الذى أقصاه عنها طوال زمن الدراسة . كانت الابتسامة المشجعة تملأ صفحة وجهها .
...............
     فى كل مساء كانت سوسن تصحبه إلى عالمها , ومعارفها الكثيرين . بدا عالم غير حقيقى ,  كتلك العوالم التى تقبع فى بطون الكتب . لمح فى زاويتى عينيها اعجابا , ماكانت لتسمح بأن يبدو صريحا . وشيئا فشيئا فقد الزمن خواصه . تداخلت الأزمنة التى لم يكن فيها لسوسن وجود بتلك التى عرفها فيها . ثم تعلم كيف يغار على سوسن , وكيف يشتبك فى عراك , ويلهث فى سبيل الفوز ببريق الإعجاب . ثم بدأت الأشياء تبدو كما لو كانت تتجلى للمرة الأولى . وعندما قدر أن أعمارا كثيرة مثل عمره لن تكون كافية لالقاء النظرة الأولى على كل تلك الأشياء المتجددة , بدأ يفكر فى سوسن  بأسى , اذ لن يكون من السهل  - بعد - أن يكون لصيقا بها , فسوسن لن تمنحك الفرصة أبدا لأن تنظر بعيدا .
     لم تكن لحسن الحظ من أولئك النساء اللائى يفْرِطْن فى التمسك بحب قضى . وكانت على درجة من الفهم بحيث لم يكن من السهل جرح مشاعرها .
قيل أنها دائما ماكانت تجد السلوى فى حب جديد . بل قيل أيضا أن الرغبة التى تدفع  الرجال لهجرها , ماهى فى الحقيقة الا رغبة سوسن نفسها .





كونترالتو                                                         قصة قصيرة : 
محسن الطوخى
..........
إحتجت لدقائق كى ألتقط أنفاسى , لم يعد من السهل ارتقاء خمسة طوابق , للكهولة أحكام لا يمكن تجاهلها , أحدث الباب الخشبى صريراً ورأيت رأفت يغيب بين ذراعى الشيخ , وقفت متردداً حتى حان دورى فقَبضَ على كفى بحميمية أزالت الوحشة واحتوتنى طيبته وسماحته , قادنا بقامته نصف المحنية إلى الغرفة الوحيدة عبر الردهة المعتمة التى راقبتنا من أركانها ستة عيون طفولية لا أثر فيها للدهشة . إعتلى الشيخُ فراشاً فقيراً منخفضا يتصدرُ المكان ويشغل معظم فراغ الغرفة فى حين اتخذتُ ورأفت مجلسينا , انشغلتُ بتأمل الحوائط الغفل من الطلاء , والأثاث المتهالك , والشيخ نفسه بردائه المنزلى البسيط . عندما دعانى رأفت إلى مرافقته للقاء الشيخ تصورت رجلاً معمماً , لم أفطن إلى أن الشيخَ لقباً لا مهنة , إنتبهت إلى دعاء حينما وجه إليها الشيخُ دعابة على سبيل التعريف , كانت مكومة على نفسها فى الركن القصى للفوتيه , ضئيلة , منشغلة بتأمل أظافرها , تبادلنا كلماتَ مجاملةٍ ثم توارت عندما اشتبكتُ مع الشيخ فى جدل حول الأحداث الجارية . قاطعنا رأفت : هل اجتمعنا لنفسد الأمسية بالجدل السياسى ؟ , نظر الشيخ الى الفتاة وهمس : لتخرجنا دعاء من هذا الهم . , تمنعتْ قليلاً ثم لانت وشبح ابتسامة باهتة حيية يطوف بشفتيها , أشار إلىَّ الشيخ : هلا ناولتنى العود ؟ . إنتبهت إلى أنى كنت أتكىءُ عليه ظناً منى أنه امتدادٌ لمسند الفوتيه المتهالك , تناوله بابتسامة واسعة وفض عنه غلافاً قماشيا بلون الفوتيه , إعتدلت دعاء , إحتضن الرجل استدارة العود كأنما يحنو على حبيبةٍ , أقامت دعاء ظهرها , جرت أصابعُ الشيخِ بضرباتٍ عشوائية على الأوتار يضبط المقامات , وبنظرة خاطفة , وإيمائةٍ من الفتاة كأنما اتفقا على المقطوعة , إنساب اللحن بينما أغفى الرجل مغمضاً عينيه منفصلا عن المكان , لم أنتبه لدعاء , ولم أتوقع أكثر من المتعةِ التى سرت فى خاطرى على وقع ضربات الريشة الرشيقة بين أصابع العواد , عبقت الغرفة بغتة بزخمٍ شجىْ ألغى ثقل جسدى فخلصْتُ لثوانٍ من المقعد الضيق , وتحَررَتْ ركبتىَ المغروستان فى الحافة  الموزايكو  للمنضدة العتيقة التى صفت فوقها أكواب الشراب , ثم عاد كل شىء كما كان , لم أفطن لما حدث إلا عندما عادت دعاء تصاحب اللحن بترنيمات تمهيدية تُجاوبُ بها الإيقاع . أشاعتْ طبقة الكونترالتو العميقة الدافئة موجة من السحر غمرت المكان وراحت تنحسر على مهل من خلال مسام الروح , كأنها إنما كانت تؤهلنى للسباحة عبر الأثير حالما انسابت دعاء تشدو .. ( إن كنت ناسى .. أفكرك ) .. كانت دعاء حينذاك تشغل فراغ الغرفة , وكنت أرى رأفت والشيخ , ودعاء نفسها من مكان قصى خارج الزمن , إستعدت اللحن مرارا , تألقت دعاء وسَطَا وهجُها على المكان , وعندما تأهبتُ للمغادرةِ لم أكن أرى إلا بسمتها الصبوحة وجدائلها السرخسية , وألق عينيها , لم يكن لشىء سواها مكان فى مجال البصر .
................
الأسكندرية 
8/6/2012

الأحد، 11 مارس 2012

قصة قصيرة


 لقــــــــــــاء

  قصة قصيرة
  محسن الطوخى
...................

طيف من الماضى بزغ بغتة فوق سطح الذاكرة . الوجه جد مختلف, والصوت. النظرة المثابرة فقط تحمل مذاق الأيام البعيدة .  لابد انها كانت تطل من عينيه منذ البداية , منذ قدم نفسه بوجه مبتسم , لا علاقة له بوجه ذلك الصبى الوسيم الحيى , وقال : لن تتعرف على بسهولة .
لم يكن ثمة مكان فى ذاكرتى للوجه الباسم , والشعر الناعم رغم بدايات الشيب . أعرف أن على أن أجرد الوجه من تفاصيل السنين . أرفع تلك التجعيدة من تحت العينين , وأزيل الثنيات من زاويتي الفم , وأستر مقدمة الرأس ببعض الشعر . ابتسم وقال :
-        قطار أبى قير .
لعلها كانت حين نطقها تطل بنزق  , وربما زمت شفتيها بغضب . أعلم الآن أنها كانت طول الوقت هناك , تتعلق بالأهداب . ولما نطقها ضاقت الفجوة , وهو هناك على مسافة أشبار من وجهى , يستمتع بامارات الحيرة . وقطار أبى قير يرتع فى ذاكرتى , فيلملم كل فتافيت الحكايات . بدايات الصبا , العشق والهجر . لكن أى من أولئك الذين احتواهم العمر فى الزمن الغض لم يكن ليطابق الوجه المدور الوسيم وهو يدنو ويحفزنى . وهى , ماجرؤت على الظهور لتهبنى اشارة . مراوغة كعهدى بها وأنا أسطر اليها أشعار جبران , وأدبج لها من أشعارى الساذجة قصائد من مئات الأبيات . أجفف الأزهار وأدسها بين رسائلى . وهى تميل على كتفى فى مماشى المنتزه الخالية وتغنى لى ( بعيد عنك حياتى عذاب ) , فأصدقها . وفى الصباح تقبل الى محطة القطار وذراعها فى ذراعه.(عباس) فتى حيى , رصين , كهل فى الخامسة عشر . حين يحتدم الشجار بين فرق المدارس , أقذف اليه بحقيبتى , وأدخل المعمعة , أبحث عن كدمة فى الرأس , أو خدش يعلن أنى لم أتخلف عن العراك . وأعود , فيقدم لى الحقيبة ولا يقول شيئا . يرمقنى فقط بنفس الاعجاب الذى نرمق به الكبار وهم يتخاطفون البنات الأجمل . أضع ذراعى فى ذراعه , وأحيط خصرها بذراعى الحر , فتقول : أصر على مرافقتى الى المحطة . وتشير اليه بطرف ذقنها . فأضحك : ملاكك الحارس . تضحك بنزق وتداعب خصلة الشعر الناعمة التى تتهدل فوق جبينه , فلا يتكلم , يبتسم فقد بحياء صبية , وينظر مباشرة فى عينى بنفس الاعجاب الذى يتطلع به اليها , ولا يتركنا بقية اليوم . فقط عندما نتخاصر ونوغل فى أحراش البرتقال , يجلس بسكينة الى جوار حقائب الكراسات . وفى موعد انتهاء اليوم الدراسى يقول لى : سأرافقها الى بوالينو .
قطار أبى قير .. هذا العالم الزاخر .. أين أجدك فيه ؟ .. وأنت بالذات , استدارت الأنا ومحتك محوا , وأسقطتك حيث ترقد الأشياء الميتة .
ابتسم كالمحرض وقال : شارع بوالينو .
وانبثقت ليلى كالنور , تقفز وتصفق بسرور مثلما فعلت فى ذلك اليوم البعيد . فوق جزيرة نلسن , النوارس تحلق وتنقض ولا ظل حتى لرضيع . انطلقت تصفق بحبور , كأن العالم كور فى قبضة واستقر فى كفيها .. شارع بوالينو ..بالساعات قبالة الشباك المغلق , أثر وشاية . أعرف أنها هناك , وأنها ترانى من خلف الشيش . وأعرف أنك هناك فى مكان ما , أشعر بك ولا أراك .
هل بدا كل ذلك فى عينى عندما انفرجتا على اتساعهما وهتف لسانى قبل أن أدركه : ( عباس ) .. وابتسمت أنت بظفر . ولم أعثر فيك على الصبى الوسيم الحيى . لكنى رأيتها تطل من عينيك بنزقها القديم ... ( عباس ) .. وعدت أقف على عتبة الحياة التى خلفتها ورائى من ربع قرن . القميص ( لينو الشوربجى ) على اللحم فى برد يناير , وقطار أبى قير يلفظ ما بجوفه من صبية وصبايا , تلتقطها عيناى وسط الزحام , ننتحى جانبا , ونفترق على موعد , وتنادى قبل أن تمضى : ( عباس ) , فتناولها أنت الحقيبة , وأدس ذراعى فى ذراعك , وأنظر فى عينيك الجميلتين , وصمتك الغامض .
وعندما قلت ( شارع بوالينو ) .. وهتف لسانى ( عباس ) ..سمعت فى أذنى غطيط القطارات , وصخب البيع والشراء , والشباك المغلق , وجزيرة نلسن , وأحراش البرتقال , وهاهى ليلى تطل من عينيك , تصفق بمرح . ولما تناثرت فى المكان نتف الذكريات , شددت على يدى وابتعدت , وسؤال حائر يحوم ويحوم , دون أن يطرح نفسه .

                                                                                                            محسن الطوخى


                -------------------------------------------

الثلاثاء، 21 يونيو 2011


باكورة انجازات الثورة
                                                                                 قصة قصيرة ... محسن الطوخى
.......................                                                

وحياة ربنا لو نزلت المظاهرة مانا قاعدالك فى البيت .
كان هذا البيان الذى أعلنته سوسن بمثابة انذار . ومن يعرف سوسن لا يستخف بانذاراتها . تراقب تحركاتى على الفيس بوك بقليل من الاهتمام . وتشارك أحيانا ببعض التعليقات . لكنها عندما علمت بعزمى على المشاركة , اتخذت موقفا هجوميا لم أتوقعه .
عندما عدت بعد غروب الخامس والعشرين , كنت أرتب فى ذهنى مجموعة الأكاذيب التى أعددتها . بمجرد أن وقعت عيناها على قلت مثيرا دهشتها : خمنى , قابلت مين النهارده فى المظاهرة !
لطمت صدرها وهتفت : يامصيبتى ... نزلت برضه ؟
وضعت سبابتى على فمها : قابلت مين ؟ حزرى ..
ولما لم تجب الا باتساع عينيها قلت : فارس بيه .
خمدت ثورتها , بينما اتسعت الدهشة فى عينيها . رددت كالمأخوذة : فارس بيه ..!  ... ليه ؟
( التقيت به صدفة .. عرفته من ظهره بقامته المديدة , وقوامه النحيف  , والشعرات المشوبة بالبياض على فوديه .. اقتربت منه مدافعا الأجساد , حتى تحققت من شخصيته .. ثم حاولت لفت نظره عندما بدأت الجموع تزحف به بعيدا .. هتفت باسمه .. لكنه ذاب فى الزحام ... )
هتفت سوسن مرة أخرى : فارس بيه ! ...  ليه ؟
قلت : ياحبيبتى , مش كل حاجه فى الدنيا أكل وشرب .
قالت وكأنها تخاطب نفسها : ده راجل مش ناقصه حاجه ... فيلا , وعربيه ... وثلاث كلاب .

.....................

فى اليوم الثامن والعشرين , وسط الجموع الغاضبة , انشغلت بالعثور على فارس بك كأننى صدقت نفسى . تغير موقف سوسن الى النقيض عنما أكدت لها أن فارس بك بشحمه ولحمه قاد مظاهرة اليوم فى المنشية . رددت بينها وبين نفسها : الظاهر بقى الحكايه جد .

...................


عنما أخبرت سوسن فى السنة السابعة لخطبتنا أن فارس بك وعد بتعيينى حارسا لفيلته فى الكنج حال انتهاء فترة تجنيدى , قبلتنى فجعلت من فرجه للمارة . ثم لما أفاقت , ارتبكت , لكنها سألت فى دهشة : مين فارس بيه ده .
وقبل أن أجيب هتفت بحسم : بكره تروح لابويا .
ثم نست الناس الذين كانوا لا يزالون يرمقوننا , وسحبتنى فأجلستنى على السور : قول .. مين فارس بيه .

...................
فى الحادى عشر من فبراير , عنما عدت من رأس التين فى وقت متأخر , مبتهجا , مهتاجا , سألتنى : فارس بيه كان هناك ؟
ولما أكدت لها , وعرضت عليها صورة على الموبايل للجموع لا يظهر فيها أى شخص بوضوح , وأشرت الى نقطة , صرخت : ينصر دينك يافارس بيه .

...................

منحتنى سوسن تلك الليلة ترضية . أعتبرتها باكورة انجازات الثورة .

الجمعة، 17 يونيو 2011


    جليد
................                                             قصة قصيرة ... محسن الطوخى        
                                                                          ..........................


     يربت ظهرها بحنو . تضغط بأسنانها حتى تدمى شفتيها . تود لو تزيح كفه بعيدا , لكنها لاتفعل . تظل راقدة مسلوبة الروح .
- استريحى وسوف نعاود المحاولة .                                                  
تتشمم نبرات صوته . عميقا حانيا . لا أثر لتبرم أو ادانة . كابوس واحد مقطوع بلحظات افاقة . كابوس مستمر بطول عمرها كله . مقدور لها أن يحملها الى القبر . لم يعد ثمة معنى لثوراتها الطفولية النزقة . لو تستطيع أن تكسر شوكة عنادها . خانتها شجاعتها فعجزت عن الاتيان بحركة . مجرد حركة بسيطة فى الفراش . لو تستطيع تلك اليد الميتة أن تتسلل اليه , تتناول السيجارة التى أشعلها , تدسها فى المطفئة , تضمه اليها وتنظر فى عينيه , تبادله نظرة فهم وعرفان
....................

     أدركت أن البيت يستعد لحدث ما . الهمس المتبادل بين الأب والأم , وظهور أم باتعة تفوح من ثيابها رائحة الشيح . ثم نظرات أمها المبهمة اليها , كأنها تقيسها بالأشبار . استسلمت لأنامل النساء من الأقارب والجيران تداعب قمة رأسها , وتلامس صفحة وجهها , وتربت ظهرها . كأنهن اكتشفنها بينهن فجأة . غمرها احساس بحضور جديد . انطلقت تضحك من قلبها , وتلهو , دون أن تعنى بتقصى الأسباب .

....................

      توقفت كفه واستراحت فوق ظهرها . صورة الزفاف معلقة فى صدر الحائط المواجه . لا يظهر منها فى الضوء الوردى الباهت الا تكويناتها الرئيسية , لكنها تراها بوضوح , وتعرف معنى تلك النظرة فى عينيه . الفوز , واللهفة , والترقب . والنظرة فى عينيها مطمئنة , ممزوجة بكبرياء وثقة . ثم أتت سريعا الليالى الكئيبة الموحشة . لم تفلت منه أبدا كلمة تخدش مشاعرها أو تغفل أنوثتها . لكن كل ما كان يتخلق فى قاع عينيه عميقا ساكنا , كانت قادرة على فك شفرته . مرات عديدة هبت ثائرة كنمرة , وأساءت اليه .
- أنت عديم الهمة .. العيب فيك .
يضمها الى صدره فتستكين وتجهش بالبكاء . ثم بكثير من الصبر يدلك فروة رأسها حتى تهدأ , وتتبدد الغيوم .

....................

     محاصرة فى ركن الغرفة . زغرودة تشق طريقها منطلقة من حلق أمها بين ضجيج النسوة , وصخب العيال . ( أم باتعة ) تشمر عن ساعديها . ترفع الأساور الفضية تخنق بها ساعدها اللحيم , فتكف عن الصلصلة . ظلت تبحلق طول الوقت فى الأساور المغروسة فى لحم الساعد كأفاع لن تلابث أن تنتفض . يكاد قلبها يسقط فى قدميها , لولا الفرحة التى تطل من العيون , وزغاريد الأم . و ( أم باتعة ) كالغول , ملأت حيز الرؤية . لم تعد تر الا رداءها الأسود يصبغ كل المرئيات .

...................

     استيقظت أصابعه , فعادت تتلمس طريقها صعودا فوق فقرات الظهر . حلقات الدخان من بقايا اللفافة تصنع شريطا , سرعان مايتبدد فى فضاء الغرفة . لازال رونقها كأنها عروس الأمس . وهو نفس الرجل الذى أحبت . يثور لذرة ملح زائدة فى الطعام . لكنه فى الفراش , عندما يبرز الغول , ويلقى فوق دمائها بسطل من الماء البارد . يعود طفلا يلهو بفرشاة . يسمو فوق نزقها وحيرتها 
.
....................

     حلقة الأجساد, والأيدى القوية ككلابات , تلصق الظهر بالأريكة . الأصابع الغليظة تكشف العورة , وتباعد بين الفخذين . تتحرك الأساور الفضية نزولا , فتسكب نارا . ترتفع , فتلقى مزيدا من شواظ النار . يخور الصوت , وتخور الساق , ويخور الساعد , وترتخى الكلابات . ولا يبقى الا النار , ورائحة الكحول , وتغيب الوجوه فى الضباب .
....................


     يقتلها الفزع من كلمة لم تبرح شفتاه , لا تدرى متى يقولها , يمزق بها غلالة الكبرياء . تجوس أصابعه تصنع ايقاعات لم يأت بها ساحر , تتشربها كل خلية من خلاياها . روح جارفة تشملها من كل الأنحاء , فتحلق لثوان حول تخوم الدهشة . تشرق عيناه للحظة , ثم تعتم من جديد بازاء النظرة الجامدة النزقة .  لو تستطيع
تلك اليد الميتة ان تمتد اليه , تضمه اليها , وتنظر فى عينيه و تبادله نظرة فهم وعرفان .. ويذوب الجليد ..
لو تستطيع .

الخميس، 16 يونيو 2011


  لون الحناء                                                       
..........                                                                                     قصة قصيرة .. محسن الطوخى  

( حبروك ) .. صديق ابنتى .. عندما حكت لى عنه لأول مرة , ضحكت حتى دمعت عيناى , لم أتصور أن الأسم حقيقى .
فى دار الحضانة قالت المربية الشابة وهى تضحك :                           
- لدينا أكثر من طفل يدعى ( أحمد ) .. نميزهم بالألقاب .
ابتسمت وأنا أطلب عنوان ( حبروك ) , علقت على نظرة , نصفها مكر , ونصفها دهشة . كان النطاق الأبيض العريض يضيق على الخصر, فى توافق تام مع دم الغزال المنسدل حتى الركبتين .
قلت : زوجتى تنتظر فى الخارج .
توارى المكر خجلا , قالت : تعال لتقابل القبطان .
قادتنى الى غرفة المدير
قال العجوز : لم أترك البحر بارادتى .
ولما تساءلت نظرتى قال : الربو ...  وضحك .
مال يشعل غليونه . كان الطفل قد دخل , وقف على بعد ذراع صامتا , تلامسرأسه المتوهجة بلون الحناء – بالكاد – حافة المكتب , كان ينظر الى مرة , والى القبطان مرة , بينما تدفقت فى المكان رائحة الطباق . حرك لون الحناء شيئا دافئا بجوار القلب .
قال الطفل : هى تعثرت على الدرج .. لم أدفعها .
قلت : أعرف هى لم تتهمك .
ثبت نظرته على ولم ينطق .
قلت : ماذا تظننى أحضرت لك ؟
قال وهو يتملص من بين ركبتى : ربما طائر البطريق .
ابتسمت .. كنت أعرف خيال ابنتى , وأحفظ عن ظهر قلب , كراسات صورها الملونة .
..........
كوب شاى دافىء , فوق المنضدة أشياء صغيرة , لفافة حلوى مأخوذ منها قضمة , حبات فيشار متناثرة , وشاح زوجتى الأزرق , مزق من ضؤ الشمس . قبالتى تجلس زوجتى , ترقب من تحت النظارة الشمسية لهو الطفلين بين مربعات الزهور . أتذكر كيف تلون وجه القبطان وأنا أطلب عنوان ( حبروك ) . لمعت فى عينيه ابتسامة , نصفها مكر , ونصفها ريبة . تلاشى المكر فى صفاقة وأنا أذكر له الأسباب . كان يجد الوسيلة ليحدثنى عن البحر , قال لى أن البحر ليست به عناوين . ولما ذكرت شيئا عن خطوط الطول وخطوط العرض , قال أنه يعنى الأعماق , حيث عيون الأسماك ليست لها جفون .

     أعرف نظراتك تلك ...من تحت النظارة الشمسية .. منذ خرجت اليك ... أسعل من رائحة الغليون ... وكأنك عرافة جبل الأوليمب .

هل تقدر أن تخفى كيف يحرك فيك الأشواق لون الحناء ؟ كلمات ما من أغنية حملتها اليك رسالة شوق وأنت غريب مبعد .. جانب من وجه يكسوه الظل , يحمل نفس القسمات .. شامة تعلو الصدغ الأيمن باستحياء .. كذلك لون الحناء , يبعث فيك الرعدة .

      تلك الليلة .. لن تنساها أبدا .. هل تقدر حقا أن تنسى تلك الليلة ؟ .. تأتى ( ليلى ) دامعة .. كنت غريرا أذ تتقاعس .. ماذا تجدى الآن كل كنوز العالم ؟ .. مغرورا كنت بكلمات جوفاء .. وليلى , كانت تستجدى من عينيك القوة .. يقدر ضعف الأنثى أن يفعل مالا تفعله فصيلة جند لو تمنحه القوة .. كيف تركت الحناء ذاك اليوم لا لتعود .. ويأتى الآخر .. يخطف منك الماضى , والزمن الآتى .

قال القبطان : فى البحر تتلقى الانذار , قبل مجىء الأنواء .
تتساءل عيناى فيقول : من لون الماء .
أضحك فيقول : قبل هبوب الريح يتغير لون الماء .. حين يدور الماء ويدور , تتكون عين الاعصار .. هل تعرف عين الاعصار ؟
..........
قالت زوجتى محتدة : ماذا تعنى ؟ .. أنت تطلب عنوانا .. لا أكثر من عنوان .
وافقت أنا على الانتظار , استدارت , عبرت نهر الشارع , توارت خلف الباب الشاهق . ( قبل هبوب الريح ... يتغير لون الماء ) ..

قالت طفلتنا : يوم الجمعة , حين نذهب فى نزهة , يأتى ( حبروك ) معنا .. راقتنى الفكرة .. راقتك الفكرة أيضا . وحين هبطت السلم عائدة , وعبرت الشارع مقتربة . لمحت الريبة فى عينيك .. من أين لى أن أعلم , لون الشعر , والشامة فوق الصدغ ؟ .

قالت والبشر يزاحم فى عينيها الريبة : هاك العنوان .
متشابهة كل الطرقات , راحت تتلو من قصاصة , اسم الشارع , رقم البيت , حرت كثيرا كى أتجنب كل الطرق الممنوعة . وأخيرا نحن أمام البيت المطلوب . أوقفت العربة . لم أفتح بابى . لم أعبر عرض الشارع ليغيبنى المدخل وأعود بعد دقائق بتالمطلوب . قالت وبريق الريبة يتكاثف : سأذهب . لن يتعدى الأمر دقائق . أومأت موافقا . رحت أفتش عن قرص الشمس , خلف ركامات السحب الفضية , وأعرض صفحة وجهى الساخن لرزاز المطر المتساقط .
    
          ( كان السيد يتأهب . وصوت البوق يولول فى الغابة . والذئبة
           الحمراء , أقعت حائرة . أى طريق تسلك . وعلى الربوة ( ناتاشا)
           لا تفهم شيئا . من صوت البوق , كان السيد يعرف ما يجرى فى 
           الغابة .............. )

عادت لتداعب طفلتنا وتقول : تحيا السيدة فى قصر .
قلت : فلنضرب صفحا عن تلك النزهة .
لمعت فى عينيها الريبة . قلت نظرتها ( تهرب من شىء ما ) . لزمت الصمت .
قالت : فى الغد .. نمر لنأخذ ( حبروك ) معنا .
لم أجرؤ أن أسأل , هل شعر الأم بلون الحناء ؟ .. هل تعلو الصدغ الأيمن شامة ترقد باستحياْ ؟
( حبروك ) ذو السنوات الخمس الغضة , يعرف نقطة ضعفى . يأتى , يعبث بالحناء المشتعلة فوق الجبهة ويقول : فى المرة القادمة .. هل تترك أمى تأتى معنا ؟

أنت ذهبت .. وأنت أتيت ب (حبروك ) .. وأنا مزروع تحت الظل الوارف .. وشظايا البقع الشمسية , تتراقص فوق لفافة حلوي مأخوذ منها القضمة .. وحبات فيشار .. ووشاح أزرق .. وأحدق فى عين الاعصار , تحت النظارة الشمسية .

.............

تسكب بسمة , وتقبل خد الطفل وتقول : أجل .. سندعو ماما لتلهو معنا .. يتهلل وجه الطفل . 


الخميس، 9 يونيو 2011


قفص الطيور                                 قصة قصيرة   \   محسن الطوخى
..............                                  ...........           

     يتصدر المجلس والسيجارة فى ركن فمه . البيجاما المقلمة تحت المعطف الداكن .. الطاقية الصوف ..وجهه الهضيم يكتسى بعلامات الجد وهو يحدق فى أوراق اللعب :
- العب يامحترم ..لن ننتظرك حتى الفجر .
تتطلع اليه العيون متحفزة , تتساقط أوراق اللعب فوق المائدة الخشبية , يفرقع بالكارت منتشيا : آس سبيد .
يلملم الأوراق ويدسها أمامه مكشرا عن أنيابه فى مرح , يداعبه فؤاد ذو الشارب الزغبى :
- خسارة مواهبك تهدر فى هذا التيه .
يصيح بصوت أجش : قل للغجر .
يتفجر الضحك من حناجر تتوق للملحة .  يتابع فؤاد :
-لا يعرف قدرك سواى .
- ذلك أن الطيور على أشكالها تقع .
تتقافز عيناه فوق الوجوه وهو يتمتم متفكها : كلكم أولادى .
يلتقط الورق فيتأهبون لمعاودة اللعب , تكتسى الوجوه للحظة بجد حقيقى . رمى فؤاد الورق من يده .
- مللنا اللعب ... أرنا نياشينك .
توقف .. تفرس فى العيون بسرعة منتهيا بعينى فؤاد :
- النياشين لا يحصل عليها الا الحمقى من أمثالك .
لم يكن من الضرورى أن يكون ما يقوله مضحكا ليضج الآخرون بالضحك .
- لقد شاهدتموها عشرات المرات .
- أنسيت أن بيننا وجها جديدا ؟
كانا يقصدوننى .. اتجهت صوبى عشر عيون .
- أعرف ما تقولونه عنى فى خلوتكم ياأولاد الأبالسة .
     أعتدل وهو يضحك بطيبة . كنت ألتقى به للمرة الأولى , رغم أنى أعرفه منذ زمن بعيد , اذ يعرفه القاصى والدانى من أبناء المهنة . أتاحت لى وظيفتى كمفتش أن أتجول فى العديد من الوحدات العسكرية  , وأن ألتقى بأشخاص كثيرين يجدون الدافع لكى يرفهوا عنى , ويجعلوا اقامتى فى كثير من الأماكن الموحشة طبيعية الى أقصى حد ممكن , فتوفرت لى أمسيات طيبة , مليئة بالحكايات والنوادر . ونادرا ما ضمتنى أمسية دون أن يأتى ذكر السيد الضارب .                        صباح اليوم عنما ولجت بوابة المعسكر موفدا لبضعة أيام أشرف فيها على مستوى الرماية , كنت أتوق فى المقام الأول الى الالتقاء به , أول مااعترانى حينما أشاروا اليه , وتقدم فعانقنى , كانت الدهشة . كنت قد كونت صورة لشخص مفتول العضلات , بارز الصدر , مفرط فى ضخامته . تصورت بعين الخيال شاربا كثا متهدلا , وفما ساخرا , ونظرة ثاقبة . عندم احتضننى ببساطة أحتويته بذراعى فغاص بحجمه الضئيل فى صدرى , تطلعت الى وجهه الناحل ورأسه الصغير الأصلع , واحتوتنى نظرته الطيبة فذابت دهشتى فى غمرة الاحساس بالارتياح . تطوع فقادنى الى الاستراحة التى خصصت لى و قال وهو يجرب الصنبور الجاف  
- عسى ألا تفجع فينا .. لقد حاولنا أن نجهز لك مكانا يليق .  قلت متوددا : انهما ليلتين لا غير .
قال : ستأتى عربة الماء فلا تحمل هما .. تستطيع ان أردت أن تشاركنى الصومعة .. لكنك لن تجدها أفضل حالا.

..........

     لم تكن هناك مبالغة فى اطلاق اسم الصومعة على استراحة الضارب . الدرجات الحجرية التسع التى تهبطها . والباب الخشبى الضيق . والشكل البيضاوى . والقضبان الحديدية لأغطية الرأس التى تحمل سقف الملجأ الميدانى . وحتى الوجه الشاحب الضامر الذى ينظر اليك ببساطة . قال وهو يعتدل بجسده , قابضا بأصابعه على أوراق اللعب :
- أعرف ماذا يقولون عنلى فى  ادارتكم الرديئة .
نظرت اليه مستفهما ,
- يقولون أن لدى أرباعا ثلاثة ضاربة .
ضحكت قائلا : انهم لا يعرفونك جيدا .
قال بجدية : صدقت .. هذا دليل على فراستك .. فلو أنهم يعرفوننى جيدا لأدركوا أن الأربعة جميعهم  ( ضاربين ) .
     دوت عاصفة من الضحك ارتجت لها الجدران . القى بأوراق اللعب ونهض فساد الصمت . صمت مفتعل مشحون بالبهجة الخالصة , لا علاقة بينه وبين العالم الآخر الذى يقبع مكفهرا مقبضا فوق الصومعة .
     خطا خطوتين وأزاح ستارا واختفى وراءه , ثم لم يلبث أن أقبل يحمل بين يديه حقيبة ذات كسوة مخملية خضراء . اكتشفت من وجوه الر فاق أن علامات الجد التى تكسو وجه الضارب حقيقية , قال : بعدها ستنصرفون .
      استوى جالسا ورفع الغطاء , كانت هناك عوضا عن النياشين والأنواط , مجموعة من الشظايا المعدنية متفاوتة الأحجام والأشكال . احتلت الحواف قطع دقيقة فى حجم المصات , تلتها مجموعة من أحجام أكبر , أما كبراهن فقد استوت فى مركز المساحة الخضراء , شظية فى حجم عصفور الكناريا , سوداء مستدقة الأطراف , مكسوه بالنتؤات , كأنها حيوان بحرى صغير . أشار أحدهم الى الشظيات الحمصية قائلا : تلك هى العصافير .
رد فؤاد موضحا : العصافير .. هى تلك الطيور الدقيقة الرقيقة التى استخرجت من جسد الضارب نفسه .
قال ثالث وهو يتحسس بأصابعه مجموعة أخرى : أما تلك الحدآت .. فمن أجساد أخرى .
قال الضارب : تعرفون القواعد .
علق أحدهم : عليكم أن تختاروا واحدة .
أردف الضارب : بعدها ستنصرفون .
قال فؤاد : سيحظى ضيفنا بشرف الاختيار .
اتجهت العيون الى متسائلة ومحفزة . قفزت الى الكلمات الى لسانى قبل أن أعقله -  سأختار العنقاء . 
انفجر الضارب مقهقها فى سعادة حقيقية , وهو يلكم صدرى : أحسنت .
عقب فؤاد قائلا : تلك القطعة تخص المتهور .
     ساد الصمت وبدأ الضارب يروى .. تقلصت أمعائى وهو يصور كيف توقف القصف للحظة وساد الهدؤ , وقفز المتهور – هكذا أسماه – خارج حفرته ينفض الغبار عن وجهه وشعره , فى نفس اللحظة – هكذا أضاف – صفرت دانة .. رأيتها مقبلة .. كما أعرف أن المتهور رآها .. ليس من الأمور المتيسرة لكل شخص رؤية دانة مقبلة .. هذا شىء تتعلمه فى الميدان , عندما تعتمد حياتك على ترجمتك السريعة للأصوات , وتعتاد عيناك مفردات الضؤ فى الصحراء المفتوحة , هل رأيت الخوف فى  تلك اللحظة على وجه المتهور ؟ .. عشت سنوات معه يراودنى حلم آثم , أن أرى تعبير الخوف فى وجهه , أن يشوب  صوته تلك الرعشة التى تنبىء عن تصدع القلب . انفجرت الدانة على مسافة قريبة , ومرت العنقاء . رفع عينيه فى تلك اللحظة الى" وهو يصور بيده كيف مرت الشظية فى أحشاء المتهور من البطن , فخرجت من الظهر . خيم صمت ثقيل قبل أن يستطرد -  كانت هوايته المفضلة أن يتسلل من بيننا , يحمل هاتفه الميدانى ويقول :
-هل تريدون شيئا من هناك ياأولاد ؟
ونعرف نحن ماهو ( الهناك ) .. لم أكن لأفعل مايفعله المتهور . أحمل نفسى وأذهب مختارا الى الجانب الآخر , وأسير فوق الأرض الملغومة بين تحصينات اليهود , وأكمن حيث خطوط الهواتف , أعرى بأسنانى الأسلاك الباردة , وأقبع بالساعات أسترق السمع . ولما لا يجيب المتهور الا الصمت يقول لنا : لديهم هناك نساء فاتنات , سآتيكم بواحدة .
ويبتلعه الظلام , يتلاشى وقع أقدامه , أما نحن فننساه حتى يعود .

..........

      تتقلص أمعائى وأنا أكاد أرى العنقاء تمخر الأحشاء الطرية . أما الأمعاء الدامية فتبرز وسط لمعان أسنان الضارب , وهو يضحك ويقسم أنه لم ير الخوف مرة واحدة فى وجه المتهور حتى وهو يموت . عاد صوته الأجش يقول : بعد انتهاء المعارك أصبح مادار فى تلك البقعة يسمى بمعركة الشهيد سعد . كان سعد بطلا حقيقيا . كأنما كانت هناك صخرة فى مكان القلب منه . أنا لم أكن لأفعل أبدا ما كان يفعله .
     عندما نهض الضباط الصغار فى وقت متأخر تثاقلت أنا تحت وطأة رغبة عجزت طول الوقت عن التعبير عنها . بادرنى قائلا : تريد أن تبقى .
قلت وأنا لا أعنى ماأقول : الفجر على الأبواب .  قال : ربما لتشاهد الصومعة .  لم أعلق بينما استطرد : سوف تراها ولكن على الأولاد أن يرحلوا . 
كان آخر واحد منهم قد شد على يدى ومضى , أطل فى أثرهم وقال يحدث نفسه : أولاد طيبون .
قادنى وهو يزيح الستار : هذا ركنى الخاص .
كانت جدران الصومعة المقعرة مكسوة بأرفف بدائية الصنع عامرة بالكتب . أدار فتيل المصباح فاتسعت مساحة اللهب دون أن يضيف ذلك شيئا الى اضائة المكان . قلت :
- لا يستطيع مرحك أن يخفى شجنك .
دار ببصره فطاف بالكتب المتراصة . بدا المقعد الوحيد باردا موحشا أسفل المصباح فى نهاية الممر الضيق الذى يفصل الفراش الميدانى البسيط عن الجدار . دار حول نفسه قائلا :
- تستطيع أن تجلب مقعدا من الخارج .
- لن أبقى طويلا .. فقط دعنى ألقى نظرة على نياشينك .
- لقد رأيتها لتوك .
- أعنى النياشين التى منحتها فى الحرب .. النياشين الحقيقية .
- النياشين الحقيقية .
رددها لنفسه مبتسما كأنما يستمتع بوقع الكلمات .
- النياشين الحقيقية لا يمنحها لك أحد . أنت تحصل عليها هناك . تخوض الحرب فتحصل على واحدة – أشار الى الشظيات – فاذا بقيت حيا . لم يعد لأى شىء آخر قيمة .
- تعنى أنك لم تحصل على أية نياشين ؟
- أمامك ياصديقى كل مالدى من تراث شخصى .
- أنا لم أخض التجربة , لكنى أعتقد أنه من الغبن ألا يكافأ الانسان فى مقابل البلاء الحسن . هناك دائما المغانم والامتيازات .
كان ينظر الى فقط .. قلت مترددا : لابد أن الأمر يترك فى النفس بعض المرارة .
قال وهو ينظر فى عينى مباشرة : ليست هناك أهمية لما تعتقده أنت أو أنا , جوهر المسألة هو حياتك , تفقدها أو تحتفظ بها لقاء أشياء لا تدخل فى حساباتك . القضية العامة تتحول فى الميدان سواء شئت أم أبيت الى قضية غاية فى الخصوصية .. أن تظل حيا , فاذا علمت أن الله هناك ينظر فسوف تمتلىء بشىء واحد .. هو الدهشة , ولن يبقى حقيقيا الا ما يحتويه قفص الطيور . أشار مرة أخرى الى الشظيات الراقدة فى صندوقها المخملى .
     سادت فترة من الصمت , لم أكن أجد ماأصل به الحوار دون أن أكون مباشرا بطريقة تجعل منى ضيفا وقحا .. واصل حديثه :الحرب نشاط مثلها مثل باقى الأنشطة . أنت تذهب الى هناك لأنك منذ البداية لم تختر نشاطا آخر وعندما تقسم على الطاعة فقد أصبحت رهينة , ويكون من سؤ طالعك حينئذ أن تفترض سلفا أن المقدمات تؤدى بالضرورة الى النتائج , كما أنك لا تستطيع أن توجه اللوم الى أولئك الذين لديهم المهارة لجذب الانتباه الى أدائهم الخاص فهم أيضا يقومون بواجباتهم على خير وجه , بل انهم يفقدون حياتهم فى سبيل التمسك بشبر واحد من الأرض .. الانسان هو الانسان , موثق بقدره فى الحرب كما فى السلم .. تماما كما تكافىء ذلك الذى يأخذ بيد امرأة عجوز فى الطريق العام .. هل يعنى ذلك أنه الوحيد الذى يمتلىء قلبه بالشفقة ؟.. كلنا تأخذنا الشفقة بالنساء العجائز . ولكن المسألة منذالذى يعثر على امرأته العجوز فى الوقت المناسب .
سألته مداعبا : وأنت ما شأن امرأتك العجوز ؟
ضحك وهو يقول : لم أكن أبدا ذا باع مع النساء .
قلت : حتى االنساء العجائز ؟
- العجائز منهن بالذات .
وأغرق فى الضحك . . كان الليل قد أوغل , قاومت رغبتى فى البقاء وشددت على يده مودعا , وعندما كنت أهم بارتقاء الدرجات الحجرية صاعدا الى سطح الأرض سمعته يقول بوداعة : العنقاء .. انها لى .
     كنت لا أزال أقبض عليها بشدة , تناولها وهو يبتسم .. فى الخارج كانت السماء مرصعة بنجوم كثيرة . بحثت عن النجم القطبى . فقد كان هو الذى سيقودنى شمالا الى الاستراحة التى خصصت لاقامتى .

 الرسم المصاحب بريشة الفنان \ ياسر عبد القوى