الثلاثاء، 24 يوليو 2012



                                   مختارات من القصة القصيرة 


                                    بذلة الأسير

قصة قصيرة
نجيب محفوظ



كان جحشه بائع السجائر أول السابقين إلى محطه الزقازيق حين اقترب ميعاد قدوم القطار.  وكان   يعد المحطه بحق سوقه الاثيرة فيمضى على الإفريز فى نشاط منقطع النظير , يتصيد بعينيه الصغيرتين الخبيرتين,  ولعل جحشه لو سُئل عن مهنته للعنها شر لعنه, لأنه كبقية الناس برم بحياته ساخط على حظه, ولعله لو ملك حرية الاختيار لآثر أن يكون سائق سيارة أحد الأغنياء , فيرتدى لباس الأفندية, ويأكل من طعام البك, ويرافقه إلى الأماكن المختاره فى الصيف والشتاء مؤثراً من أعمال الكفاح فى سبيل القوت ما هو أدنى إلى التسليه والملهاة. على أنه كانت له أسبابه الخاصة ودواعيه الخفية لإيثار هذا العمل وتمنيه, من يوم رأى الغر سائق أحد الأعيان يتعرض للفتاة نبوية خادم المأمور فى الطريق, ويغازلها بجسارة وثقة, بل سمعه مرة يقول لها وهو يفرك يده حبوراً : سآتى معك قريباً ومعى الخاتم, ورأى الفتاة تبتسم فى دلال وترفع طرف الملاءة عن رأسها كأنها تسويها , والحقيقة أنها  أرادت أن تبدى عن شعرها الفاحم المدهون بالزيت
رأى ذلك فالتهب قلبه وأحس الغيرة تنهشه نهشاً موجعاً, وكان به من عينيها السوداوين أوجاع وأمراض, وكان يتبعها عن كثب, ويقطع عليها السبيل فى الذهاب والإياب, حتى إذا خلا بها  فى عطفة, أعاد على أذنيها ما قال لها الغر: سآتى قريباً ومعى الخاتم. ولكنها لوت عنه رأسها, وقطبت جبينها وقالت باحتقار: هات لك قبقاب أحسن.  فنظر إلى قدميه الغليظتين كأنهما بطنا بخفى جمل, وجلبابه القذر, وطاقيته المعفرة وقال: هذا سبب شقائى وأفول نجمى,  ونفس على الغر عمله وتمناه. على أن آماله لم تقطعه عن مهنته, فثابر على كده قانعاً من آماله بالأحلام, وقصد فى ذلك الأصيل إلى محطة الزقازيق يحمل صندوقه, ونظر إلى الأفق, فرأى القطار قادما من بعد كأنه سحابة دخان, وما زال يدنو ويقترب وتتميز أجزائه ويتصاعد ضجيجه حتى وقف على إفريز المحطه. هرع جحشه إلى العربات المتراصه, فرأى لدهشته على الأبواب حراسا مسلحين ووجوها غريبه تطل من النوافذ بأعين ذاهله منكسره, فقيل له بأن هؤلاء الأسرى الايطاليين تساقطوا بين يدى عدوهم بغير حساب وأنهم يُساقون اليوم إلى المعتقلات

.
فوقف جحشه متحيرا يقلب عينيه فى الوجوه المغبره , ثم أدركته الكآبه لأنه أيقن أن تلك الوجوه الشاحبه الغارقه فى البؤس والفقر لن يكون فى وسعها إشباع نهمها من سجائره , ووجدهم يلتهمون صندوقه بشراهة جوع , فألقى عليهم نظرة سخط واحتقار , وهمّ أن يوليهم ظهره ويعود من حيث أتى , ولكنه سمع صوتاً يصيح به بالعربيه بلهجه أفرنجيه قائلا : سجائر فحدجه بنظرة دهشة وريبة , ثم فرك سبابته بإبهامه : أى نقود ففهم الجندى وأومأ برأسه فاقترب محاذرا ووقف على بعد لا تبلغه يد الجندى , فخلع الجندى جاكتته بهدوء وقال له وهو يلوح بها : هذه نقودى , فتعجب جحشه وتفرس فى الجاكته الرمادية ذات الأزرار الصفراء بين الدهشة والطمع , ووجب قلبه ولكنه لم يكن ساذجاً أو مغفلاً فأخفى ما قام بنفسه أن يقع فريسة للإيطالى , وأبرز فى هدوء ظاهرى علبة سجائر ومد يديه ليأخذ الجاكتة , فقطب الجندى جبينه وصاح به : علبه واحده بجاكته ؟ هات عشراً , فذعر جحشه وتراجع إلى الوراء وقد غاض طمعه وأوشك أن يأخذ فى غير السبيل , فصاح به الجندى : أعطنى عددا مناسباً تسعاً أو ثمانية , فهز الشاب رأسه بعناد , فقال الجندى : إذن سبعاً , ولكنه هز رأسه كما فعل فى الأولى وتظاهر بأنه يعتزم المسير , فقنع الجندى بست , ثم هبط الى خمس فلوح جحشه بيده متظاهراً باليأس , وتراجع إلى المقعد وجلس فصاح به الجندى المجنون : تعال رضيت بأربع , فلم يلق له بالا وليدله على عدم اكتراثه, أشعل سيجارة ومضى يدخن فى تلذذ وهدوء , فثارت ثائرة الجندى , وأهاجه الغضب , وبدا وكأنه ليس له غاية فى الوجود سوى الاستيلاء على سجائر , فهبط بطلبه إلى ثلاث , ثم اثنين , ولبث جحشه جالسا يغالب اضطرام عواطفه وأوجاع طمعه , ولما نزل الجندى إلى اثنتين أبدى حركة بغير إراده رآها الجندى فقال له وهو يمد يده بالجاكتة : هات . فلم ير بداً من النهوض , ودنا من القطار حتى أخذ الجاكتة وأعطى الجندى العلبتين , وتفرس الجاكتة بعين جذلة راضية وقد لاحت على شفتيه ابتسامة ظفر , ووضع الصندوق على المقعد وارتدى الجاكته وزررها فبدت فضفاضة , ولكنه لم يعن لذلك وتاه عجباً وسرورا واسترد صندوقه وأخذ يقطع الافريز فخراً طروباً , وارتسمت لعينيه صورة نبوية فى ملاءتها اللف فقال متمتما : لو ترانى الآن نعم لن تتجافانى بعد اليوم ولن تلوى وجهها عنى احتقارا ولن يجد الغر ما يفخر به على , ولكنه ذكر أن الغر يرتدى بدلة كاملة لا جاكتة مفردة فكيف السبيل إلى البنطلون ؟ وفكر مليا وألقى على رؤوس الأسرى المطلة من نوافذ القطار نظرة ذات معنى , ولعب الطمع بقلبه من جديد فاضطربت نفسه بعد أن أوشكت أن تستقر , ودلف إلى القطار ونادى بجرأه : سجائر سجائر العلبه ببنطلون لمن ليس معه نقود العلبه ببنطلون , وأعاد ندائه هذا مثنى وثلاثاً وخشى أن يغيب على الأفهام مقصده فمضى يومىء إلى الجاكتة التى يرتديها , ويلوح بعلبة سجائر , وأحدثت إيماءته الأثر المرجو فلم يتردد جندى أن يهم بخلع جاكتته ولكنه سارع نحوه وأومأ اليه أن يتمهل , ثم أشار إلى بنطلونه يعنى أن ذلك بغيته , وهز الجندى منكبيه باستهانة وخلع البنطلون وتم التبادل , وقبضت يد جحشه على البنطلون بقوة , يكاد يطير من الفرح , وتقهقر إلى مكانه الأول , وأخذ يرتدى البنطلون , وانتهى فى أقل من دقيقة فصار جنديا إيطاليا كاملاً .  ترى هل ينقصه شىء . المؤسف حقا أن هؤلاء الأسرى لا يغطون رؤسهم بالطرابيش ولكنهم يضعون أقدامهم فى أحذيه , ولا غنى عن حذاء ليتساوى بالغر الذى يكرب حياته , وحمل صندوقه وهرع إلى القطار وهو يصرخ : سجائر العلبة بحذاء العلبة بحذاء . واستعان على التفاهم بالإشارة كما فعل فى المرة الأولى , ولكنه قبل أن يظفر بزبون جديد آذنت صفارة القطار بالمسير , فتمخضت عن موجة نشاط شملت الحراس جميعاً وكانت سحائب الظلام تغشى جوانب المحطة وطائر الليل يحلق فى الفضاء فتوقف جحشه وفى نفسه لوعة وفى عينيه حسرة وغيظ , ولما أخذ القطار يتحرك لمحه حارس فى عربة أمامية فبدا على وجهه الغضب وصاح بالإنجليزية ثم بالإيطالية : إصعد بسرعة أيها الأسير , فلم يفهم جحشه ما يقول , وأراد أن ينفس عن صدره فجعل يقلده فى حركاته مستهزءاً مطمئناً إلى بعده عن متناول يديه , فصاح به الحارس مرة أخرى والقطار يبتعد رويداً ورويداً : إصعد إنى أحذرك أصعد . فزم جحشه شفتيه احتقارا وولاه ظهره وهم بالمسير , فكور الحارس قبضة يسراه مهدداً , وصوب بندقيته نحو الشاب الغافل , وأطلق النار . دوى عزيف الرصاصه يصم الآذان .أعقبتها صرخة ألم وفزع  , وتصلب جسم جحشه فى مكانه , فسقط الصندوق من يده وتناثرت علب السجائر والكبريت , ثم انقلب على وجهه جثة هامدة .


ليست هناك تعليقات: