مقطع من رواية ( فى البحث عن الزمن المفقود )
للكاتب الفرنسى مارسيل بروست .. ترجمة الأستاذ محمد محمد السنباطى .
.......................................
[ عدت الى منزلى فى أحد أيام الشتاء , ورأتنى أمى مصابا بالبرد فاقترحت أن تقدم لى على غير عادتى قليل من الشاى . رفضت لأول وهلة . ثم غيرت رأيى بغير ما سبب معلوم . فأرسلت أمى فى طلب واحدة من ذلك الجاتوه الصغير المنقوش المسمى : مادلين الصغيرة . التى تبدوا وكأنها أحكم صنعها بين مصراعى صدَفة سان جاك , مخددين . بعد قليل , وبطريقة آلية , وأنا مثقل بنهار كئيب , ومرتقب لغد أكأب , رفعت إلى شفتى ملعقة من الشاى وقد تركت قطعة صغيرة من الجاتوه تذوب فيه , وإذ لمس الجاتوه فمى إجتاحتنى رعدة , وتيقظت حواسى تماما لما يحدث داخلى من عجب عجاب , فرحة غامضة , معزولة , لا أدرى لها سببا , زلزلتنى . صارت صروف الحياة بلا أهمية . ونكباته غير مؤذية , وملأتنى بجوهر ثمين ولك أن تقول أن ذلك الجوهر لم يكن داخلى , بل كان أنا , لم أعد أشعر من ساعتها أننى بين بين , أو أنى عارض طارىء , أو أنى من الفانين . فمن أين جاءتنى تلك الفرحة الكاسحة . خالجنى شعور أنها مرتبطة بنكهة الشاى والجاتوه . لكنها تجاوز تلك النكهه بمراحل غير محددة . ومن المؤكد أن الطبيعة هنا ليست واحدة . فمن أين جاءت وماذا تعنى ؟ وأين أطالها ؟ جرعة أخرى تناولتها فلم أجد أكثر مما وجدت فى أول مرة . والثالثة تجيئنى أقل من سابقتها . إنه وقت الإمتناع . تأثير الجرعة يتناقص . الحقيقة التى أنشدها ليست فيما أتجرع بل داخلى أنا . قام بإيقاظها داخلى وإن كان لا يعرفها . ويمكنه أن يكررها بلا عدد ولكن بقوة آخذة فى النقصان . لا تفسير لها عندى . تمنيت لو طلبتها مرة ووجدتها على قوتها الكاملة , ورهن إشارتى . وحالا . ووصولا لتوضيح حاسم . أضع الفنجان وأستدير ناحية عقلى . عليه ن يجد لى تفسيرا . ولكن كيف ؟ . بلبلة خطيرة . كل المرات التى يحس الفكر فيها أنه يتخطى ذاته . عندما يكون هو الباحث , ليس فقط بل المبدع . انه فى قبالة شىء لم يتحقق بعد . وأنه وحده من يستطيع تحقيقه ثم إدخاله لدائرة الضؤ . أعود فأتساءل ماذا تكون تلك الحالة المجهولة التى لا تخضع لأى برهان منطقى ولكن لبداهة غبطتها . ولحقيقتها التى لا تصمد أمامها غيرها من الحقائق . أحاول أن أعيد إظهارها . يقهقرنى الفكر الى حيث تناولت ملعقتى الأولى من الشاى . أجد نفس الحالة دون مزيد من الوضوح . أطلب من عقلى بذل جهد إضافى . واسترجاع الإحساس الهارب مرة أخرى . ولكى لا يفتر شىء الحماسة التى سيحاول بزخمها الإمساك بها مرة ثانية . رحت أزيل العقبات , وغرائب الأفكار . وأحصن أذنى وانتباهى ضد ضوضاء الحجرة المجاورة . لكنى وقد أحسست بفكرى يطال التعب وليس النجاح رحت أضطره على النقيض أن يأخذ طريق اللهو الذى كنت أبخل عليه به . وأن يفكر فى أمر آخر . وأن يهىء ذاته لمحاولة سامية . ثم مرة أخرى , أضع الخلاء أمامه . وأضع فى مواجهته نكهة تلك الجرعة الأولى . الحديثة لا تزال . وأحس بشىء كأنما يخلع وتاده فى العمق الهائل . لا أدرى من يكون . لكنه بطيئا يعلو . أسمع ضجيج المسافات التى يقطعها . بالتأكيد فإن الذى يخفق فى حناياى . ينبغى أن يكون الصورة , الذكرى البصرية , والتى بارتباطها بذلك الطعم , تحاول أن تلحق به , حتاى . لكنها تتجادل فى البعيد النائى , شديد الغموض , وبالكاد ألمح توهجا محايدا تختلط فيه زوبعة من الألوان لا يمكن فصل درجاتها و مقلقة , فلا أستطيع أن أميز لها هيئة , ولا أن أطلب منها , وهى المترجم الوحيد المتاح , أن تترجم لى شهادة رفيقها العمرى الملازم لها , شهادة النكهة , وأن تخبرنى ملابسات ومواعيد ثورانها . فهل يمكن أن تتصاعد حتى سطح وعيى البيّن تلك الذكرى وتلك اللحظة القديمة التى استثارتها جاذبية لحظة مطابقة لها تماما وأتية من بعيد بأن راحت تغريها وترفعها وتدفعها فى حناياى ؟ لا علم لى . الآن لا أكاد أحس شيئا . لقد توقفت وربما نزلت . من يدرى إذا كانت ستعاود الصعود فى ليلتها ؟ عشر مرات أحاول أن أجعلها تبدأ وأدفعها نحو ذلك . وفى كل مرة فإن نقيصة الجبن الذى يثبط منا العزائم ويبعدنا عن المرامى الصعبة . ينصحنى أن أتجنب هذا , وحين أرتشف الشاى , لا أفكر إلا فى متاعبى اليومية العارضة ورغبات غدى التى أجترها بلا ألم . وفجأة تنبثق الذكرى . الطعم كان لقطعة جاتوه المادلين الصغيرة , والوقت كان أحد صباحات الآحاد فى كمبراى ( فأنا لم أخرج فى ذلك اليوم قبل ساعة القداس ) . وعندما ذهبت الى حجرة عمتى ليونى لأقول لها : يوم سعيد , وقدمتها لى بعد غمسها فى الشاى أو التليو . رؤيتى لقطعة المادلين الصغيرة لم تذكرنى بشىء قبل أن أتذوقها , فكثيرا مارأيتها على رفوف محلات الجاتوه ولم آكلها , ثم أنه لم يتبق فى الذاكرة شىء من تلك التكوينات التى هجرتها فراحت أباديد وتملكها خدر النعاس فلم تعد قادرة على الإنتشار الذى يدفعها الى طريق الوعى ( ومن تلك التكوينات صَدَفَة الحلوى الصغيرة الشهوانية تحت تخدداتها الصارمة الورعة ) . وهكذا فإنه عندما لا يتبقى شىء من الماضى القديم بعد موت الكائنات ودمار الجمادات , فإنهما وحدهما : الرائحة والنكهة ( وهما الواهنتان الضعيفتان وإن كانتا المعمرتان اللاماديتان المثابرتان المخلصتان ) ولفترة طويلة تظلان كما الأرواح فوق أطلال كل ماعداهما . يتذكران وينتظران ويأملان , وقد حملت قطرتهما الدقيقة الرقيقة البناء الشاسع للذكرى . ]
( طبق الأصل )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق