الخميس، 9 يونيو 2011


قفص الطيور                                 قصة قصيرة   \   محسن الطوخى
..............                                  ...........           

     يتصدر المجلس والسيجارة فى ركن فمه . البيجاما المقلمة تحت المعطف الداكن .. الطاقية الصوف ..وجهه الهضيم يكتسى بعلامات الجد وهو يحدق فى أوراق اللعب :
- العب يامحترم ..لن ننتظرك حتى الفجر .
تتطلع اليه العيون متحفزة , تتساقط أوراق اللعب فوق المائدة الخشبية , يفرقع بالكارت منتشيا : آس سبيد .
يلملم الأوراق ويدسها أمامه مكشرا عن أنيابه فى مرح , يداعبه فؤاد ذو الشارب الزغبى :
- خسارة مواهبك تهدر فى هذا التيه .
يصيح بصوت أجش : قل للغجر .
يتفجر الضحك من حناجر تتوق للملحة .  يتابع فؤاد :
-لا يعرف قدرك سواى .
- ذلك أن الطيور على أشكالها تقع .
تتقافز عيناه فوق الوجوه وهو يتمتم متفكها : كلكم أولادى .
يلتقط الورق فيتأهبون لمعاودة اللعب , تكتسى الوجوه للحظة بجد حقيقى . رمى فؤاد الورق من يده .
- مللنا اللعب ... أرنا نياشينك .
توقف .. تفرس فى العيون بسرعة منتهيا بعينى فؤاد :
- النياشين لا يحصل عليها الا الحمقى من أمثالك .
لم يكن من الضرورى أن يكون ما يقوله مضحكا ليضج الآخرون بالضحك .
- لقد شاهدتموها عشرات المرات .
- أنسيت أن بيننا وجها جديدا ؟
كانا يقصدوننى .. اتجهت صوبى عشر عيون .
- أعرف ما تقولونه عنى فى خلوتكم ياأولاد الأبالسة .
     أعتدل وهو يضحك بطيبة . كنت ألتقى به للمرة الأولى , رغم أنى أعرفه منذ زمن بعيد , اذ يعرفه القاصى والدانى من أبناء المهنة . أتاحت لى وظيفتى كمفتش أن أتجول فى العديد من الوحدات العسكرية  , وأن ألتقى بأشخاص كثيرين يجدون الدافع لكى يرفهوا عنى , ويجعلوا اقامتى فى كثير من الأماكن الموحشة طبيعية الى أقصى حد ممكن , فتوفرت لى أمسيات طيبة , مليئة بالحكايات والنوادر . ونادرا ما ضمتنى أمسية دون أن يأتى ذكر السيد الضارب .                        صباح اليوم عنما ولجت بوابة المعسكر موفدا لبضعة أيام أشرف فيها على مستوى الرماية , كنت أتوق فى المقام الأول الى الالتقاء به , أول مااعترانى حينما أشاروا اليه , وتقدم فعانقنى , كانت الدهشة . كنت قد كونت صورة لشخص مفتول العضلات , بارز الصدر , مفرط فى ضخامته . تصورت بعين الخيال شاربا كثا متهدلا , وفما ساخرا , ونظرة ثاقبة . عندم احتضننى ببساطة أحتويته بذراعى فغاص بحجمه الضئيل فى صدرى , تطلعت الى وجهه الناحل ورأسه الصغير الأصلع , واحتوتنى نظرته الطيبة فذابت دهشتى فى غمرة الاحساس بالارتياح . تطوع فقادنى الى الاستراحة التى خصصت لى و قال وهو يجرب الصنبور الجاف  
- عسى ألا تفجع فينا .. لقد حاولنا أن نجهز لك مكانا يليق .  قلت متوددا : انهما ليلتين لا غير .
قال : ستأتى عربة الماء فلا تحمل هما .. تستطيع ان أردت أن تشاركنى الصومعة .. لكنك لن تجدها أفضل حالا.

..........

     لم تكن هناك مبالغة فى اطلاق اسم الصومعة على استراحة الضارب . الدرجات الحجرية التسع التى تهبطها . والباب الخشبى الضيق . والشكل البيضاوى . والقضبان الحديدية لأغطية الرأس التى تحمل سقف الملجأ الميدانى . وحتى الوجه الشاحب الضامر الذى ينظر اليك ببساطة . قال وهو يعتدل بجسده , قابضا بأصابعه على أوراق اللعب :
- أعرف ماذا يقولون عنلى فى  ادارتكم الرديئة .
نظرت اليه مستفهما ,
- يقولون أن لدى أرباعا ثلاثة ضاربة .
ضحكت قائلا : انهم لا يعرفونك جيدا .
قال بجدية : صدقت .. هذا دليل على فراستك .. فلو أنهم يعرفوننى جيدا لأدركوا أن الأربعة جميعهم  ( ضاربين ) .
     دوت عاصفة من الضحك ارتجت لها الجدران . القى بأوراق اللعب ونهض فساد الصمت . صمت مفتعل مشحون بالبهجة الخالصة , لا علاقة بينه وبين العالم الآخر الذى يقبع مكفهرا مقبضا فوق الصومعة .
     خطا خطوتين وأزاح ستارا واختفى وراءه , ثم لم يلبث أن أقبل يحمل بين يديه حقيبة ذات كسوة مخملية خضراء . اكتشفت من وجوه الر فاق أن علامات الجد التى تكسو وجه الضارب حقيقية , قال : بعدها ستنصرفون .
      استوى جالسا ورفع الغطاء , كانت هناك عوضا عن النياشين والأنواط , مجموعة من الشظايا المعدنية متفاوتة الأحجام والأشكال . احتلت الحواف قطع دقيقة فى حجم المصات , تلتها مجموعة من أحجام أكبر , أما كبراهن فقد استوت فى مركز المساحة الخضراء , شظية فى حجم عصفور الكناريا , سوداء مستدقة الأطراف , مكسوه بالنتؤات , كأنها حيوان بحرى صغير . أشار أحدهم الى الشظيات الحمصية قائلا : تلك هى العصافير .
رد فؤاد موضحا : العصافير .. هى تلك الطيور الدقيقة الرقيقة التى استخرجت من جسد الضارب نفسه .
قال ثالث وهو يتحسس بأصابعه مجموعة أخرى : أما تلك الحدآت .. فمن أجساد أخرى .
قال الضارب : تعرفون القواعد .
علق أحدهم : عليكم أن تختاروا واحدة .
أردف الضارب : بعدها ستنصرفون .
قال فؤاد : سيحظى ضيفنا بشرف الاختيار .
اتجهت العيون الى متسائلة ومحفزة . قفزت الى الكلمات الى لسانى قبل أن أعقله -  سأختار العنقاء . 
انفجر الضارب مقهقها فى سعادة حقيقية , وهو يلكم صدرى : أحسنت .
عقب فؤاد قائلا : تلك القطعة تخص المتهور .
     ساد الصمت وبدأ الضارب يروى .. تقلصت أمعائى وهو يصور كيف توقف القصف للحظة وساد الهدؤ , وقفز المتهور – هكذا أسماه – خارج حفرته ينفض الغبار عن وجهه وشعره , فى نفس اللحظة – هكذا أضاف – صفرت دانة .. رأيتها مقبلة .. كما أعرف أن المتهور رآها .. ليس من الأمور المتيسرة لكل شخص رؤية دانة مقبلة .. هذا شىء تتعلمه فى الميدان , عندما تعتمد حياتك على ترجمتك السريعة للأصوات , وتعتاد عيناك مفردات الضؤ فى الصحراء المفتوحة , هل رأيت الخوف فى  تلك اللحظة على وجه المتهور ؟ .. عشت سنوات معه يراودنى حلم آثم , أن أرى تعبير الخوف فى وجهه , أن يشوب  صوته تلك الرعشة التى تنبىء عن تصدع القلب . انفجرت الدانة على مسافة قريبة , ومرت العنقاء . رفع عينيه فى تلك اللحظة الى" وهو يصور بيده كيف مرت الشظية فى أحشاء المتهور من البطن , فخرجت من الظهر . خيم صمت ثقيل قبل أن يستطرد -  كانت هوايته المفضلة أن يتسلل من بيننا , يحمل هاتفه الميدانى ويقول :
-هل تريدون شيئا من هناك ياأولاد ؟
ونعرف نحن ماهو ( الهناك ) .. لم أكن لأفعل مايفعله المتهور . أحمل نفسى وأذهب مختارا الى الجانب الآخر , وأسير فوق الأرض الملغومة بين تحصينات اليهود , وأكمن حيث خطوط الهواتف , أعرى بأسنانى الأسلاك الباردة , وأقبع بالساعات أسترق السمع . ولما لا يجيب المتهور الا الصمت يقول لنا : لديهم هناك نساء فاتنات , سآتيكم بواحدة .
ويبتلعه الظلام , يتلاشى وقع أقدامه , أما نحن فننساه حتى يعود .

..........

      تتقلص أمعائى وأنا أكاد أرى العنقاء تمخر الأحشاء الطرية . أما الأمعاء الدامية فتبرز وسط لمعان أسنان الضارب , وهو يضحك ويقسم أنه لم ير الخوف مرة واحدة فى وجه المتهور حتى وهو يموت . عاد صوته الأجش يقول : بعد انتهاء المعارك أصبح مادار فى تلك البقعة يسمى بمعركة الشهيد سعد . كان سعد بطلا حقيقيا . كأنما كانت هناك صخرة فى مكان القلب منه . أنا لم أكن لأفعل أبدا ما كان يفعله .
     عندما نهض الضباط الصغار فى وقت متأخر تثاقلت أنا تحت وطأة رغبة عجزت طول الوقت عن التعبير عنها . بادرنى قائلا : تريد أن تبقى .
قلت وأنا لا أعنى ماأقول : الفجر على الأبواب .  قال : ربما لتشاهد الصومعة .  لم أعلق بينما استطرد : سوف تراها ولكن على الأولاد أن يرحلوا . 
كان آخر واحد منهم قد شد على يدى ومضى , أطل فى أثرهم وقال يحدث نفسه : أولاد طيبون .
قادنى وهو يزيح الستار : هذا ركنى الخاص .
كانت جدران الصومعة المقعرة مكسوة بأرفف بدائية الصنع عامرة بالكتب . أدار فتيل المصباح فاتسعت مساحة اللهب دون أن يضيف ذلك شيئا الى اضائة المكان . قلت :
- لا يستطيع مرحك أن يخفى شجنك .
دار ببصره فطاف بالكتب المتراصة . بدا المقعد الوحيد باردا موحشا أسفل المصباح فى نهاية الممر الضيق الذى يفصل الفراش الميدانى البسيط عن الجدار . دار حول نفسه قائلا :
- تستطيع أن تجلب مقعدا من الخارج .
- لن أبقى طويلا .. فقط دعنى ألقى نظرة على نياشينك .
- لقد رأيتها لتوك .
- أعنى النياشين التى منحتها فى الحرب .. النياشين الحقيقية .
- النياشين الحقيقية .
رددها لنفسه مبتسما كأنما يستمتع بوقع الكلمات .
- النياشين الحقيقية لا يمنحها لك أحد . أنت تحصل عليها هناك . تخوض الحرب فتحصل على واحدة – أشار الى الشظيات – فاذا بقيت حيا . لم يعد لأى شىء آخر قيمة .
- تعنى أنك لم تحصل على أية نياشين ؟
- أمامك ياصديقى كل مالدى من تراث شخصى .
- أنا لم أخض التجربة , لكنى أعتقد أنه من الغبن ألا يكافأ الانسان فى مقابل البلاء الحسن . هناك دائما المغانم والامتيازات .
كان ينظر الى فقط .. قلت مترددا : لابد أن الأمر يترك فى النفس بعض المرارة .
قال وهو ينظر فى عينى مباشرة : ليست هناك أهمية لما تعتقده أنت أو أنا , جوهر المسألة هو حياتك , تفقدها أو تحتفظ بها لقاء أشياء لا تدخل فى حساباتك . القضية العامة تتحول فى الميدان سواء شئت أم أبيت الى قضية غاية فى الخصوصية .. أن تظل حيا , فاذا علمت أن الله هناك ينظر فسوف تمتلىء بشىء واحد .. هو الدهشة , ولن يبقى حقيقيا الا ما يحتويه قفص الطيور . أشار مرة أخرى الى الشظيات الراقدة فى صندوقها المخملى .
     سادت فترة من الصمت , لم أكن أجد ماأصل به الحوار دون أن أكون مباشرا بطريقة تجعل منى ضيفا وقحا .. واصل حديثه :الحرب نشاط مثلها مثل باقى الأنشطة . أنت تذهب الى هناك لأنك منذ البداية لم تختر نشاطا آخر وعندما تقسم على الطاعة فقد أصبحت رهينة , ويكون من سؤ طالعك حينئذ أن تفترض سلفا أن المقدمات تؤدى بالضرورة الى النتائج , كما أنك لا تستطيع أن توجه اللوم الى أولئك الذين لديهم المهارة لجذب الانتباه الى أدائهم الخاص فهم أيضا يقومون بواجباتهم على خير وجه , بل انهم يفقدون حياتهم فى سبيل التمسك بشبر واحد من الأرض .. الانسان هو الانسان , موثق بقدره فى الحرب كما فى السلم .. تماما كما تكافىء ذلك الذى يأخذ بيد امرأة عجوز فى الطريق العام .. هل يعنى ذلك أنه الوحيد الذى يمتلىء قلبه بالشفقة ؟.. كلنا تأخذنا الشفقة بالنساء العجائز . ولكن المسألة منذالذى يعثر على امرأته العجوز فى الوقت المناسب .
سألته مداعبا : وأنت ما شأن امرأتك العجوز ؟
ضحك وهو يقول : لم أكن أبدا ذا باع مع النساء .
قلت : حتى االنساء العجائز ؟
- العجائز منهن بالذات .
وأغرق فى الضحك . . كان الليل قد أوغل , قاومت رغبتى فى البقاء وشددت على يده مودعا , وعندما كنت أهم بارتقاء الدرجات الحجرية صاعدا الى سطح الأرض سمعته يقول بوداعة : العنقاء .. انها لى .
     كنت لا أزال أقبض عليها بشدة , تناولها وهو يبتسم .. فى الخارج كانت السماء مرصعة بنجوم كثيرة . بحثت عن النجم القطبى . فقد كان هو الذى سيقودنى شمالا الى الاستراحة التى خصصت لاقامتى .

 الرسم المصاحب بريشة الفنان \ ياسر عبد القوى

ليست هناك تعليقات: