الثلاثاء، 24 يوليو 2012



                                   مختارات من القصة القصيرة 


                                    بذلة الأسير

قصة قصيرة
نجيب محفوظ



كان جحشه بائع السجائر أول السابقين إلى محطه الزقازيق حين اقترب ميعاد قدوم القطار.  وكان   يعد المحطه بحق سوقه الاثيرة فيمضى على الإفريز فى نشاط منقطع النظير , يتصيد بعينيه الصغيرتين الخبيرتين,  ولعل جحشه لو سُئل عن مهنته للعنها شر لعنه, لأنه كبقية الناس برم بحياته ساخط على حظه, ولعله لو ملك حرية الاختيار لآثر أن يكون سائق سيارة أحد الأغنياء , فيرتدى لباس الأفندية, ويأكل من طعام البك, ويرافقه إلى الأماكن المختاره فى الصيف والشتاء مؤثراً من أعمال الكفاح فى سبيل القوت ما هو أدنى إلى التسليه والملهاة. على أنه كانت له أسبابه الخاصة ودواعيه الخفية لإيثار هذا العمل وتمنيه, من يوم رأى الغر سائق أحد الأعيان يتعرض للفتاة نبوية خادم المأمور فى الطريق, ويغازلها بجسارة وثقة, بل سمعه مرة يقول لها وهو يفرك يده حبوراً : سآتى معك قريباً ومعى الخاتم, ورأى الفتاة تبتسم فى دلال وترفع طرف الملاءة عن رأسها كأنها تسويها , والحقيقة أنها  أرادت أن تبدى عن شعرها الفاحم المدهون بالزيت
رأى ذلك فالتهب قلبه وأحس الغيرة تنهشه نهشاً موجعاً, وكان به من عينيها السوداوين أوجاع وأمراض, وكان يتبعها عن كثب, ويقطع عليها السبيل فى الذهاب والإياب, حتى إذا خلا بها  فى عطفة, أعاد على أذنيها ما قال لها الغر: سآتى قريباً ومعى الخاتم. ولكنها لوت عنه رأسها, وقطبت جبينها وقالت باحتقار: هات لك قبقاب أحسن.  فنظر إلى قدميه الغليظتين كأنهما بطنا بخفى جمل, وجلبابه القذر, وطاقيته المعفرة وقال: هذا سبب شقائى وأفول نجمى,  ونفس على الغر عمله وتمناه. على أن آماله لم تقطعه عن مهنته, فثابر على كده قانعاً من آماله بالأحلام, وقصد فى ذلك الأصيل إلى محطة الزقازيق يحمل صندوقه, ونظر إلى الأفق, فرأى القطار قادما من بعد كأنه سحابة دخان, وما زال يدنو ويقترب وتتميز أجزائه ويتصاعد ضجيجه حتى وقف على إفريز المحطه. هرع جحشه إلى العربات المتراصه, فرأى لدهشته على الأبواب حراسا مسلحين ووجوها غريبه تطل من النوافذ بأعين ذاهله منكسره, فقيل له بأن هؤلاء الأسرى الايطاليين تساقطوا بين يدى عدوهم بغير حساب وأنهم يُساقون اليوم إلى المعتقلات

.
فوقف جحشه متحيرا يقلب عينيه فى الوجوه المغبره , ثم أدركته الكآبه لأنه أيقن أن تلك الوجوه الشاحبه الغارقه فى البؤس والفقر لن يكون فى وسعها إشباع نهمها من سجائره , ووجدهم يلتهمون صندوقه بشراهة جوع , فألقى عليهم نظرة سخط واحتقار , وهمّ أن يوليهم ظهره ويعود من حيث أتى , ولكنه سمع صوتاً يصيح به بالعربيه بلهجه أفرنجيه قائلا : سجائر فحدجه بنظرة دهشة وريبة , ثم فرك سبابته بإبهامه : أى نقود ففهم الجندى وأومأ برأسه فاقترب محاذرا ووقف على بعد لا تبلغه يد الجندى , فخلع الجندى جاكتته بهدوء وقال له وهو يلوح بها : هذه نقودى , فتعجب جحشه وتفرس فى الجاكته الرمادية ذات الأزرار الصفراء بين الدهشة والطمع , ووجب قلبه ولكنه لم يكن ساذجاً أو مغفلاً فأخفى ما قام بنفسه أن يقع فريسة للإيطالى , وأبرز فى هدوء ظاهرى علبة سجائر ومد يديه ليأخذ الجاكتة , فقطب الجندى جبينه وصاح به : علبه واحده بجاكته ؟ هات عشراً , فذعر جحشه وتراجع إلى الوراء وقد غاض طمعه وأوشك أن يأخذ فى غير السبيل , فصاح به الجندى : أعطنى عددا مناسباً تسعاً أو ثمانية , فهز الشاب رأسه بعناد , فقال الجندى : إذن سبعاً , ولكنه هز رأسه كما فعل فى الأولى وتظاهر بأنه يعتزم المسير , فقنع الجندى بست , ثم هبط الى خمس فلوح جحشه بيده متظاهراً باليأس , وتراجع إلى المقعد وجلس فصاح به الجندى المجنون : تعال رضيت بأربع , فلم يلق له بالا وليدله على عدم اكتراثه, أشعل سيجارة ومضى يدخن فى تلذذ وهدوء , فثارت ثائرة الجندى , وأهاجه الغضب , وبدا وكأنه ليس له غاية فى الوجود سوى الاستيلاء على سجائر , فهبط بطلبه إلى ثلاث , ثم اثنين , ولبث جحشه جالسا يغالب اضطرام عواطفه وأوجاع طمعه , ولما نزل الجندى إلى اثنتين أبدى حركة بغير إراده رآها الجندى فقال له وهو يمد يده بالجاكتة : هات . فلم ير بداً من النهوض , ودنا من القطار حتى أخذ الجاكتة وأعطى الجندى العلبتين , وتفرس الجاكتة بعين جذلة راضية وقد لاحت على شفتيه ابتسامة ظفر , ووضع الصندوق على المقعد وارتدى الجاكته وزررها فبدت فضفاضة , ولكنه لم يعن لذلك وتاه عجباً وسرورا واسترد صندوقه وأخذ يقطع الافريز فخراً طروباً , وارتسمت لعينيه صورة نبوية فى ملاءتها اللف فقال متمتما : لو ترانى الآن نعم لن تتجافانى بعد اليوم ولن تلوى وجهها عنى احتقارا ولن يجد الغر ما يفخر به على , ولكنه ذكر أن الغر يرتدى بدلة كاملة لا جاكتة مفردة فكيف السبيل إلى البنطلون ؟ وفكر مليا وألقى على رؤوس الأسرى المطلة من نوافذ القطار نظرة ذات معنى , ولعب الطمع بقلبه من جديد فاضطربت نفسه بعد أن أوشكت أن تستقر , ودلف إلى القطار ونادى بجرأه : سجائر سجائر العلبه ببنطلون لمن ليس معه نقود العلبه ببنطلون , وأعاد ندائه هذا مثنى وثلاثاً وخشى أن يغيب على الأفهام مقصده فمضى يومىء إلى الجاكتة التى يرتديها , ويلوح بعلبة سجائر , وأحدثت إيماءته الأثر المرجو فلم يتردد جندى أن يهم بخلع جاكتته ولكنه سارع نحوه وأومأ اليه أن يتمهل , ثم أشار إلى بنطلونه يعنى أن ذلك بغيته , وهز الجندى منكبيه باستهانة وخلع البنطلون وتم التبادل , وقبضت يد جحشه على البنطلون بقوة , يكاد يطير من الفرح , وتقهقر إلى مكانه الأول , وأخذ يرتدى البنطلون , وانتهى فى أقل من دقيقة فصار جنديا إيطاليا كاملاً .  ترى هل ينقصه شىء . المؤسف حقا أن هؤلاء الأسرى لا يغطون رؤسهم بالطرابيش ولكنهم يضعون أقدامهم فى أحذيه , ولا غنى عن حذاء ليتساوى بالغر الذى يكرب حياته , وحمل صندوقه وهرع إلى القطار وهو يصرخ : سجائر العلبة بحذاء العلبة بحذاء . واستعان على التفاهم بالإشارة كما فعل فى المرة الأولى , ولكنه قبل أن يظفر بزبون جديد آذنت صفارة القطار بالمسير , فتمخضت عن موجة نشاط شملت الحراس جميعاً وكانت سحائب الظلام تغشى جوانب المحطة وطائر الليل يحلق فى الفضاء فتوقف جحشه وفى نفسه لوعة وفى عينيه حسرة وغيظ , ولما أخذ القطار يتحرك لمحه حارس فى عربة أمامية فبدا على وجهه الغضب وصاح بالإنجليزية ثم بالإيطالية : إصعد بسرعة أيها الأسير , فلم يفهم جحشه ما يقول , وأراد أن ينفس عن صدره فجعل يقلده فى حركاته مستهزءاً مطمئناً إلى بعده عن متناول يديه , فصاح به الحارس مرة أخرى والقطار يبتعد رويداً ورويداً : إصعد إنى أحذرك أصعد . فزم جحشه شفتيه احتقارا وولاه ظهره وهم بالمسير , فكور الحارس قبضة يسراه مهدداً , وصوب بندقيته نحو الشاب الغافل , وأطلق النار . دوى عزيف الرصاصه يصم الآذان .أعقبتها صرخة ألم وفزع  , وتصلب جسم جحشه فى مكانه , فسقط الصندوق من يده وتناثرت علب السجائر والكبريت , ثم انقلب على وجهه جثة هامدة .


الخميس، 19 يوليو 2012



نظرة
قصة قصيرة
يوسف أدريس

....................

كان غريبًا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانًا كبيرًا مثلي لا تعرفه في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله وكان ما تحمله معقدًا حقًا، ففوق رأسها تستقر صينية بطاطس بالفرن وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة وكان الحوض قد انزلق برغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه، حتى أصبح ما تحمله مهددًا بالسقوط. ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل وتلمست سبلاً كثيرة، وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من الصاج وتعود فتميل الصينية، ثم اضبطهما معًا فيميل رأسها هي، ولكنني نجحت أخيرًا في وضع تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبًا حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أرى لها رأسًا وقد حجبه الحمل، كل ما حدث أنها انتظرت قليلاً لتتأكد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير، لم تلتقط أذني منه إلا كلمة ستي.ولم أحول عيني عنها وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي يـُنظف بها الفرن أو حتى من رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها وهي تخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء ولكنها سرعان ما تستأنف المضي. راقبتها طويلاً حتى امتصتنني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة، وأخيرًا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار.استأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفي، شاهدتها تتوقف ولا تتحرك، وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال. أما هي فكانت واقفة على ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون ولم تلحظني ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف ، استدارت على مهل، واستدار الحمل معها وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة، ثم ابتلعتها الحارة.



أجمل رجل غريق فى العالم

 قصة قصيرة 


جابرييل جارسيا ماركيز
  





ظنّه الأطفال لمّا رأوه ، أول مرة ، أنه سفينة من سفن الأعداء. كان مثلَ رعنٍ أسود في البحرِ يقترب منهم شيئا فشيئا. لاحظ الصبيةُ أنه لا يحمل راية ولا صاريًا فظنوا حينئذٍ أنه حوتٌ كبير، ولكن حين وصل إلى ترابِ الشاطئ وحوّلوا عنه طحالبَ السرجسِ و أليافَ المدوز و الأسماكَ التّي كانت تغطيهِ تبيّن لهم أنّه غريق.
شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث.
أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :"ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه. "
عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت.
كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تحمل الريحُ الأطفال ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار ، أمّا الموتى فكانوا نادرين لم يجد لهم الأحياءُ مكانًا لدفنهم فكانوا يلقون بهم من أعلى الجرف..
كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد..
في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق …أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..
لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..
لم تجد نساء القرية للجثة، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية.
فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروالا من قماشِ الأشرعة و كذلك قميصًا من “الأورغندي” الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال..
جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر “الكاراييب” أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن ” أن لذلك علاقة بالميّت” ، وقالت أخرى ” لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف”..
أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول أن أزواجهن من أكبر المساكين..
دخلت النسوة في متاهات الخيال.
قالت أكبرهن:” للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان”. كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل “لوتارو”.
في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..
بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكت البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . اتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله…ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له “ابق وأشرب القهوة معنا” ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: “حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله”.
هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..
في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..
وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض..
عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة.
قالت النسوة: “الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!”..أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين.
ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت “الكتفيّة” حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :” مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟”..
بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: “إنه إستبان!” لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد!
إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: “لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه.”
أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.
عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء..
في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق.
ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..
عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..
منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم:
"
أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس...هناك هي قرية إستبان!".







موت موظف




قصة قصيرة 

 أنطون تشيكوف 

ذات مساء رائع كان ايفان ديمتريفيتش تشرفياكوف، الموظف الذي لا يقل روعة، جالسا في الصف الثاني من مقاعد الصالة، يتطلع في المنظار إلى "أجراس كورنيفيل" . وراح يتطلع وهو يشعر بنفسه في قمة المتعة. وفجأة.. وكثيراً ما تقابلنا "وفجأة" هذه في القصص. والكتّاب على حق، فما أحفل الحياة بالمفاجآت! وفجأة تقلص وجهه، وزاغ بصره، واحتبست أنفاسه.. وحول عينيه عن المنظار وانحنى و .. أتش !!! عطس كما ترون. والعطس ليس محظوراً على أحد في أي مكان. إذ يعطس الفلاحون، ورجال الشرطة، بل وحتى أحياناً المستشارون السريون. الجميع يعطس. ولم يشعر تشرفياكوف بأي حرج، ومسح أنفه بمنديله، وكشخص مهذب نظر حوله ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدا بعطسه. وعلى الفور أحس بالحرج. فقد رأى العجوز الجالس أمامه في الصف الأول يمسح صلعته ورقبته بقفازه بعناية ويدمدم بشيء ما. وعرف تشرفياكوف في شخص العجوز الجنرال بريزجالوف الذي يعمل في مصلحة السكك الحديدية.
وقال تشرفياكوف لنفسه: "لقد بللته. إنه ليس رئيس، بل غريب، ومع ذلك فشيء محرج. ينبغي أن أعتذر".
وتنحنح تشرفياكوف ومال بجسده إلى الأمام وهمس في أذن الجنرال:
عفواً يا صاحب السعادة، لقد بللتكم .. لم أقصد..
لا شيء ، لا شيء.
استحلفكم بالله العفو. إنني.. لم أكن أريد!
أوه، اسكت من فضلك! دعني أصغي!
وأحرج تشرفياكوف فابتسم ببلاهة، وراح ينظر إلى المسرح. كان ينظر ولكنه لم يعد يحس بالمتعة. لقد بدأ القلق يعذبه. وأثناء الاستراحة اقترب من بريزجالوف وتمشى قليلاً بجواره، وبعد أن تغلب على وجله دمدم:
لقد بللتكم يا صاحب السعادة.. اعذروني.. انني لم اكن أقصد أن ..
فقال الجنرال:
اوه كفاك!. أنا قد نسيت وأنت ما زلت تتحدث عن نفس الأمر!
وحرك شفته السفلى بنفاذ صبر.
وقال تشرفياكوف لنفسه وهو يتطلع إلى الجنرال بشك: "يقول نسيت بينما الخبث يطل من عينيه. ولا يريد أن يتحدث. ينبغي أن أوضح له أنني لم أكن أرغب على الإطلاق.. وإن هذا قانون الطبيعة، وإلا ظن أنني أردت أن أبصق عليه. فإذا لم يظن الآن فسيظن فيما بعد!.."
وعندما عاد تشرفياكوف إلى المنزل روى لزوجته ما بدر عنه من سوء تصرف. وخيل إليه أن زوجته نظرت إلى الأمر باستخفاف، فقد جزعت فقط، ولكنها اطمأنت عندما علمت أن بريزجالوف "غريب".
وقالت:
ومع ذلك اذهب إليه واعتذر. وإلا ظن أنك لا تعرف كيف تتصرف في المجتمعات!
تلك هي المسألة! لقد اعتذرت له، ولكنه.. كان غريباً.. لم يقل كلمة مفهومة واحدة. ثم أنه لم يكن هناك متسع للحديث.
وفي اليوم التالي ارتدى تشرفياكوف حلة جديدة، وقص شعره ، وذهب إلى بريزجالوف لتوضيح الأمر.. وعندما دخل غرفة استقبال الجنرال رأى هناك كثيراً من الزوار ورأى بينهم الجنرال نفسه الذي بدأ يستقبل الزوار. وبعد أن سأل عدة أشخاص رفع عينيه إلى تشرفياكوف. فراح الموظف يشرح له:
بالأمس في "اركاديا" لو تذكرون يا صاحب السعادة عطست و.. بللتكم عن غير قصد.. اعذر..
يا للتفاهات... الله يعلم ما هذا! – وتوجه الجنرال إلى الزائر التالي – ماذا تريدون؟
وفكر تشرفياكوف ووجهه يشحب: "لا يريد أن يتحدث. إذن فهو غاضب.. كلا، لا يمكن أن أدع الأمر هكذا.. سوف أشرح له.."
وبعد أن أنهى الجنرال حديثه مع آخر زائر واتجه إلى الغرفة الداخلية، خطا تشرفياكوف خلفه ودمدم:
يا صاحب السعادة! إذا كنت اتجاسر على إزعاج سعادتكم فإنما من واقع الاحساس بالندم!. لم أكن أقصد، كما تعلمون سعادتكم!
فقال الجنرال وهو يختفي خلف الباب:
انك تسخر يا سيدي الكريم!
وفكر تشرفياكوف: "أيه سخرية يمكن أن تكون؟ ليس هناك أية سخرية على الإطلاق! جنرال ومع ذلك لا يستطيع أن يفهم! إذا كان الأمر كذلك فلن أعتذر بعد لهذا المتغطرس. ليذهب إلى الشيطان! سأكتب له رسالة، ولكن لن آتي إليه. أقسم لن آتي!".
هكذا فكر تشرفياكوف وهو عائد إلى المنزل. ولكنه لم يكتب للجنرال رسالة. فقد فكر وفكر ولم يستطع أن يدبج الرسالة. واضطر في اليوم التالي إلى الذهاب بنفسه لشرح الأمر.
ودمدم عندما رفع إليه الجنرال عينين متسائلتين:
جئت بالأمس فأزعجتكم يا صاحب السعادة، لا لكي أسخر منكم كما تفضلتم سعادتكم فقلتم. بل كنت أعتذر لأني عطست فبللتكم.. ولكنه لم يدر بخاطري أبداً أن أسخر. وهل أجسر على السخرية؟ فلو رحنا نسخر، فلن يكون هناك احترام للشخصيات إذن..
وفجأة زأر الجنرال وقد أربد وارتعد:
اخرج من هنا !!
فسأل تشرفياكوف هامساً وهو يذوب رعباً:
ماذا ؟
فردد الجنرال ودق بقدمه:
اخرج من هنا !!
وتمزق شيء ما في بطن تشرفياكوف. وتراجع إلى الباب وهو لا يرى ولا يسمع شيئاً، وخرج إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه.. وعندما وصل آلياً إلى المنزل استلقى على الكنبة دون أن يخلع حلته.. ومات .






المعطف

قصة قصيرة 

 نيقولاى جوجول







ترجمة: د. أبو بكر يوسف




في إحدى الادارات كان يعمل أحد الموظفين. . موظف لا نستطيع أن نقول عنه أنه كان بارزاً جداً، بل كان قصير القامة، مجدوراً إلى حد ما وأحمر الشعر إلى حد ما، بل ويبدو أعمش إلى حد ما، بصلعة صغيرة فوق الجبين وتجاعيد على كلا الخدين، أما لون وجهه فكان كما يقال بواسيريا .. وما العمل؟! الذنب في ذلك ذنب جو بطرسبورغ. أما فيما يتعلق برتبته (لأنه من الضروري عندنا أن نعلن عن الرتبة قبل كل شيء) فقد كان ممن يسمون بـ "المستشارين الاعتباريين"  الخالدين الذين سخر منهم وهزئ بهم ما وسعهم، كما هو معروف، شتى الكتاب من ذوي العادة المحمودة في التهجم على أولئك الذين لا يحسنون العض. وكان اسم عائلة الموظف بشماتشكين. وكان اسم الموظف أكاكي أكاكيفتش. أما متى وفى أي وقت التحق بالادارة ومن الذي ألحقه بها، فهذا ما لم يستطع أحد أن يتذكره. فهمها تغير المدراء والرؤساء فقد كان الجميع يرونه دائماً في نفس المكان وفي نفس الوضع وفي نفس الوظيفة، أي موظف كتابة، حتى أنهم آمنوا فيما بعد بأنه، على ما يبدو، قد ولد هكذا جاهزا، في حلته الرسمية وبصلعة في رأسه. ولم يكن يحظى في الادارة بأي احترام. فالحراس لم يكونوا ينهضون عند رؤيته، ليس هذا فحسب، بل حتى لم يكونوا ينظرون إليه، كما لو كانت مجرد ذبابة هي التي طارت عبر صالة الاستقبال. أما الرؤساء فكانوا يعاملونه بطريقة باردة. فأي مساعد من مساعدي الرئيس القلم كان يدس الأوراق تحت أنفه مباشرة حتى دون أن يقول له: "انسخها" أو "هاك عملا طريفا طيبا" أو أية كلمات طيبة كما جرت العادة في المكاتب المهذبة. أما هو فكان يتناول الأوراق متطلعا إليها وحدها دون أن ينظر إلى من قدمها له وهل يملك الحق في ذلك أم لا. كان يتناولها ويشرع على الفور في نسخها. وكان الموظفون الشبان يسخرون منه وينكتون عليه بقدر ما كانت تسمح به روح النكتة المكتبية، ويروون أمامه شتى الحكايات التي ألفوها عنه، ويقولون عن مدبرة بيته وهي عجوز في السبعين من عمرها، أنها تضربه ويسألونه متى سيحتفلون بزواجهما، ويهيلون الأوراق على رأسه قائلين أنه الثلج يسقط. ولكن أكاكي أكاكيفتش لم يكن يرد على ذلك بكلمة واحدة، كأنما لم يكن يقف أمامه أحد. بل ان ذلك حتى لم يؤثر على عمله، اذ لم يكن يرتكب خطأ واحداً في الكتابة وسط كل هذه السخريات. وفقط عندما تكون النكتة غير محتملة، وعندما كانوا يدفعونه في ذراعه، فيعوقونه عن العمل، كان يقول: "دعوني في حالي، لماذا تهينونني؟" كان يبدو ثمة شيء غريب في كلماته وفي الصوت الذي قيلت به. كان فيها شيء غريب في الشفقة ، حتى أن موظفا شابا التحق بالوظيفة حديثا وكان قد سمح لنفسه بالسخرية منه كما يفعل الآخرون، توقف فجأة كالمصعوق، ومن يومها بدا وكأنه كل شيء قد تغير أمام عينيه وتبدى في صورة أخرى. ودفعته قوة غير طبيعية مجهولة بعيداً عن زملائه الذين صاحبهم باعتبارهم أشخاصا محترمين مهذبين. وظل هذا الموظف بعد ذلك ولفترة طويلة وفي أوج لحظات المرح يتذكر الموظف القصير ذا الصلعة فوق الجبين بكلماته النافذة "دعوني في حالي، لماذا تهينونني؟".. وترن في هذه الكلمات النافذة كلمات أخرى: "أنا مثل أخيك". فكان الشاب المسكين من يغطي وجهه بيديه ويرتجف مرات ومرات عديدة بعد ذلك طوال عمره وهو يرى ما في الانسان من لا انسانية وإلى أي مدى تختفي الفظاظة الوحشية في التهذيب الراقي المرهف ويا الهي حتى في ذلك الانسان الذي يعتبره المجتمع نبيلا وشريفا.
ومن النادر أن تجد شخصا يتفانى في عمله إلى هذا الحد. فلا يكفي أن نقول أنه كان يعمل بغيرة، كلا، لقد كان يعمل بعشق. كان يرى في ذلك النسخ عالما خاصا به، عالما متنوعا ولطيفا. وكانت المتعة تتجلى في وجهه. وكانت بعض الحروف أثيرة لديه، وعندما يبلغها لا يعود يسيطر على نفسه. كان يضحك ويغمز بعينه ويساعد بشفتيه على كتابتها، حتى أنه كان يبدو أنه بالامكان أن تقرأ على وجهه الحرف الذي كان قلمه يخطه. ولو أنهم كافأوه بقدر حميته فربما أصبح، ولدهشته هو، من مستشاري الدولةولكنه، وكما قال زملاؤه المازحون. نال من الخدمة فتلة في عروة وفاز بمرض البواسير وألم الظهر. وعموما فلا يمكن أن نقول أنه لم يحظ بأدنى اهتمام. فقد أراد أحد المدراء، وكان رجلاً طيباً، أن يكافئه على النسخ، فكلفوه بأن يعد مذكرة من واقع ملف جاهز بالفعل لارسالها إلى جهة أخرى. ولم يكن الأمر يتعدى أكثر من تغيير العنوان الرئيسي وتعديل بعض الافعال من صيغة المتكلم إلى الغائب. ولكنه كلفه من الجهد ما جعله يعرق تماما ويحك جبينه، وأخيرا قال: "كلا، من الأفضل أن تعطوني شيئا ما أنسخه". ومن يومها أبقوه للنسخ إلى الأبد. وكان يبدو أنه لا يوجد بالنسبة له أي شيء خارج هذا النسخ. لم يكن يفكر في ملابسه أبدا: فحلته لم تكن خضراء اللون، بل ذات لون أحمر طحيني ما. وكانت ياقتها ضيقة، قصيرة، حتى أن عنقه، رغم أنه لم يكن طويلا، كان يبرز من الياقة ويبدو طويلا بصورة غير عادية. وكان يعلق بحلته دائما شيء: إما قطعة قش أو خيط ما. وعلاوة على ذلك كانت لديه مهارة خاصة أثناء سيره في الشارع في أن يتواجد تحت النافذة بالضبط في الوقت الذي يلقون منها شتى الفضلات، ولذلك كان يحمل على قبعته دائما قشر البطيخ والشمام وغير ذلك من التفاهات. ولم يحدث مرة واحدة في حياته أن التفت إلى ما يجري ويحدث كل يوم في الشارع ولا حتى إلى ما ينظر دائماً إليه أخوه الموظف الشاب. كما هو معروف، والذي تمتد نظرته الثاقبة النشطة إلى حد أنه يلاحظ على الرصيف الآخر من تفتقت ربطة ساق سرواله، الأمر الذي يجعل الابتسامة الخبيثة تظهر على وجهه.
أما أكاكي اكاكيفتش فحتى لو نظر إلى شيء فما كان ليرى فيه سوى سطوره النظيفة المكتوبة بحط منمق، اللهم إلا إذا استقرت على كتفه فجأة سحنة حصان لا يعلم أحد من أين جاءت ونفثت بمنخاريها في خده ريحا قوية. عندها فقط كان يلاحظ أنه ليس في وسط السطر، بل على الأرجح في وسط الشارع. وعندما يعود إلى المنزل كان يجلس على الفور إلى المائدة، فيلتهم بسرعة حساء الكرنب وقطعة لحم البقر بالبصل دون أن يحس أبدا بطعمها، وكان يأكل ذلك مع الذباب وكل ما كان الله يرسله في تلك الساعة. وعندما كان يلاحظ أن معدته بدأت تنتفخ ينهض من أمام المائدة ويستخرج دواة الحبر ويبدأ ينسخ الأوراق التي جاء بها معه إلى البيت. فإذا لم تكن لديه مثل هذه الأوراق كان يقوم بعمل نسخة لنفسه، فقط من أجل المتعة الشخصية، خاصة إذ كانت الورقة رائعة لا من حيث جمال صياغتها، بل من حيث انها مرسلة إلى شخصية جديدة أو هامة.
وحتى في تلك الساعات التي تنطفئ فيها تماما سماء بطرسبورغ الرمادية، وبعد أن تكون جماعة الموظفين كلها قد تعشت وشبعت، كل منهم حسب ما يتقاضاه من مرتب وحسب رغباته الخاصة، وبعد أن يكون الجميع قد ارتاحوا من صرير اقلام الادارات والركض بعد أداء الأعمال الخاصة واعمال الآخرين الضرورية، بعد كل ما يكلف به الانسان الذي لا يهدأ نفسه عن طواعية، بل وبأكثر مما ينبغي... وعندما يسرع الموظفون إلى تخصيص ما تبقى من وقت للمتعة: فالأنشط منهم ينطلق إلى المسرح، ومنهم من يخرج إلى الشارع مخصصا هذا الوقت للتطلع إلى بعض القبعات، ومنهم من يذهب إلى حفل ما لينفق الوقت في اسداء المديح لفتاة ما مليحة تعد نجمة من نجوم اوساط الموظفين الضيقة، ومنهم من يذهب ، وهذا هو الأكثر، إلى أخيه الذي يسكن في الطابق الرابع أو الثالث، في شقة من غرفتين صغيرتين ومدخل أو مطبخ وببعض ادعاءات الموضة كمصباح مثلا أو قطعة أثاث كلفت أصحابها تضحيات كثيرة وحرمانا من وجبات الغداء والنزهات.. وباختصار فحتى في الوقت الذي يجلس فيه الموظفون في شقق زملائهم الصغيرة ليلعبوا الورق وهم يرشفون الشاي من الأكواب مع قطع الخبز المحمص الرخيص وينفثون الدخان من الغلايين الطويلة ويروون أثناء توزيع الورق شائعة ما وردت من المجتمع الراقي..وباختصار فحتى عندما يسعى الجميع إلى اللهو فان اكاكي اكاكيفتش لم يكن يلجأ إلى أي لهو. ولا يستطيع أحد أن يقول أنه رآه في وقت ما في احدى الحفلات. فبعد أن يشبع من النسخ يأوي إلى فراشه وهو يبتسم سلفا مفكرا في يوم الغد: فغدا سيرزقه الله بشيء ما لينسخه. هكذا كانت تمضي حياة هذا الرجل الوادعة، هذا الرجل الذي كان راضيا عن حظه بالاربعمائة روبل التي يتقاضاها في السنة، وربما مضت إلى أرذل العمر لولا وجود شتى المصائب المتناثرة على درب الحياة ليس فقط أمام المستشارين الاعتبارين. بل والمستشارين السريين الفعليين ومستشاري البلاط وغيرهم من المستشارين وحتى اولئك الذين لا يقدمون استشارات لأي شخص ولا يطلبون المشورة من أحد. لا يقدمون استشارات لأي شخص ولا يطلبون المشورة من أحد.
ثمة في بطرسبورغ عدو لدود لكل من يتقاضى اربعمائة روبل في السنة أو زهاء هذا. وهذا العدو ليس إلا صقيعنا الشمالي، بالرغم من أنه يقال أنه مفيد جدا للصحة. ففي بداية الساعة التاسعة صباحا، وبالذات عندما تكتظ الشوارع بالذاهبين إلى العمل يبدأ هو في توجيه لذعات حادة قوية إلى جميع الأنوف دونما تمييز، حتى أن الموظفين المساكين لا يعرفون ابدا أين يخفونها. وفي تلك الساعة يشعر حتى أولئك الذين يشغلون مناصب عليا بألم في جباههم من البرد، وتطفر الدموع من عيونهم، أما المستشارون الاعتباريون المساكين فيصبحون أحيانا بلا حماية. والمخرج الوحيد هو أن يركضوا في معاطفهم الهزيلة بأسرع ما يستطيعون ليقطعوا خمسة أو ستة شوارع، ثم يدقون بأقدامهم جيدا في المدخل حتى يذيبوا بهذه الطريقة كل ما تجمد في الطريق من قدرات ومواهب على أداء الأعمال الوظيفية. ومنذ فترة قريبة بدأ أكاكي اكاكيفتش يحس بوخز شديد خاصة في ظهره وكتفه، على الرغم من أنه كان يحاول أن يقطع بأسرع ما يمكن المسافة المشروعة. وأخيرا فكر: ألا يرجع ذلك إلى بعض العيوب في معطفه. وعندما فحصه جيدا في المنزل اكتشف أنه أصبح في موضعين أو ثلاثة، وبالذات عند الظهر والكتفين، مثل الخيش تماما، فقد رق نسيجه إلى درجة أن الهواء صار ينفذ خلاله، اما البطانة فقد تهرأت. وينبغي أن نعرف أن معطف اكاكي اكاكيفتش كان أيضا مادة لسخريات الموظفين، بل لقد نزعوا عنه اسم المعطف النبيل وسموه قبوطا. وبالفعل فقد كان شكله غريبا. كانت ياقته تصغر عاما بعد عام لأنها كانت تستخدم في ترقيع الأجزاء الأخرى. ولم يظهر الترقيع مهارة الخياط، فكانت الرقع تبدو قبيحة وخرقاء. وعندما عرف اكاكي اكاكيفتش حقيقة الأمر قرر أن يأخذ المعطف إلى بتروفتش، الخياط الذي يقطن في شقة ما بالطابق الرابع من ناحية سلم الخدم والذي كان رغم عوره ووجهه المجدور كله يزاول بنجاح كبير تصليح معاطف الموظفين وسراويلهم وحللهم وما إلى ذلك، بالطبع عندما يكون مفيقا وليس في رأسه مشاريع أخرى. وما كان هذا الخياط ليستحق منا أن نتحدث عنه كثيرا، ولكن بما أن العادة جرت أن يحدد في القصة طبع كل شخصية بوضوح تام، فلا حيلة اذن، هيا قدموا لنا بتروفتش أيضاً. كان في البداية يدعى ببساطة غريغوري، وكان من رقيق الأرض عند أحد السادة. ثم أصبح يدعى بتروفتش عندما أعتق واصبح يسكر بشدة في جميع الأعياد، في البداية في الأعياد الكبيرة، وبعد ذلك دون تمييز في جميع الأعياد الدينية وحيثما وضعت اشارة الصليب أمام أي يوم من أيام التقويم.
وبينما كان اكاكي اكاكيفتش يصعد السلم المؤدي إلى بتروفتش أخذ يفكر في المبلغ الذي سيتطلبه بتروفتش وقرر في ذهنه ألا يعطيه أكثر من روبلين. كان الباب مفتوحا لأن ربة تقلي سمكا. فملأت المطبخ بالدخان إلى درجة أنه لم يعد من الممكن حتى رؤية الصراصير نفسها. ومر اكاكي اكاكيفتش عبر المطبخ، حتى دون أن يلاحظ ربة البيت ذاتها، إلى أن وصل أخيراً إلى غرفة رأى فيها بتروفتش جالساً على طاولة خشبية عريضة غير مطلية طاويا قدميه تحت كالباشا التركي. وكانت قدماه كعادة الخياطين الجالسين إلى عملهم، عاريتين. وأول ما لفت نظر اكاكي اكاكيفتش تلك الأصبع الكبيرة المعروفة جداً له ذات الظفر المشوه، الاصبع السمينة القوية كصدفة السلحفاة. ومن رقبة بتروفتش تدلت ثلة من الحرير والخيوط، وعلى ركبتيه حشو ما. كان منذ حوالي ثلاث دقائق يحاول دخال الخيط في ثقب الابرة ولا يستطيع ولذلك كان ساخطا على العتمة، بل وحتى على الخيط نفسه وهو يدمدم بصوت خافت: "لا يدخل هذا الوغد، أيها الملعون، أنهكتني!" وشعر اكاكي اكاكيفتش بالضيق من مجيئه في هذه اللحظة التي كان بتروفتش فيها غاضبا، فقد كان يحسب أن يوصي بتروفتش على شيء ما عندما يكون الأخير منتعشاً بعض الشيء أو كما كانت زوجته تقول: "عبّ من الهباب المسكر هذا الشيطان الأعور". ففي مثل هذه الحالة كان بتروفتش في العادة يتنازل ويوافق عن طيب خاطر، بل كان ينحني كثيرا ويلهج بالشكر. صحيح أن زوجته كانت تأتي بعد ذلك وهي تعول وتشكو من أن زوجها كان آنذاك ثملا ولذلك وافق على ثمن بخس. ولكن الأمر كان ينتهي بزيادة عشر كوبيكات فقط وتسوى الأمور. أما الآن فيبدو أن بتروفيتش غير ثمل، ولذلك فهو صعب المراس، لا يلين، وسيطلب على الأرجح ثمنا باهظا. أدرك اكاكي اكاكيفتش ذلك وأراد كما يقال أن يعود أدراجه. ولكنه كان قد بدأ الأمر. زر بتروفيتش عينه الوحيدة مسددا نظرتها الثاقبة إليه، فتفوه اكاكي اكاكيفتش مسلوب الارادة:
مرحبا، يا بتروفيتش.
فقال بتروفيتش:
مرحبا بكم، يا سيدي، - ونظر بطرف عينه نحو يدي اكاكي اكاكيفتش رغبة منه في أن يعرف ما هو الصيد الذي جاء به هذا إليه.
ها أنذا قد جئت إليك، يا بتروفيتش، بهذا.. يعني.. وينبغي أن نعرف أن اكاكي اكاكيفتش كان يعبر عن أفكاره في أغلب الأحوال بحروف الجر والظروف وأخيرا بالادوات التي ليس لها أي معنى على الاطلاق. أما اذا كانت المسألة صعبة جدا فقد كان من عادته ألا ينهي الجملة ابدا. ولذلك كان كثيرا ما يبدأ حديثه بهذه الكلمات: "هذا في الواقع.. يعني تماما.." وبعد ذلك لا يقول شيئاً، وينسى هو نفسه، وهو يظن أنه قد قال كل شيء.
ما هذا؟ - قال بتروفيتش وتفحص أثناء ذلك بعينه الوحيدة حلة اكاكي اكاكيفتش كلها ابتداء من الياقة حتى الاكمام والظهر والصدر والعراوي كل ما كان معروفا لديه جيدا لأنه كان من صنع يديه. تلك عادة الخياطين، وهذا أول ما يفعله الخياط عندما يلقاك.
وها أنذا، يا بتروفيتش، يعني.. المعطف.. الجوخ.. انظر، في كل مكان آخر ما زال متيناً، لقد تعفر قليلا، ويبدو وكأنه قديم، لكنه جديد، فقط في مكان واحد يعني.. على الظهر، وأيضاً هنا على كتف واحدة تلف قليلا، وعلى هذه الكتف أيضاً قليلا، أترى، هذا كل شيء ، عمل قليل..
أخذ بتروفتش القبوط وبسطه على الطاولة أولا وفحصه طويلا وهز رأسه ومد يده إلى النافذة ليأخذ علبة السعوط المستديرة والمرسوم عليها صورة جنرال ما، لا يعرف أي جنرال هو لأن المكان الذي كان وجهه مرسوما عليه قد ثقب وغطى بقطعة ورق مربعة واستنشق بتروفتش السعوط وبسط المعطف بين يديه وفحصه في مواجهة النور وهز رأسه ثانية. ثم قلبه، فجعل بطانته إلى أعلى وهز رأسه من جديد، ونزع من جديد غطاء العلبة بصورة الجنرال المغطى بورقة، وبعد أن حشا أنفه بالسعوط أغلق العلبة وخبأها وأخيرا قال:
كلا، لا يمكن اصلاحه، ملبس بال.
أحس اكاكي اكاكيفتش عند سماعه هذه الكلمات بوخزة في قلبه.
ولماذا لا يمكن، يا بتروفتش؟ - قال بصوت ضارع كصوت الطفل تقريبا. – كل ما فيه أنه أصبح خفيفا عند الكتفين، وأنت لديك حتما قطع ما.
نعم، يمكن أن أجد قطعا، القطع موجودة، - قال بتروفيتش . – لكن لا يمكن تثبيتها. النسيج مهترئ تماما. ما أن تلمسه بالابرة حتى يتفسخ.
فليتفسخ، أما أنت فلتضع رقعة على الفور.
ليس هناك ما توضع عليه الرقعة، لا يوجد ما تثبت عليه، انه مستهلك جدا. الاسم فقط جوخ، ولكن لو هبت عليه الريح فسيتطاير.
حاول أن تثبتها. كيف اذن في الواقع يعني؟!
كلا، - قال بتروفتش بحسم. – لا يمكن عمل شيء.
أما المعطف فيبدو أنك ستضطر إلى تفصيل واحد جديد.
عند سماع كلمة "جديد" غامت عينا اكاكي اكاكيفتش واختلط أمام نظره كل ما كان في الغرفة. لم ير بوضوح سوى الجنرال بوجهه المغطى بورقة على غطاء علبة سعوط بتروفتش.
معطف جديد.. كيف؟ - قال وكأنما لا يزال نائما. – ليس لدي نقود لذلك.
نعم، جديد، - قال بتروفتش بهدوء وحشي.
واذا اضطررت إلى معطف جديد فكيف يعني هو..
تقصد كم يساوي؟
نعم.
ثلاث ورقات من فئة الخمسين أو أكثر قليلا سيكون عليك أن تدفع، - قال بتروفتش وزمّ شفتيه زمة ذات مغزى. كان يحب جدا التأثيرات القوية، كان يحب أن يربك من أمامه فجأة بطريقة ما، ثم ينظر بعد ذلك بطرف عينه إلى التعبير الذي يكسو ملامح الشخص المرتبك بعد سماع كلمات الخياط.
وصرخ اكاكي اكاكيفتش المسكين:
مائة وخمسون روبلا لمعطف! – صرخ ربما لأول مرة في حياته، فقد كان معروفا دائما بصوته الخافت.
نعم، - قال بتروفتش. – وهذا يتوقف أيضاً على نوع المعطف. فلم وضعنا على الياقة فراء سنسار وبطنّا القلنسوة بالحرير فيصل إلى المائتين.
بتروفتش، أرجوك، - قال اكاكي اكاكيفتش بصوت ضارع وهو لا يسمع ولا يحاول أن يسمع ما قاله بتروفتش من كلمات وجميع تأثيراته. – أصلحه بأي شكل، لكي أستخدمه ولو فترة أخرى.
كلا، هذا لا يمكن. سيكون ذلك اهدارا للعمل وتضييعا للنقود عبثا، - قال بتروفتش، فخرج اكاكي اكاكيفتش من عنده بعد هذه الكلمات محطما تماما.
.
.
أما بتروفتش فقد ظل بعد خروجه واقفا مدة طويلة وقد زمّ شفتيه زمة ذات مغزى، وهو لا يشرع في العمل، وقد أرضاه أنه لم يفرط في كرامته، كما أنه لم يخنْ فنه كخياط.
عندما خرج اكاكي اكاكيفتش إلى الشارع كان كأنما في حلم. ومضى يحدث نفسه: "يا له من أمر، يا لها من قضية. في الحقيقة لم أكن أظن أن المسألة يعني ستكون..". وبعد فترة صمت استطرد: "هكذا إذن. هذا حقا غير متوقع أبدا يعني.. ابدا لكن.. يا لها من مسألة!" وبعد أن قال ذلك وبدلا من أن يذهب إلى البيت سار في اتجاه آخر تماما، وهو لا يدري. وفي الطريق احتك به منظف مداخن بجنبه الملوث، فسوّد له كتفه كلها. وانهال عليه كوم من الملاط من قمة منزل يجري بناؤه. فلم يلاحظ ذلك كله، وفيما بعد عندما اصطدم بالدركي الذي كان قد اسند بلطته إلى جواره وأخذ ينفض التبغ من علبة تبغه فوق راحته الخشنة، عندها أفاق اكاكي اكاكيفتش قليلا، وذلك فقط لأن الحارس قال له: "ما لك تندفع مصطدما بالسحنة، أليس أمامك رصيف؟" وقد جعله ذلك ينبه ويعود أدراجه إلى المنزل. وهنا فقط بدأ يستجمع شتات أفكاره، فرأى وضعه في صورته الحقيقية الواضحة وأخذ يحدث نفسه لا بعبارات متقطعة، بل بحكمة وصراحة كأنما يتحدث إلى زميل راجح يمكن أن تفضي إليه بأخص أسرار القلب. قال اكاكي اكاكيفتش: "لا، لا يمكن. الكلام مع بتروفتش الآن مستحيل، فهو الآن يعني .. يبدو أن زوجته ضربته علقة بشكل ما. الأفضل أن أذهب إليه صباح الأحد. فبعد السبت سيكون زائغ النظرات ونعسان وبحاجة إلى الشراب، وزوجته لن تعطيه نقودا. وعندئذ أدس يعني في يده عشرة كوبيكات، فيصبح الاتفاق معه أسهل، وعندئذ سيأخذ المعطف يعني.." هكذا حدث اكاكي اكاكيفتش نفسه وشجعها، وانتظر حلول يوم الأحد، وعندما رأى من بعيد زوجة بتروفتش تخرج لأمر ما من المنزل، توجه إليه مباشرة. وبالفعل كان بتروفتش بعد السبت زائغ النظرات بشدة، ورأسه مدلى نحو الأرض، وكان نعسان جداً. ورغم كل ذلك فما أن عرف بالأمر حتى اعتدل كأنما وخزه الشيطان وقال: "لا يمكن .. فلتتكرم بتفصيل معطف جديد". وهنا دس اكاكي اكاكيفتش في يده عشرة كوبيكات. فقال بتروفتش: "أشكرك، يا سيدي، سأشرب قليلاً في صحتك. أما بخصوص المعطف فلا تقلق، انه لا ينفع لأية منفعة. سأخيط لك معطفاً جديداً عظيماً، على هذا اتفقنا."
وأراد اكاكي اكاكيفتش أن يفتح فمه ليتحدث عن التصليح، ولكن بتروفتش لم يصغ إليه وقال: "سأخيط لك واحداً جديداً من كل بد، وبوسعك أن تعتمد علي في ذلك، سأبذل جهدي. ومن الممكن حسب الموضة الآن أن أركب الياقة بمشابك فضية".
وعندها أدرك اكاكي اكاكيفتش أنه لا يمكن التنصل من تفصيل معطف جديد، فانهار تماما. وبالفعل كيف يمكن أن يفصله، بأية نقود؟ ومن أين له؟ بالطبع كان من الممكن الاعتماد جزئياً على المكافأة القادمة بمناسبة العيد، ولكن هذا المبلغ قد وزع وحددت أوجه انفاقه سلفا منذ زمن بعيد. فقد كان من المطلوب اقتناء سروال جديد وتسديد دين قديم للاسكافي مقابل تركيب رقبة جديدة للحذاء القديم، وكان عليه أيضاً أن يوصي الخياطة على ثلاثة قمصان وعلى قطعتين من تلك الملابس التي لا يليق ذكر اسمها في نص مطبوع، وباختصار كان من المفروض انفاق المبلغ كله، وحتى لو تكرم المدير وصرف له بدلا من الاربعين روبلا المقررة خمسة وأربعين أو خمسين فلن يتبقى منها مع ذلك سوى شيء تافه لن يكون في رصيد المعطف سوى قطرة في بحر. رغم أنه كان يعرف طبعاً أنه كان من عادة بتروفتش أحياناً أن يطلب فجأة مبلغا لا يعقل، حتى أن زوجته كانت لا تتمالك نفسها فتصيح به: "ماذا دهاك، هل جننت، أيها الأحمق؟! مرة لا يرضى أن يعمل بأي حال، والآن يدفعه الشيطان إلى طلب سعر لا يساويه المعطف حتى مقابل ثمانين روبلا، ومع ذلك فمن أين يأتي بالثمانين روبلا هذه؟ ربما أمكن تدبير نصف المبلغ، نعم، ربما وجد نصفه، بل وربما أكثر قليلا، ولكن من أي يأتي بالنصف الآخر؟.. ولكن ينبغي أولاً أن يعرف القارئ من أين جاء النصف الأول. كان من عادة اكاكي اكاكيفتش أن يوفر من كل روبل ينفقه نصف كوبيك ويضعه في صندوق صغير يقفل ذي فتحة في غطائه لالقاء النقود فيها. وكان كل نصف عام يغير قطع النقود النحاسية المتجمعة هناك بقطع فضية. هكذا كان يفعل منذ زمن طويل، وعلى هذا النحو تجمع لديه خلال عدة سنوات مبلغ يفوق الأربعين روبلا. وهكذا فقد كان معه نصف المبلغ، ولكن من أين يأتي بالنصف الآخر؟ وفكر اكاكي اكاكيفتش طويلا، ثم قرر أنه ينبغي عليه أن يخفض نفقاته العادية، ولو خلال عام واحد على الأقل: أن يمتنع عن تناول الشاي كل مساء، ولا يشعل الشمعة مساء، فإذا تطلب الأمر أن يعمل فليذهب إلى غرفة صاحبة البيت ويعمل هناك على ضوء شمعتها وأن يسير في الشارع بأقصى ما يمكن من الخفة والحذر وهو يخطو فوق الأحجار والبلاط على أطراف أصابعه تقريبا لكي لا يبلى نعله بسرعة وأن يقلل ما أمكن من اعطاء ملابسه للغسالة، وحتى لا تبلى فعليه أن يخلعها كلما عاد إلى المنزل ويبقى فقط في الروب القطني العتيق جدا والذي رأف بحاله حتى الزمن نفسه. وللحقيقة ينبغي أن نقول أنه كان من الصعب عليه إلى حد ما في البداية أن يتعود على هذه القيود، ولكنه ألفها فيما بعد وسارت الأمور على ما يرام، بل انه تعود تماما على الجوع في المساء وفي المقابل فقد كان يتغذى معنويا، وهو يحمل في خاطره الفكرة الخالدة عن المعطف المقبل. ومنذ تلك اللحظة بدا وكأن وجوده نفسه أصبح أكثر اكتمالا، وكأنما تزوج ، كأنما أصبح يلازمه شخص ما، كأنما لم يعد وحيداً، بل وافقت شريكة حياة لطيفة على أن تمضي معه في درب الحياة، ولم تكن شريكة الحياة تلك سوى المعطف ذي الحشوة القطنية السميكة والبطانة المتينة التي لا تعرف البلى. وأصبح اكاكي اكاكيفتش أكثر حيوية، بل وأصبحت شخصيته أكثر صلابة كشخص حدد لنفسه هدفا وسعى إليه. واختفت من وجهه ومسلكه تلقائياً الشكوك والتردد أي كل الملامح المتذبذبة وغير المحددة. وكانت عيناه تتوقدان أحياناً، وكانت أكثر الخواطر جرأة وجسارة تومض في ذهنه: "فماذا لو ركّب فعلا ياقة من فراء السنسار!" وكاد التفكير في ذلك أن يجعله نهبا لشرود الذهن. فذات مرة أوشك أن يخطئ وهو ينسخ الأوراق حتى أنه صاح بصوت مسموع تقريبا: "أوه!" ورسم علامة الصليب. وكان كل شهر يزور بتروفتش مرة على الأقل لكي يتحدث عن المعطف: وأين يستحسن أن يشتري الجوخ ومن أي لون وبأي ثمن، وكان يعود من عنده مهموما بعض الشىء ، إلا أنه كان يعود راضياً دائما وهو يفكر في أنه سيأتي أخيراًَ ذلك الزمن الذي سيشتري فيه كل ذلك ويصبح المعطف جاهزاً. بل لقد سارت الأمور بأسرع مما كان يتوقع. فخلافا لكل الأحلام قرر المدير لاكاكي اكاكيفتش لا أربعين أو خمسة وأربعين روبلا، بل ستين روبلا كاملة. وسواء أحس المدير أن اكاكي اكاكيفتش بحاجة إلى معطف أم أن ذلك حدث عفوا فقد أصبح لديه نتيجة لذلك عشرون روبلا زيادة. وعجل هذا الوضع بسير الأمور. فبعد شهرين أو ثلاثة من الجوع البسيط أصبح لدى اكاكي اكاكيفتش بالضبط حوالي ثمانين روبلا. وبدأ قلبه الذي كان هادئاً للغاية بصفة عامة، يدق. وفي نفس اليوم ذهب مع بتروفتش إلى المحلات. وابتاعا قماشا جيدا جدا. ولا عجب. فقد كانا يفكران في ذلك قبلها بنصف عام، ونادرا ما مر شهر دون أن يذهبا إلى المحلات للنظر في الأسعار. وفي المقابل فقد قال بتروفتش نفسه أنه ليس هناك جوخ أفضل منه. واختار للبطانة قماشا بفتة، ولكنه كان متينا وسميكا وحسب كلام بتروفتش أفضل من الحرير، بل وكان منظره أبهى وأكثر لمعانا. ولم يشتريا فراء السنسار لأنه كان بالفعل غاليا، وبدلا منه اختارا فراء قط أفضل لم يجدا غيره في المحل، فراء قط يمكن دائما أن تظنه فراء سنسار اذا نظرت إليه من بعيد. واستغرق بتروفتش اسبوعين في خياطة المعطف لأنه تطلب الكثير من التنجيد، ولولا ذلك لفرغ منه قبل ذلك. وأخذ بتروفتش اثني عشر روبلا أجرا، ولم يكن من الممكن اعطاؤه أقل من ذلك: فقد كانت الخياطة كلها بخيوط من الحرير وبخياطة دقيقة مزدوجة، ومر بتروفتش على كل الخياطة بأسنانه بعد ذلك مزيلا بها شتى النتوءات. وكان ذلك في.. من الصعب أن نقول في أي يوم كان ذلك بالضبط، ولكنه على الأرجح كان أكثر الأيام مهابة في حياة اكاكي اكاكيفتش، وذلك عندما جاءه بتروفتش أخيراً بالمعطف. جاء به في الصباح بالضبط قبيل الوقت الذي كان على اكاكي اكاكيفتش فيه أن يذهب إلى الادارة. وجاء هذا المعطف في وقت ليس هناك ما هو أكثر منه مناسبة: فقد بدأ بالفعل الصقيع الشديد، وبدا أنه ينذر بمزيد من البرد. وجاء بتروفتش بالمعطف كما ينبغي أن يأتي خياط جيد, فقد ظهر على وجهه تعبير أهمية لم يره اكاكي اكاكيفتش عليه من قبل قط. وبدا أنه يدرك الهوة التي تفصل بين الخياطين الذين يركبون البطانات فقط ويصلحون الملابس والخياطين الذين يخيطون الملابس الجديدة. وأخرج بتروفتش المعطف من المنديل الذي لفه به. وكان المنديل خارجا من أيدي الغسالة لتوه. وقد لفه بتروفتش بعد ذلك ووضعه في جيبه للاستعمال. وبعد أن أخرج المعطف نظر إليه بزهو شديد وأمسكه بكلتا يديه، ثم ألقى به بمهارة شديدة على كتفي اكاكي اكاكيفتش. ثم شده وسواه بيده من الخلف إلى أسفل. ثم مر بيده على المعطف، وهو مسدل على كتفي اكاكي اكاكيفتش. ولكن اكاكي اكاكيفتش كرجل متقدم في العمر أراد أن يجرب المعطف وقد ارتداه بأكمامه. فساعده بتروفتش على ارتدائه بأكمامه، فظهر أنه جيد بالأكمام أيضاً. وباختصار فقد اتضح أن المعطف كان على مقاسه بالضبط. ولم ينس بتروفتش بهذه المناسبة أن يقول أنه فقط لأنه يعيش بدون لافتة وفي شارع صغير وفوق ذلك يعرف اكاكي اكاكيفتش منذ فترة طويلة فقد تقاضى أجراً قليلا إلى هذا الحد. أما في شارع "نيفسكي" فكانوا سيأخذون منه خمسة وسبعين روبلا على الخياطة فقط. ولم يشأ اكاكي اكاكيفتش أن يجادل بتروفتش في ذلك، وعلاوة على ذلك فقد كان يخاف من تك المبالغ القوية التي كان يحلو لبتروفتش أن يوهم بها الزبائن. فنقده أجره وشكره وخرج على الفور في المعطف الجديد إلى الادارة. وخرج بتروفتش في أثره ووقف ففي الشارع ينظر طويلا إلى المعطف من بعيد. ثم انعطف عن عمد إلى حارة ملتوية لكي يختصر الطريق ويعود إلى الشارع ثانية وينظر مرة أخرى إلى المعطف ولكن من ناحية أخرى أي من الوجه مباشرة. بينما كان اكاكي اكاكيفتش يسير ومشاعر البهجة تغمره. كان يشعر كل لحظة بأن على كتفيه معطفا جديدا، بل وضحك عدة مرات من السرور الداخلي. وبالفعل فقد كانت هناك منفعتان: واحدة هي أنه دافئ والأخرى أنه حسن. ولم يلحظ الطريق ابدا ووجد نفسه في الادارة فجأة. وفي غرفة الحاجب خلع المعطف وتفحصه من جميع الجهات ووضعه في رعاية الحاجب الخاصة. ولا نعرف كيف علم جميع من في الادارة فجأة أن لدى اكاكي اكاكيفتش معطفا جديدا، وأن معطفه السابق لم يعد له وجود بعد. وفي نفس اللحظة هرول الجميع إلى غرفة الحاجب ليروا معطف اكاكي اكاكيفتش الجديد. وراحوا يهنئونه ويحيونه ، حتى أنه في البداية أخذ يبتسم فقط، ثم شعر بعد ذلك بالخجل، وعندما أخذ الجميع، وقد أحاطوا به، يقولون أنه لا بد من تدشين المعطف الجديد وأنه ينبغي عليه على الأقل أن يقيم لهم جميعا حفلا، ارتبك اكاكي اكاكيفتش تماما، ولم يعرف ماذا يفعل وبم يردّ وكيف يتملص. وبعد بضع دقائق، وقد احمرّ كله، راح يؤكد لهم بسلامة نية أن هذا المعطف ليس جديدا ابدا وإنما هكذا مجرد معطف قديم. وأخيرا قال أحد الموظفين، بل كان أحد مساعدي رئيس القلم، ربما لكي يظهر أنه ليس متكبرا ابدا، بل ويتعامل مع من هم أدنى منه، قال: "طيب، فليكن. أنا سأقيم لكم حفلا بدلا من اكاكي اكاكيفتش، وأدعوكم اليوم لتناول الشاي. واليوم بالمناسبة عيد ميلادي". وعلى الفور هنأ الموظفون مساعد رئيس القلم وقبلوا دعوته بكل سرور. وأراد اكاكي اكاكيفتش أن يعتذر، ولكن الجميع راحوا يقولون أن ذلك لا يليق وأنه شيء معيب ومخجل، فلم يستطع أبدا أن يرفض الدعوة. وعلى العموم فقد شعر فيما بعد بالسرور عندما تذكر أن ذلك سيتيح له فرصة السير مساء أيضا في المعطف الجديد. وكان هذا اليوم كله بالنسبة اكاكي اكاكيفتش كأنما أكبر وأبهى عيد. وعاد إلى البيت في أسعد حالة ونزع المعطف وعلقه بحرص على الجدار، وقد ملى عينيه مرة أخرى من الجوخ والبطانة، ثم أخرج معطفه القديم عمدا بقصد المقارنة، ذلك المعطف الذي تهرأ تماما. تطلع إليه، فضحك هو نفسه منه، فما أبعد الفرق بينهما! وظل بعد ذلك وطوال الغداء يضحك كلما خطرت له حالة معطفه السابق. وتناول الغداء بمرح، ولم ينسخ شيئاً بعد الغداء، لم يمسك بأية أوراق، بل تمرغ فراشه قليلا حتى هبط الظلام. ثم ارتدى المعطف دون تسويف وخرج إلى الشارع. وللأسف فإننا لا نستطيع أن نقول أين كان يسكن الموظف الذي دعاه، فقد بدأت الذاكرة تخوننا بشدة، فاختلط علينا كل شيء في بطرسبورغ. واندمجت كل البيوت والشوارع في الرأس. حتى أصبح من الصعوبة بمكان أن نستخرج منها شيئاً ما في صورة متسقة. وأيا كان الأمر إلا أن الشيء الصحيح على الأقل هو أن الموظف كان يسكن في أحسن مناطق بطرسبورغ، وبالتالي بعيدا جدا عن اكاكي اكاكيفتش. كان على اكاكي اكاكيفتش في البداية أن يمر عبر بعض الشوارع المقفرة ذات الإضاءة الهزيلة. ولكن بقدر اقترابه من شقة الموظف أصبحت الشوارع أكثر حيوية وحركة واضاءة. وبدأ المارة يلوحون أكثر، ولاحت السيدات الأنيقات، وظهرت على الرجال ياقات من فراء السمور، ولم تظهر الا نادرا الزخارف الشعبية الخشبية المليئة بالمسامير المذهبة، وعلى العكس من ذلك كثر الحوذيون المندفعون بسرعة بطواقيهم المخملية القرمزية، وبزحافاتهم المطلية باللاك اللامع وبالأغطية المصنوعة من جلود الدببة، وكانت العربات ذات مقاعد الحوذية المزينة تنهب الشارع وعجلاتها تصر على الثلج. وتطلع اكاكي اكاكيفتش إلى ذلك كله وكأنما يراه للمرة الأولى. إذ لم يخرج من داره مساء منذ عدة سنوات. وتوقف بفضول أمام واجهة متجر مضاءة ليتفرج على لوحة كانت تصور امرأة ما جميلة تخلع حذاءها كاشفة بذلك عن ساقها كلها، وكانت ساقا لا بأس بها أبدا. ومن خلفها أطل من باب غرفة أخرى رجل بسالفين ولحية جميلة تحت شفته. وهزّ اكاكي اكاكيفتش رأسه وضحك ضحكة قصيرة، ثم مضى في حال سبيله. فهل يا ترى ضحك لأنه رأى شيئاً غير معروف له، ولكنه مع ذلك يترك في نفس كل من يراه حدسا ما، أم أنه ضحك لأنه فكر مثل كثيرين من الموظفين بهذه الصورة: "آه من هؤلاء الفرنسيين! ماذا بوسعك أن تقول.. فهم اذا أرادوا شيئا ما يعني فهو بالضبط يعني.." وربما لم يفكر حتى في هذا، فمن الصعب أن تقحم نفسك في دخيلة انسان ما لتعرف فيم يفكر. وأخيرا وصل إلى البيت الذي كان يقطنه مساعد رئيس القلم.
كان مساعد رئيس القلم يحيا في بحبوحة من العيش: فعلى سلم المدخل كان مصباح مضاء، وكانت شقته في الطابق الثاني. وعندما دخل اكاكي اكاكيفتش إلى الردهة رأى على الأرض صفوفا من الخفوف. وبينها، في وسط الغرفة كان هناك سماور يغلي وينفث سحبا من البخار. وعلى الجدران علقت معاطف وأردية. كان من بينها معاطف بياقات من فراء السمور أو بطيات صدور من المخمل. وتناهى من وراء الجدار صخب ولغط أصبحا فجأة واضحين ورنانين عندما فتح الباب وخرج منه خادم يحمل صينية غاصة بالأكواب الفارغة ودورق حليب وسلة خبز مجفف. وكان واضحا أن الموظفين مجتمعون مدة طويلة وقد شربوا أول كوب شاي. وبعد أن علق اكاكي اكاكيفتش معطفه بنفسه داخل الغرفة، وفي نفس الوقت لاحت أمام ناظريه الشموع والموظفون والغلايين وموائد لعب الورق، وأصم سمعه حديث متصاعد من جميع الجهات وجلبة مقاعد يحركونها. فتوقف في وسط الغرفة مرتبكا تماما، وهو يبحث ويحاول أن يجد لنفسه شيئاً يفعله. ولكنهم كانوا قد لاحظوا وجوده، فاستقبلوه بالصياح ومضوا على الفور إلى الردهة وتفرجوا على معطفه مرة اخرى. ورغم أن اكاكي اكاكيفتش كان محرجا بعض الشيء، ولكنه، اذ كان شخصا سليم النية، لم يستطع إلا أن يفرح، وهو يرى أن الجميع يمتدحون المعطف. وبعد ذلك بالطبع تركوه ومعطفه واتجهوا كما هو متبع إلى موائد لعب الورق. وكان كل ذلك: الصخب واللغط وهذا الحشد من الناس، كان كل ذلك عجيباً بالنسبة لاكاكي اكاكيفتش. لم يكن يدري كيف يتصرف ولا ماذا يفعل بيديه وساقيه وجسمه كله. وأخيرا جلس إلى اللاعبين وتطلع إلى أوراق اللعب وحدق في وجه هذا وذلك وبعد فترة من الوقت بدأ يتثاءب ويشعر بالملل خاصة وأنه قد حان منذ زمن بعيد الموعد الذي كان عادة يأوي فيه إلى الفراش. وأراد أن يستأذن من رب الدار في الانصراف، ولكنهم لم يسمحوا له قائلين أنه لا بد من تناول كأس شمبانيا بمناسبة المعطف الجديد. وبعد ساعة قدموا العشاء المكون من سلطة روسية ولحم عجول بارد وكبد مهروس وقطع جاتوه وشمبانيا. وأجبروا اكاكي اكاكيفتش على شرب كأسين من الشمبانيا أحس بعدهما أن الجو في الغرفة أصبح أكثر مرحا، الا أنه لم يستطع أبدا أن ينسى أن الساعة بلغت الثانية عشرة وأن وقت عودته إلى البيت قد حان منذ زمن بعيد. ولكيلا يحاول صاحب البيت أن يستبقيه بطريقة ما خرج اكاكي اكاكيفتش من الغرفة بهدوء وبحث عن معطفه في الردهة، فوجده للأسف ملقى على الأرض، فتناوله ونفضه ونزع منه كل ما علق به من زغب ووضعه على كتفيه ونزل على السلم إلى الشارع. كان الشارع لا يزال مضيئاً. وكانت بعض المتاجر الصغيرة، هذه النوادي الدائمة للبوابين وغيرهم من الناس، لا تزال مفتوحة، أما البعض الآخر المغلق فكان يصدر عنه رغم ذلك شريط ضوء طويل عبر شق الباب كله، الأمر الذي كان يدل على أنها لم تخل بعد من تجمع بشري، اذ يبدو أن البوابين والسيّاس أو الخدم يوشكون على الفراغ من أحاديثهم ورواياتهم موقعين أسيادهم في حيرة كاملة بخصوص أماكن تواجدهم. سار اكاكي اكاكيفتش مرح النفس حتى انه هم بالركض فجأة لسبب مجهول وراء سيدة ما مرقت بجواره كالبرق، وكان كل طرف من أطراف جسدها مفعما بحركة غير عادية. الا أنه مع ذلك توقف على الفور وسار كما في السابق بهدوء شديد ودهش هو نفسه من ركضه الذي لا يعرف من أين حل عليه. وسرعان ما امتدت أمامه تلك الشوارع الخاوية التي لا تتسم بمرح خاص حتى في النهار، فما بالك بالمساء. لقد أصبحت الآن أكثر خواء وعزلة. ومضت المصابيح أضعف، اذ يبدو أن الزيت فيها أصبح قليلا، وبدأت تلوح المنازل الخشبية والاسيجة. ولم يكن هناك أحد على الاطلاق . الثلج فقط هو الذي كان يلمع في الشوارع، ولاحت الأشباح السوداء الحزينة للأكواخ المنخفضة النائمة بنوافذها الموصدة الشيش. واقترب من ذلك المكان الذي كان الشارع يتقاطع فيه مع ميدان لا نهاية له لا تكاد المنازل تبين في طرفه الآخر. وكان هذا الميدان يبدو كصحراء رهيبة.
.
ومن بعيد، من مكان لا يعلمه إلا الله، ومض ضوء في كشك حراسة بدا وكأنه قائم في آخر الدنيا. وهنا انخفض مرح اكاكي اكاكيفتش إلى حد كبير. ودخل الميدان باحساس لاارادي بالخوف كأنما كان قلبه يحدسه بشر. ونظر خلفه وتلفت حواليه. فبدا كأنما كان قلبه يحدسه بشر. ونظر خلفه وتلفت حواليه. فبدا ما حوله وكأنه بحر. فقال في نفسه: "كلا، من الأفضل ألا أنظر"، - وسار مغمض العينين، وعندما فتحهما ليعرف هل أوشك الميدان على الانتهاء أم لا، رأى أمامه فجأة، تحت أنفه تقريبا، شخصين ما بشوارب، ولكنه لم يستطع حتى أن يميز أي شخصين هما. وغامت عيناه وخفق قلبه بعنف. "ولكن هذا المعطف معطفي!" – قال أحدهما بصوت راعد وأمسك بياقة معطفه. واراد اكاكي اكاكيفتش أن يصرخ: "النجدة!"، ولكن الآخر دس أمام فمه مباشرة قبضة بحجم رأس موظف ودمدم: "حاول أن تصرخ". ولم يشعر اكاكي اكاكيفتش إلا وهما ينزعان عنه المعطف، ثم ركلاه ركلة قوية، فسقط على وجهه فوق الثلج، ولم يعد يشعر بشيء أكثر من ذلك. وبعد بضع دقائق عاد إلى وعيه، فنهض على قدميه. ولكن لم يكن هناك أحد. وأحس أن الجو بارد وأن المعطف ليس موجودا، فأخذ يصرخ، ولكن صوته كما بدا لم يكن ينوي أن يبلغ آخر الميدان. فانطلق اكاكي اكاكيفتش يركض في يأس، وهو لا يكف عن الصراخ،. ، متجها، عبر الميدان إلى كشك الحراسة مباشرة حيث كان الدركي يقف متكئا على البلطة. وهو يتطلع فيما يبدو بفضول ويريد أن يعرف أي شيطان دفع هذا الشخص إلى الركض نحوه صارخا من بعيد. وعندما بلغه اكاكي اكاكيفتش راح يصرخ بصوت مختنق بأنه نائم ولا يحرس شيئاً ولا يرى كيف ينهبون الناس. فأجاب الدركي بأنه لم ير شيئا وأنه رأى كيف استوقفه شخصان وسط الميدان، ولكنه ظن أنهما من معارفه. وأنه بدلا من السباب عبثا من الأفضل أن يذهب غدا إلى المفتش، وسيعثر المفتش على من سرق المعطف. وعاد اكاكي اكاكيفتش إلى المنزل في اضطراب تام، فقد تبعثر شعره الذي تبقى لديه بكمية صغيرة عند صدغيه ومؤخرة رأسه، وكان جنبه وصدره وسرواله ملوثة بالثلج كلها. وعندما سمعت العجوز، صاحبة شقته دقا رهيبا على الباب نهضت من فراشها على عجل وركضت بفردة شبشب واحدة في قدمها لتفتح الباب وقد شدت بإحدى يديها القميص على صدرها من التواضع. ولكن عندما فتحت الباب تراجعت إلى الخلف إذ رأت اكاكي اكاكيفتش في هذه الهيئة. وعندما قص عليها ما حدث له أشاحت بيديها وأشارت عليه بأن يذهب مباشرة إلى مأمور القسم، لأن شرطي الحي سيخدعه، فسيعده بالبحث، ثم يماطل بعد ذلك. أفضل شيء أن يذهب إلى المأمور مباشرة، بل انها تعرف المأمور لأن الفنلندية التي كانت تعمل عندها طاهية، أصبحت تعمل الآن عند المأمور مربية، كما أنها كثيرا ما تراه شخصيا عندما يمر بجوار منزلهم، كما أنه يتردد على الكنيسة كل أحد ليصلي وفي الوقت نفسه يتطلع إلى الجميع بمرح، ولذلك فهو على ما يبدو رجل طيب. وبعد أن سمع اكاكي اكاكيفتش هذا القرار جر ساقيه حزينا إلى غرفته. أما كيف قضى ليلته فلنترك الحكم على ذلك لمن يستطيع أن يتخيل ولو إلى حد ما وضع شخص آخر. وفي الصباح الباكر مضى إلى المأمور. فقيل له أنه نائم. وعاد في العاشرة، فقيل له ثانية أنه نائم. فعاد في الحادية عشرة ، فقيل له أن المأمور غادر البيت. فعاد ساعة الغداء، الا أن الكتبة في المدخل لم يريدوا أن يسمحوا له بالدخول وأصروا على أن يعرفوا الغرض من زيارته وماذا يريد وماذا حدث. لكن اكاكي اكاكيفتش أراد أخيرا أن يبدي صلابة ولو مرة في حياته، فقال بلهجة قاطعة أنه يريد مقابلة المأمور نفسه وأنهم لا يملكون الحق أن يمنعوه من مقابلته وأنه جاء من الادارة في عمل رسمي وأنه سوف يشكوهم وعندئذ سيرون. ولم يستطع الكتبة أن يقولوا شيئاً أمام ذلك. فذهب أحدهم لاستدعاء المأمور. وكان موقف المأمور من روايته عن السرقة غريبا للغاية. فبدلا من أن يوجه اهتمامه إلى النقطة الأساسية في الموضوع راح يسأل اكاكي اكاكيفتش لماذا عاد في هذه الساعة المتأخرة وألم يعرج في الطريق على أحد المنازل المشبوهة حتى أن اكاكي اكاكيفتش أحرج تماما وخرج من عنده، وهو لا يعرف هل ستسير قضية معطفه كما ينبغي أم لا. لقد قضى هذا النهار كله غائبا عن العمل (المرة الوحيدة في حياته). وفي اليوم التالي جاء شاحبا وفي قبوطه القديم الذي أصبح أكثر بؤسا. وهزت قصة سرقة المعطف قلوب الكثيرين بالرغم من أنه كان هناك بعض الموظفين الذين لم يتورعوا حتى في هذه المناسبة عن السخرية باكاكي اكاكيفتش. وقرروا على الفور أن يجمعوا له تبرعا، إلا انهم جمعوا مبلغا تافها لأن الموظفين كانوا قد أنفقوا الكثير في الاكتتاب لرسم صورة للمدير وفي شراء كتاب ما اقترحه عليهم رئيس القسم الذي كان صديقا للمؤلف. وهكذا جمعوا مبلغا تافها للغاية. وقرر أحدهم بوازع من الشفقة أن يساعد اكاكي اكاكيفتش على الأقل بنصيحة طيبة، فأشار عليه بألا يذهب إلى شرطي الحي، إذ بالرغم من أنه قد يحدث أن يتمكن الشرطي رغبة منه في كسب تقدير الرؤساء من العثور على المعطف بطريقة ما، لكن المعطف مع ذلك سيبقى في قسم البوليس ما لم يقدم اكاكي اكاكيفتش أدلة قانونية على ملكيته له. أفضل شيء أن يقصد احدى الشخصيات الهامة، فهذه الشخصية الهامة تستطيع بالاتصال ومخاطبة من ينبغي أن تدفع القضية بنجاح أكبر. ولم يكن أمام اكاكي اكاكيفتش من مفر، إنما ينبغي أن نعلم أن إحدى الشخصيات الهامة أصبح منذ فترة قريبة شخصية هامة، أما قبل ذلك فكان شخصية غير هامة. على أية حال فإن منصبه لا يعتبر حتى الآن هاما بالمقارنة مع المناصب الأخرى الأكثر أهمية. غير أنك ستجد دائما دائرة من الناس الذين يعتبرون مهما ما يبدو في عيون الآخرين غير مهم. على أية حال حاول هذه الشخصية الهامة أن يزيد من أهميته بوسائل أخرى كثيرة، وبالتحديد فقد عمل على أن يستقبله الموظفون الصغار على السلم ساعة حضوره إلى وظيفته وألا يجرؤ أحد على الدخول إليه مباشرة، بل يمضي كل شيء وفق نظام صارم: أن يبلغ المساعد الاعتباري سكرتير المحافظ، ويبلغ سكرتير المحافظ المستشار الاعتباري أو شخصا آخر، وبهذه الطريقة يبلغ الأمر إليه. هكذا تنتشر عدوى التقليد إلى كل شيء في روسيا المقدسة، ويحاول كل شخص أن يقلد رئيسه ويتشبه به. بل انه يقال أن مستشارا اعتباريا ما عندما عينوه رئيسا لاحدى الادارات الصغيرة المستقلة، اقتطع لنفسه على الفور غرفة خاصة وسماها "غرفة الحضور" ووضع على بابها حجابا ما بياقات حمراء، كانوا يمسكون بمقبض الباب ويفتحونه أمام كل وافد على الرغم من أن "غرفة الحضور" كانت لا تتسع إلا بالكاد لطاولة مكتب عادية. لقد كانت أساليب وعادات الشخصية الهامة رصينة ومهيبة ولكن دون تعقيد. كانت الصرامة هي القاعدة الأساسية لنظامه. وكان يقول عادة: "الصرامة والصرامة، ثم الصرامة" وعند الكلمة الأخيرة يحدق في العادة بأهمية في وجه من يخاطبه. رغم أن ذلك على أية حال لم يكن له أدنى مبرر لأن الموظفين العشرة الذين كانوا يشكلون كل الجهاز الحكومي للادارة، كانوا حتى بدون ذلك مرعوبين بدرجة كافية. فما أن يروه من بعيد حتى يتركوا عنهم أعمالهم ويقفوا في انتباه منتظرين حتى يمر الرئيس عبر الغرفة. وكان حديثه العادي مع مرؤوسيه يتسم بالصرامة ويتألف تقريبا من ثلاث جمل: "كيف تجرؤ؟ هل تعلم مع من تتحدث؟ هل تفهم أمام من تقف؟" على أية حال كان في قرارته رجلا طيبا، لطيفا مع رفاقه، خدوما، الا أن رتبة الجنرال أفقدته توازنه. فما أن حصل على رتبة الجنرال حتى ارتبك وضل طريقه ولم يعرف ابدا كيف يتصرف. فاذا حدث أن اجتمع مع أناس من مستواه كان يبدو انسانا وكما ينبغي انسانا مستقيما جدا، بل وحتى انسانا غير غبي في كثير من النواحي. ولكن ما أن يتواجد في مجتمع فيه أشخاص أدنى منه ولو برتبة واحدة حتى يصبح شخصا لا أمل منه: كان يركن إلى الصمت، ويثير وضعه الشفقة، خاصة وأنه هو نفسه كان يشعر بأنه كان من الممكن أن يقضي وقته بصورة أفضل بكثير. وكانت تتبدى في عينيه أحيانا رغبة قوية المشاركة في أحد الأحاديث أو الانضمام إلى احدى الحلقات الشيقة، فتصده عن ذلك فكرة: "لن يكون ذلك تنازلا كبيرا من جانبه؟ ألن يكون في ذلك رفع للكلفة، ألن يكون في ذلك اهدارا لأهميته؟" ونتيجة لهذه الأفكار يظل دائما في نفس حالة الصمت التي لا تتغير، فلا يتفوه الا نادرا بأصوات أحادية المقاطع حتى استحق لقب أضجر انسان. إلى هذه الشخصية الهامة توجه صاحبنا اكاكي اكاكيفتش ووصل في وقت غير موات أبدا وغير مناسب أبدا له وان كان على أية حال مناسبا للشخصية الهامة.


كان صاحبنا الشخصية الهامة في غرفة مكتبه يتحدث، وهو في غاية المرح، مع شخص جاء منذ طويل. وفي هذه الأثناء أبلغوه أن شخصا يدعى بشماتشكين يريد مقابلته. فسأل باقتضاب: "من القادم؟" فأجابوه: "أحد الموظفين". فقال الرجل الهام: "آه، فلينتظر، لا وقت عندي الآن". ومن المناسب هنا أن نذكر أن الرجل الهام قد كذب تماما: فقد كان لديه وقت، اذ أنه انتهى منذ زمن بعيد من الحديث مع زميله حول كل شيء، ومنذ زمن بعيد أخذت تتخلل حديثهما فترات صمت طويلة، وبين الحين والحين يربت أحدهما على ساق الآخر مرددا: "هكذا يا ايفان ابراموفتش!" – "نعم، يا ستيبان فارلاموفتش!" ومع ذلك ورغم كل شيء فقط أمر الموظف أن ينتظر لكي يظهر لزميله، هذا الرجل الذي لم يمارس الخدمة منذ زمن بعيد واستقر في داره بالقرية. كم من الزمن ينتظره الموظفون في الردهة. وأخيرا وبعد أن شبعا من الكلام وبعد أن شبعا أكثر من الصمت ودخن كل منهما سيجارا في كراس وثيرة للغاية بمساند متحركة قال وكأنما تذكر فجأة للسكرتير الذي وقف بجوار الباب حاملا أوراقا ليقدم له التقارير: "نعم، أعتقد أن هناك موظفا ينتظر، أخبره أنه يستطيع أن يدخل". وعندما رأى هيئة اكاكي اكاكيفتش المستكينة ومعطفه الرسمي القديم التفت نحوه فجأة وقال: "أي خدمة؟" – بصوت قاطع حاسم تدرب عليه من قبل في غرفته على انفراد أمام المرآة، وذلك قبل أسبوع من توليه منصبه الحالي ورتبة الجنرال. وكان اكاكي اكاكيفتش قد تملكه الوجل قبل ذلك بوقت طويل، فارتبك قليلا، ثم مضى يشرح له قضيته كيفما استطاع وعلى قدر ما سمحت له طلاقة لسانه مع اللجوء أكثر من أي وقت سبق إلى استخدام كلمة "يعني"، فقال أنه كان لديه معطف جديد تماما، وها قد نهب بصورة لا انسانية، وأنه يتوجه إليه لكي يتشفع له بما لديه يعني ولكي يخاطب السيد مدير الشرطة أو غيره من المسئولين لكي يجدوا المعطف. ولسبب ما بدت هذه اللهجة للجنرال خالية من الكلفة ، فقال له بصوت قاطع:
ما هذا، يا سيدي المحترم، ألا تعرف النظام؟ إلى أين جئت؟ ألا تعرف كيف تصرف الأمور؟ كان ينبغي قبل كل شيء أن تقدم طلبا في الادارة، فيرفع الطلب إلى رئيس القلم، ثم إلى رئيس القسم، ثم إلى السكرتير، وعندئذ يرفعه السكرتير إلي..
ولكن ، يا صاحب المعالي، قال اكاكي اكاكيفتش محاولاً أن يستجمع آخر حفنة تبقت لديه من الشجاعة، وهو يشعر في الوقت نفسه أن العرق يتصبب منه بصورة فظيعة. – أنا، يا صاحب المعالي، لم اجرؤ على ازعاج معاليكم إلا الآن، السكرتيرين يعني ... لا يعتمد عليهم ...
فقال ذو الشخصية الهامة:
ماذا، ماذا، ماذا؟ من أين جئت بهذه الجرأة؟ من أين جئت بهذه الأفكار؟ ما هذا التمرد الذي انتشر بين الشباب ضد الرؤساء والكبار؟
ويبدو أن الشخصية الهامة لم يلاحظ أن اكاكي اكاكيفتش قد جاوز الخمسين. وبالتالي فلو كان من الممكن اعتباره شابا فلا يعدو ذلك الا أن يكون أمراً نسبيا أي بالنسبة لمن هم في السبعين.
أتدري لمن تقول هذا الكلام؟ هل تفهم أمام من تقف؟ هل تفهم ذلك؟ هل تفهم ذلك؟ انني أسألك.
وهنا دق بقدمه رافعا صوته إلى طبقة عالية إلى درجة أنه حتى لو كان الواقف أمامه شخصا غير اكاكي اكاكيفتش لأصابه الرعب. أما اكاكي اكاكيفتش فقد صعق وترنح، واهتز بدنه كله، ولم يتمكن أبدا من الوقوف. ولولا أن الحراس هرعوا راكضين واسندوه لانهار على الأرض. وحملوه من الغرفة، وهو بلا حراك تقريبا. أما الشخصية الهامة، وقد أرضاه أن تأثير كلماته فاق حتى توقعاته، وانتشى من فكرة أن كلمته قد تفقد الانسان وعيه، فنظر بطرف عينه إلى صديقه ليعرف كيف ينظر إلى ما حدث، فرأى باحساس لا يخلو من المتعة أن صديقه في حالة من القلق البالغ. بل وبدأ يشعر بالخوف.
لم يذكر اكاكي اكاكيفتش مطلقا كيف نزل على الدرج وخرج الى الشارع. ولم يكن يحس لا بيديه ولا بساقيه. لم يحدث له في حياته أن نهره جنرال بهذا العنف. وعلاوة على ذلك جنرال ليس رئيسه. فسار في العاصفة الثلجية التي كانت تعربد في الشوارع فاغرا فاه، وهو يتخبط بين الأرصفة. وهبت عليه الريح، كما العادة في بطرسبورغ، من الجهات الأربع كلها ومن جميع الحواري. وعلى الفور أصيب من البرد بورم في زوره، وعندما وصل إلى البيت لم يكن في وسعه حتى أن يتفوه بكلمة. وتورم بدنه كله، فرقد في الفراش. إلى هذه الدرجة يكون التعنيف قويا أحيانا! وفي اليوم التالي أصيب بحمى شديدة. وبفضل مساعدة جو بطرسبورغ الرحيم سار المرض بأسرع من المتوقع، وعندما جاء الطبيب، فجس نبضه، لم يجد ما يشير به سوى الكمادات، وذلك فقط حتى لا يبقى المريض بدون عناية الطب الخيرة. وعلى العموم فقد أعلن الطبيب ساعتها أن نهايته المؤكدة ستحل بعد يوم ونصف. وبعد ذلك قال لربة الدار: "أما أنت، يا سيدتي، فلا تضيعي الوقت وجهزي له من الان تابوتا من خشب الصنوبر، لأن خشب البلوط سكون غاليا بالنسبة له". فهل سمع اكاكي اكاكيفتش هذه الكلمات المشؤومة، واذا سمعها فهل كان لها عليه تأثير مذهل، وهل شعر بالأسى على حياته الشقية.. نحن لا نعرف عن ذلك شيئاً لأن اكاكي اكاكيفتش كان طوال الوقت يهذي في غيبوبة الحمى. وتوالت على ذهنه الرؤى بلا انقطاع، كل رؤيا اغرب من سابقتها: فمرة يرى الخياط بتروفتش، فيوصيه بتفصيل معطف بفخاخ للصوص الذين كانوا يبدون له طوال الوقت تحت السرير، فكان يدعو ربة الدار كل لحظة لتنتشل لصا حتى من تحت البطانية. وتارة كان يسأل لماذا يعلقون قبوطه القديم أمامه، فلديه معطف جديد. وتارة يخيل إليه أن يقف أمام الجنرال يصغي إلى تعنيفه وهو يقول : "آسف، يا صاحب المعالي". وتارة، وأخيرا، كان يسب متفوها بأفظع الكلمات حتى أن ربة الدار العجوز كانت ترسم علامة الصليب ، اذ لم تسمع منه قبلا كلمات كهذه ابدا، خاصة وأن هذه الكلمات كانت تأتي مباشرة بعد عبارة "يا صاحب المعالي". وبعد ذلك كان يهذي بأشياء لا معنى لها تماما. فلم يكن يفهم منها شيء. الأمر الوحيد الذي كان يبدو واضحا ان هذه الكلمات والأفكار المشوشة كانت تدور حول المعطف فقط. وأخيرا لفظ اكاكي اكاكيفتش المسكين آخر أنفاسه. ولم توصد غرفته أو ممتلكاته بالأختام لأنه أولا: لم يكن هناك ورثة، وثانيا : لم يتبق لديه من الميراث إلا القليل. وخلت بطرسبورغ من اكاكي اكاكيفتش وكأنما لم يكن موجودا فيها ابدا. اختفى وغاب ذلك المخلوق الذي لم يكن له من يحميه والذي لم يكن عزيزا على أحد ولا شيقا بالنسبة لأحد والذي لم يجذب إليه انتباه حتى عالم الطبيعة الذي لا يدع ذبابة عادية دون أن يغرس فيها دبوسا ويفحصها تحت المجهر.. ذلك المخلوق الذي تحمل باذعان سخريات الكتبة الموظفين والذي واراه التراب دونما علة خارقة. ولكنه مع ذلك ولو قبيل نهاية عمره زاره ضيف جميل في صورة معطف بعث الحيوية ولو للحظة في تلك الحياة البائسة. ذلك المخلوق الذي دهمته فيما بعد الكارثة القاسية كما دهمت القياصرة والحكام.. وبعد بضعة أيام من وفاته أرسلوا حارسا من الادارة إلى شقته ليأمره بالحضور فورا، فالرئيس يطلبه. ولكن كان على الحارس أن يعود صفر اليدين قائلا أنه لا يستطيع بعد الآن أن يأتي. وعلى هذا السؤال "لماذا؟" أجاب بالكلمات التالية: "هكذا، فقد مات ودفن منذ أربعة أيام". وهكذا علموا في الادارة بوفاة اكاكي اكاكيفتش، وفي اليوم التالي كان يجلس في مكانه موظف جديد، أطول منه قامة بكثير، يكتب الحروف بخط ليس باستقامة اكاكي اكاكيفتش، بل بميل وانحراف أكثر.
ولكن من كان يتصور أن هذا ليس كل شيء عن اكاكي اكاكيفتش وأنه كان مقدرا له أن يعيش عدة أيام صاخبة بعد وفاته، وكأنما مكافأة له على حياته التي لم ينتبه إليها أحد؟ ولكن هذا ما حدث، وها هي روايتنا البائسة تنتهي فجأة نهاية خيالية. فقد انتشرت في بطرسبورغ فجأة شائعات تقول بأنه عند جسر "كالينكين" وفيما وراءه بكثير يظهر في الليالي ميت في صورة موظف يبحث عن معطف مسروق، وبحجة هذا المعطف المسروق ينتزع كافة المعاطف من على جميع الاكتاف غير آبه باللقب أو الرتبة، سواء كانت بياقات من فراء القطط أو السمور أو مبطنة بالقطن أو معاطف فراء من جلد الثعالب أو الدببة، وباختصار كافة أنواع الفراء والجلود التي ابتكرها البشر ليستروا بها أنفسهم. وقد رأى أحد موظفي الادارات بعيني ذلك الميت وغرف فيه على الفور اكاكي اكاكيفتش. بيد أن ذلك أصابه بفزع شديد حتى أنه ولى هاربا بكل قواه، ولهذا لم يتمكن من التدقيق جيداَ، بل رآه فقط، وهو يلوح له من بعيد باصبعه مهددا. وصدرت الأوامر للشرطة بالقبض على الميت بأية وسيلة حيا او ميتا ومعاقبته أقسى العقاب ليكون عبرة للآخرين، وكادوا أن يفلحوا في ذلك. ولكننا مع ذلك تركنا عنا تماما تلك الشخصية الهامة والذي يكاد أن يكون في الحقيقة سبب الاتجاه الخيالي الذي سارت فيه هذه القصة، الحقيقية تماما على أية حال. ان واجب العدالة يتطلب منا قبل كل شيء أن نقول أن الشخصية الهامة سرعان ما أحس بنوع من الأسف بعد انصراف اكاكي اكاكيفتش المسكين الذي نزل به ذلك التعنيف القاسي. فلم يكن الاحساس بالشفقة غريبا عليه، وكان قلبه قادرا على ابداء كثير من المشاعر الطيبة، على الرغم من أن رتبته كانت تعوقه كثيرا عن البوح بها. فما ان خرج زميله الزائر من غرفة مكتبه حتى انصرف تفكيره إلى اكاكي اكاكيفتش المسكين. ومنذ تلك اللحظة كان يتخيل كل يوم تقريبا اكاكي اكاكيفتش الشاحب الذي لم يتحمل تعنيفه الصارم. واقلقه التفكير فيه إلى درجة أنه قرر بعد أسبوع أن يرسل إليه موظفا ليعرف أحواله وهل يستطيع حقا أن يساعده بطريقة ما. وعندما ابلغوا أن اكاكي اكاكيفتش قد عاجله الموت مصابا بالحمى اعتراه الذهول، وسمع صوت ضميره يؤنبه وظل طول اليوم معتل المزاج. واراد أن يسرى عن نفسه بصورة ما وينسى ذلك الانطباع المقبض، فتوجه ليقضي المساء عند أحد زملائه الذي وجد عنده جماعة محترمة، والأهم من ذلك أن الجميع هناك كانوا من نفس الرتبة تقريبا، فلم يكن ثمة شيء يقيد تصرفاته، وكان لذلك تأثير مدهش على حالته النفسية، فانطلق واصبح لطيفا في حديثه، ولبقا، وباختصار قضى المساء على نحو طيب للغاية. وعلى العشاء شرب كأسي شمبانيا، تلك الوسيلة المؤثرة تأثيرا لا بأس به فيما يخص المرح كما هو معروف. ومنحته الشمبانيا ميلا إلى شتى أنواع المفاجآت، وبالتحديد فقد قرر ألا يعود إلى المنزل، بل يمضي إلى سيدة معروفة تدعى كارولينا ايفانوفنا، وهي سيدة فيما يبدو من أصل ألماني، كان يكن لها مشاعر صداقة محضة، ومن الجدير بالذكر أن الشخصية الهامة كان رجلا قد جاوز الشباب وزوجا طيبا ورب أسرة محترما. وكان ابناه، وأحدهما يعمل عنده في الادارة، وابنته اللطيفة البالغة ستة عشر عاما وذات الأنف الأعقف قليلا، ولكنه أنف جميل، كانا يقبلان عليه كل يوم ليلثما يده , أما قرينته، وهي امرأة لا تزال نضرة، بل وحتى ليس فيها ما يعيب، فكانت تعطيه يدها أولا ليلثمها ثم تقلبها على الوجه الآخر لتقبل يده هو. ولكن الشخصية الهامة الذي كان على أية حال راضيا تماما عن الملاطفات العائلية المنزلية، وجد من اللائق أن تكون له صاحبة للعلاقات الودية في القسم الآخر من المدينة. ولم تكن هذه الصاحبة أفضل أو أصغر سنا من زوجته، ولكن مثل هذه الألغاز توجد في الدنيا، وليس من شأننا أن نناقشها. وهكذا هبط الشخصية الهامة على الدرج واستقل الزحافة وقال للحوذي: "إلى كارولينا ايفانوفنا"، أما هو فتغطى بالمعطف الدافئ في جلسة وثيرة للغاية وبقى في ذلك الوضع اللطيف. وتذكر وهو في غاية الرضا كل اللحظات المرحة في الأمسية التي قضاها، وكل الكلمات التي أثارت ضحكات تلك المجموعة الصغيرة، وردد كثيرا منها بصوت خافت، فوجدها جميعا مضحكة كما كانت، ولذلك فليس من الغريب ان يضحك هو نفسه من كل قلبه. ومع ذلك كانت تنغص عليه احيانا ريح حارة متقطعة تهب فجأة من حيث لا يعلم الا الله ولسبب لا يدريه أحد، فتلهب وجهه وتلقي عليه بقطع من الثلج وتنشر كما الشراع ياقة المعطف أو تلقي بها فجأة بقوة رهيبة على رأسه، فتكلفه عناء لا ينتهي في محاولة التخلص منها. وفجأة أحس الشخصية الهامة بأحد ما يمسك بياقة معطفه بقوة. وعندما التفت رأى رجلا قصير القامة في معطف رسمي قديم مهترئ، فعرف فيه لرعبه اكاكي اكاكيفتش. كان وجه الموظف شاحبا بلون الثلج، وبدا ميتا تماما. ولكن رعب الشخصية الهامة فاق كل الحديد عندما رأى فم الميت يتلوى منفرجا وتهب منه عليه رائحة القبور الرهيبة ويلفظ هذه الكلمات: "آه! ها أنت ذا أخيرا! أخيرا أنا، يعني، أمسكت بك من ياقتك! معطفك بالذات هو ما أحتاج إليه! لم تسع لاسترداد معطفي، بل وعنفتني. حسنا. هات الآن معطفك!" وكاد الشخصية الهامة المسكين أن يموت . أحس برعب شديد إلى درجة أنه بدأ يخشى، وليس دون مبرر، من أن تكون قد اصابته نوبة نفسية. وأسرع إلى نزع معطفه بنفسه عن كتفيه وصرخ في الحوذي بصوت غير طبيعي : "اسرع إلى بيت بكل قواك!". وعندما سمع الحوذي نبرة الصوت التي لا تتردد عادة إلا في المواقف الحاسمة، وبل وتصاحبها حركات أكثر فعالية، دفن رأسه بين كتفيه تحوطا، ولوح بالسوط واندفع بالعربة كالسهم وبعد ست دقائق أو أكثر قليلا كان الشخصية الهامة أمام مدخل بيته. وصل شاحبا، مفزوعا وبلا معطف إلى بيته بدلا من ان يصل إلى كارولينا ايفانوفنا، وجر ساقيه كيفما اتفق حتى وصل إلى غرفته، وقضى ليلته في اضطراب شديد حتى أن ابنته قالت له في صباح اليوم التالي، وهم يتناولون الشاي: "أنت اليوم شاحب جدا يا بابا" ولكن بابا لزم الصمت. ولم يخبر أحداً بما حدث له وأين كان وإلى أين كان ينوي الذهاب. لقد ترك هذا الحادث أثرا قويا في نفسه. بل انه أصبح نادرا عن ذي قبل ما يقول لمرؤوسيه: "كيف تجرؤ، هل تفهم أمام من أنت"، وحتى اذا قالها فما كان يفعل الا بعد أن يستمع اولا الى شرح الموضوع. ولكن الأمر الأجدر بالملاحظة انه منذ تلك الساعة كف الميت الموظف تماما عن الظهور، اذ يبدو أن أحدا ما ينتزع المعاطف من على الاكتاف. ولكن كثيرا من رجال الأعمال الحريصين لم يريدوا أبدا أن يركنوا إلى الطمأنينة وراحوا يرددون بأن الميت الموظف ما زال يظهر في أطراف المدينة البعيدة. وبالفعل فقد رأى أحد رجال الدرك في حي "كولومنسكي" بعينيه شبحا يظهر من خلف أحد المنازل. بيد أنه لم يتمكن من ايقاف الشبح، بل سار خلفه في الظلام إلى أن التفت الشبح خلفه أخيرا وتوقف وسأله: "ماذا تريد؟" وأظهر له قبضة لا تجد لها مثيلا لدى الأحياء. فقال الدركي: "لا شيء" وعاد أدراجه من فوره. بيد أن الشبح مع ذلك كان أطول بكثير ويحمل شوارب هائلة، ومضى متجهاً كما بدا نحو جسر :اوبوخوف"، ثم اختفى تماما في ظلام الليل                                                                                  

تمت
نيقولاى جوجول من آباء الأدب الروسى 1809-1852 . من أشهر مؤلفاته رواية النفوس الميتة . وقصته القصيرة المعطف . ومسرحيته المفتش العام .