الأحد، 6 نوفمبر 2016

الأرجوحة .. محمد خضير



محمد خضير

الأرجوحة
قصة

على جادة السكون المظللة بمراوح السعف كان فتى حليق الرأس يتحرم فوق دراجته الخفيفة، كالنائم، بين جدول واطئ مزبد بخيوط تشبه رغوة الصابون إلى اليسار، وجدار واطئ من الطين المتهدم إلى اليمين. تبدأ من حافة الجدول المعشب أرض تبعثرت فيها جذوع النخيل وأعشاب السوس والحلفاء المتوحشة، كما كان جدار الطين يحجز أرضًا منخفضة تتجاوز فيها الجداول وتغطيها تمامًاالأعشاب الدقيقة المزهرة والأشجار البرية وأشجار الرمان وعرائش الكروم المتسلقة على الجذوع. تنغمر الجادة بشمس قوية، في حين يحل فيء ساخن فوق أعشاب غابة النخيل وجاداتها الضيقة المحاصرة. وكالنائم، كان الفتى لا يسمع صوتًا حتى لعجلتي دراجته وهما تدوران على غبار الجادة الناعم، ولكنه يشم روائح أزهار الدفلى والأزهار البرية في المنخفض النباتي أسفل جدار الطين وخلف الجدول المزبد. ومن كسرات الجدار كانت تخطف بصره المبهور بأشعة الشمس خلل السعف أزهار الرمان الحمراء المختبئة في كثافة ظل الأوراق، وحركة الأجنحة الرمادية لطيور (الفاختة)، غير أن أزهار الدفلى في أغصانها المتدلية في الجدول الواطئ ترتسم في الماء بين ظل السعف كنقوش في ثوب مخطط. وفي منطقة فيء غزير كانت فروع شجرة توت ضخمة تجتاز الجدار حتى منتصف الجادة. استند الفتى بقدمه إلى الجدار، بعد أن أوقف حركة الدراجة، وأخذ يلتهم ثمار التوت السوداء. ثم ترجل عن دراجته وأسندها إلى الجدار، وقطع الجادة منحدرًا ضفة الأعشاب الزاحفة ليغسل أصابعه الدبقة في ماء الجدول، ثم شرب وبلل رأسه الحليق، مغترفا الماء براحتيه المكورتين. أنصت لأقدام خافتة، وظهر ثلاثة كلاب دخلوا من ثقب الجدار للأرض المنخفضة. وثانية حل في رأسه ذلك الغفو المريح حين امتطى دراجته، وتشرّب بالسكون ذي الرائحة الساخنة، ومن بين جفنيه راقب بعينيه المغمضتين انفصال أجزاء دراجته على التراب، وكانت العجلتان المعوجتان تتسلقان الجدار وتتعثران في حفره وثقوبه، ثم طفتا في السكون بتوازن، وأصبح الفتى يتحرك على قمم النخيل، منمكًا في غفوه بمراقبة الحيوات المتحفزة المختفية في منخفضي الأعشاب: حياة كرات النبات (الخرنوب) اليابسة حياة أثمار الأعذاق غير الناضجة، حياة بويضات أحياء الجداول، ثم الحياة الأكثر غموضًا وتحفزًا في الحقيبة المعلقة بالمقود. فجأة حدث هجوم الحيوات المختبئة وكادت تلقي بالفتى في الجدول أسفل الجادة - انتهى جدار الطين واعترضته أسلاك شائكة تمتد يمينًا ويسارًا مثبتة لأوتاد حديدية، وباب نصف مفتوح من هذه الأسلاك. ترجل وقاد دراجته عبر الباب المثبت بين وتدين، وسار في جادة ضيقة زحفت عليها الأدغال الكالحة. بين جذوع النخيل المزروعة في صفوف منتظمة، طفحت الجداول القصيرة المسدودة بماءٍ أخضر فاقع ذي فقاعات، وبأوراق الأشجار، وبفراغات السماء المنعكسة بين حوض السعف. ثم دخل سقيفة من أشجار الكروم لم يكتمل نضج عناقيدها الكثيرة، وخرج منها إلى شاطئ يمتد مع نهر غير واسع سريع المجرى، حيث لمح غير بعيدة عنها نارًا تلتهب في تنور على الضفة المقابلة وتنعكس في الماء ببقعة ثابتة. وبين الخضرة الواطئة قامت غرفتان من الطين وسقيفة من القصب كأنها استخرجت من قاع النهر وبنيت هناك بشكل رقم (٦) غير بعيدة عن الضفة.
سحب دراجته نحو البيت، وظهرت امرأة ملفوفة بالسواد من خلف التنور الملتهب، وصاح الفتى الحليق، عبر النهر،
- يا أمي، ألديك ولد في الجيش؟
- نعم. إبني علي.
- علي قاسم؟
- نعم هو. أتعرفه؟
مسح الفتى رأسه ونظر إلى الحقيبة المعلقة بمقود الدراجة:
- أنا قادم من هناك. إنه صديقي، أنا وهو في نفس الوحدة.
- كيف حاله؟ مرت مدة طويلة من دون أن يكتب لنا رسالة. كيف هو؟
- يا أمي ولدك قد ....
التفت إلى الحقيبة المعلقة في المقود، وتطلع إلى البيت وإلى السطح وإلى مجرى النهر وإلى وجه المرأة الملوح باللهب، وقالت المرأة الملفوفة بالسواد:
-أهذه حقيبته؟
- هذه؟ .. لا، حقيبتي.
- لديه حقيبة مثلها .. كيف هو؟
- بخير يبعث بسلامه إليكم ولطفلته حليمة.
انتظر متطلعا حوله، وكان دخان خفيف رمادي يعقب ألسنة لهب التنور، ومن زاوية الغرفتين خرجت طفلة في السادسة، وتقدمت نحو النهر.
- إنه يسأل عن طيوره.
- هناك فوق في البرج على السطح. أترى البرج؟
- أرى جزءًا منه كما أرى صفائح التنك المطلة على الحوش لم أتصور أنه يملك هذا العدد الكبير من الطيور.
- لمَ لا تعبر إلينا؟ القنطرة هناك. أبوه خرج لتكريب النخل ومعه زوجة إبنه.
- سأترك الدراجة هنا.
أسند الدراجة إلى جذع نخلة، ثم عبر قنطرة أنصاف جذوع النخيل المغطاة بالتراب المتماسك، واثناء عبوره الحذر شاهد طيور الحمام تخرج من صفائح التنك المثبتة مع ضلعي الغرفتين وفي زاوية التقائهما. كان الماء يجري تحت النطرة في سورات لامعة، وغير التنور كانت شجرة عالية عند الضفة، وثلاث نخلات طويلات، ربطت بين اثنين منها أرجوحة، تحاول الطفلة التي خرجت من الغرفة الصعود إلى حمالتها.
استرح هنا يا بني. أين أنتم الآن؟
ساعد الزائر الطفلة على الاستقرار في حمالة الأرجوحة المقتطعة من كيش خيش، ثم جلس على الحصير الذي فرشته العجوز تحت الشجرة واسعة الظل:
- نحن الآن على الحدود. تم استبدالنا أخيرًا من الجبهة.
- ومتى سيحصل ابني على إجازة؟
- إجازة؟ قريبا. ربما في الشهر الذي يأتي. ألم تسمعوه في الإذاعة؟
- لا. ترك راديوه الصغير هنا ولكن لا أحد يفتحه. دعني أقدم لك شيئًا.
قطعت ساحة البيت نحو السقيفة ينسحب ذيل ثوبها الأسود على التراب، وتبعتها دجاجة راكضة من وراء السقيفة، وكان الحمام يحلق في سماء البيت أو يلتقط ما يجده في ساحته.
- ما اسمك يا بنية؟
- حليمة.
- حليمة. بابا يريدني أن أقبلك.
نهض الزائر وقبّلها، وكانت تغوص في حمالة الأرجوحة المشدودة من أطرافها إلى الحبال المتينة، وتلقى برأسها على عضد ذراعها الممسكة بحبل الأرجوحة، يعكس شعرها القصير موجات حمراء ويكشف عن رقبتها النحيفة. نظرت حليمة إلى الزائر بجانب عينيها وطلبت منه أن يهز أرجوحتها. انحنى خلف ظهرها ثم دفعها دفعًا، ولكنها طلبت أن يؤرجحها بقوة حتى تطير. وتلقى جسدها بعد أن رجعت إليه وأحاط خاصرتها ثم دفع الأرجوحة فصعدت خارج ظل السعف فوق الماء، وغمرت بالشمس، ثم عادت إلى الوراء فحاد عنها، ثم اندفعت ثانية خارج الضفة دون أن يمسها.
- تمسكي جيدًا. سأجعلك تطيرين.
خرجت الأرجوحة من الظل بسرعة، فسقطت الشمس على رقبة حليمة كحد السيف، واجتازت خط قمم النخيل، ثم عادت مسرعة واجتازت الظل من الجهة المعاكسة، وكان فمها مفتوحًا من دون ضحك وشعرها ينفر عن وجهها في الصعود، يزيد الضوء المفاجئ حمرته المتخلفة عن صبغة الحناء، ولكن التأجج ينطفئ فجأة عندما يرتد الشعر عن وجهها في هبوط الأرجوحة. واستند واقفًا إلى النخلة.
- ما اسم هذه الشجرة يا حليمة؟
- بمبر.
- ما اسمها؟
أجابته العجوز التي عادت بقدح لبن:
بمبر. إنها لا تنطق الاسم صحيحًا.
وقدمت إليه القدح:
- إنه من دون ثلج. لا يصلنا الثلج هنا.
- اللبن طيب حتى من دون ثلج. كم بقرة لديكم؟
قالت حليمة:
- ثلاث، خرجت أمي ترعاهن خلف البيت.
يداها ممدودتان إلى أقصاهما لتمسكا حبال الأرجوحة، وتدلى شعرها القصير إلى أسفل لأنها كانت تلقي رأسها إلى الخلف وتتطلع إلى الزائر بعينيها المقلوبتين كلما هبطت الأرجوحة، بعد أن يثقل هجوم المشاهد وسرعة مجرى الماء رأسها، لم يمس الزائر أرجوحتها، وتركها تتأرجح بتوازن.
- الشمس تعمي عيوني.
من التنور الذي خبت فيه النار، قالت جدتها:
- إنها لا تنطق الكلمات صحيحة مع أننا سندخلها المدرسة في السنة القادمة.
قال الزائر:
- كثيرا ما حدثني علي عن هذه الشجرة. قال إنه كان ينام بين أغصانها في سنيه الأولى.
قالت حليمة:
- انا لا أحب ثمرها.
قالت جدتها:
- ألم تأكل البمبر؟
- لا. ولكنه أخبرني أن البمبر يحتوي على سائل لزج.
قالت حليمة:
- نواتها تلتصق بأصابعها ولا تنفك عنها حتى ولو نفضتها بقوة.
- لكنه لا زال غير ناضج. كان يظن أنه نضج ورغب أن أجلب معي بعض ثمار البمبر.
قالت الجدة:
- أظنه لا ينبت في مكان آخر.
- لست أدري. وحدثني عن الأرجوحة.
- لم تنم حليمة في مهد أبدًا. سرعان ما كانت تغفو في هذه الأرجوحة. ست سنوات وهي تنام فيها.
وقالت حليمة:
- هنا قرب الماء.
- كان علي يسبح في النهر وهي تتطلع إليه ويصعب عليها الوقوف داخل الأرجوحة.
سألت حليمة:
- أتعرف السباحة؟
- نعم أعرف.
- ألديكم أنهار كثيرة هناك؟
- كثيرة ولكنها لا تشبه هذا النهر السريع: أتحبين الماء يا حليمة؟
- أخاف الغرق. هزني الآن.
تلقى الزائر الأرجوحة من الخلف بأن وضع راحتيه حول الحمالة الممتلئة بجسد الطفلة الصغير ودفعها فحلقت فوق النهر وانطبعت على سحطة منسحبة فوق الأشكال الطافية، وبصوت ثاقب نادته حليمة:
- ألم يطلب منك أبي أن تسبح؟
- لا. ولكنه طلب أن أقبلك.
- قبلتني. ولكني أريدك أن تسبح.
نظر الزائر إلى امرأة التنور التي كانت تعد العجين، فقالت:
- رطب جسدك بالماء. دائما تطلب ذلك من أبيها.
- سأنفذ رغبتها.
- ولكن لا تستمع دائما لها. رغباتها لا تنقطع.
خلع (دشداشته) وفانيلته خلف شجرة (البمبر) وعلقها داخل الأغصان الكثيفة. قفز إلى النهر وسمع صيحة ابتهاج حليمة، التي بترت حين غاص في الماء الأخضر. لما ظهر فوق الماء أطلق من فمه الماء، وحاول أن يقاوم المجرى ليظل أمام حليمة.
- لا يزال الماء باردًا.
- اسبح إلى هناك. أتستطيع أن تسبح إلى التنور؟
- ذلك سهل.
- سيأخذك الماء كبطة.
انسحبت أمامه مسرعةً مع تيار المد اللامع القمم الساكنة المتقابلة لصفي النخيل في النهر، وأعشاب وأشجار الضفتين، وكان النهر ينعطف على بعد خلف البيت، وفجأة قبل انعطافه كانت الجذوع تنهال في المجرى الغامض المظلل أو تتبادل أمكنتها من ضفة إلى ضفة وهي تسرع في الاختفاء مع النهر. ومن خلال القطرات التي تقفز أمام عينيه وتموه نظره شاهد المرأة تقف وسط التنور كجذع متفحم، وحين وصل إزاء التنور رآها تخبز العجين بين راحتيها وتمدده على قرص قماش أسود وتنحني لتصلق الرغيف اللدن داخل جدار التنور المحدب الساخن، وكأنها لتنقصم وتتفتت رمادًا في إحدى حركات أعضائها المتمهلة. عند الجرف كان باستطاعته أن يمس قاع النهر بقدميه، وأن يكف عن العوم لمقاومة التيار والوقوف في مكانه أمام التنور، وأخذت ترتطم بجسده الأوراق والحشائش وثمار التوت العائمة مع المد، وكان يلتقط هذه الثمار ويلتهمها.
- ما زال الماء باردًا.
- كان علي معتادًا على السباحة صباحًا في مثل هذه الأيام.
- أتعرفين يا أمي؟ أنا هنا كما لو كنت إياه. ولكنها أيام الحرب.
وتمهل كي يتأكد كيف تضيع عيناها في وجهها المتضائل ويكاد يختفي فمها في سكونها المريب، كجذع فحم لن يقوى على الوقوف حتى يتبدد.
- لقد أحببت المكان. انظري إلي كأني هو الذي يسبح ويحادثك الآن. لا تدعي غيابه يهمك كثيرًا.
قالت امرأة التنور كلمات لم تنته، محترقة مختلطة، انطفأت في النهر وغطت عليها صرخة حليمة:
- ارجع لتهزني. أتستطيع السباحة على ظهرك؟
- كالباخرة .. ذلك سهل.
وضع رأسه ضد المجرى وجعل يرفس الماء بقدميه ويحرك يديه تحت جسده كي يبقى طافيًا فأحدث دفقات متتابعة من الماء، كما شاهد الحمام يحلق على برج السطح، وأوراق شجرة (البمبر) العريضة المتراكبة على خضرة معتمة، واختلاط سعف النخلتين المرتفعتين، والأرجوحة التي تهدأ بينهما، يتقلص تحتها ظل السعف، ودخل منطقة فيء الشجرة كأنه يدخل بئرًا. تمسك بالأغصان المتدلية في الماء، وسمع حليمة:
- أتعرف؟ كان جدي جنديًا أيضًا.
سمع جدتها:
- ماذا قالت عن جدها؟
قالت حليمة:
- قلت له أنه كان جنديًا.
قال الزائر:
- كل الناس يصبحون في يوم ما جنودًا.
سمع جدتها:
- حارب في الحرب العظمى. إنها تستأنس بالحكايات التي يقصها عليها.
قالت حليمة:
- يا لها من حكايات لطيفة!
قالت جدتها:
- وأخبار أبيك. انتظري فقط كي يأتي في إجازة.
قال الزائر:
- نعم. يا لها من أخبار. أخبار عجيبة يا حليمة.
سمع حليمة:
- فترت الأرجوحة. هزني الآن.
خرج من ظل الشجرة، وكان وجهه مبللًا، فسألته حليمة:
- هل احمرت عيناك؟
- يحدث ذلك لمن يسبح.
- لا. أبي لم تحمر عيناه يومًا.
أحاط عجزتها داخل الحملة ودفعها، فافتقدها في الشمس، واحتواها حين عادت، موقفا حركة الأرجوحة:
- كيف أنت يا حليمة؟
- لماذا أوقفتها؟ كانت دفعة جيدة، ولم يهزني أحد كذلك.
وذابت ثانية في الشمس، وعادت تضع رأسها على عضد ذراعها الممدودة، ساكنة الوجه وقد أغمضت عينيها:
- أرى أبي. ها هو يؤرجحني في حضنه. ولكنهه لا يتكلم كالأخرس. حلق شعر رأسه مثلك، وكأني غريبة عنه فهو لا يعرفني ولا يتكلم معي أبدًا.
ثم فتحت عينيها وقالت:
- أين ذهب؟ كان معي يؤرجحني.
- لقد اختفى الآن. حين تفتحين عينيك يختفي.
- أين؟
- لنبحث يا حليمة. أتسلق النخلة؟ كلا. وإلا رأيناه. هل غاص في الماء؟ لا. وإلا اختنق إذا ما بقي طويلا تحت الماء. آه أتعرفين أين؟ في تلك الحقيبة.. أترينها يا حليمة؟
- أية حقيبة؟
- تلك في الضفة الأخرى. الحقيبة المعلقة في الدراجة.
- الحقيبة الصغيرة؟ كيف تسع جسده؟
- ولكنه كالدخان. تذكري يا حليمة إنه كالدخان؟
- لم أره جيدًا. كنت. في حضنه.
- أأجلس معك في الأرجوحة؟
أوقف الحبال المتأرجحة وأنزل حليمة، ثم رفعها لتستقر في حضنه داخل حمالة الأرجوحة، وحاول أن يهز جسديها بقدميه، حين جاءت الجدة العجوز تحمل رغيفًا:
- ألم تجوعا؟ كُلا بانتظار الغذاء حين يأتي جدها، وسأصعد لأطعم الحمام.
قسمت الرغيف الساخن بينهما، وطلبا منها أن تهزهما قبل أن تصعد إلى السطح.
- أأستطيع هزكما؟
تحركت الحبال قليلًا فقليلًا، وأسرعت الأرجوحة فاجتازت الفيء بقليل، ثم حلقت فوق المجرى، وكانت الجدة تختفي خلف السقيفة.
- اتكئي إلى صدري يا حليمة وأغمضي عينيك.
- ثوبك مبلل.
- لم أجفف جسدي جيدًا.
- أتحب البمبر؟
- نعم. أشتهي أن آكل منه.
- أنا لا أحبه. وما اسمك؟
- ستار.
- كاسم ابن المختار. نحن نلعب خلف المغسل ويريد أن ندخله.
- مغسل الموتى؟
- نعم. أرني أبي الآن. أراه يخرج من الحقيبة هناك ويأتي نحونا.
- بلا رأس ولا يدين ولا رجلين ومن دون ثياب. كالدخان.
- نعم. نعم.
- دعيه يقترب. تظاهري بالنوم ولا تفزعيه لأنه لا يحب غير النيام كالموتى.
وقاوم الزائر مجرى النهر بيقظة عينيه الواهنة، يضم حليمة إليه ويحملها محلقًا، يدخل معها الأبواب المفتوحة بين جذوع النخل ذات مراوح السعف العريضة، حيث شعر بالغفو الجميل اللين المبلل يدنو منه أيضا، وكانا يخترقان أوراق الأشجار وأزهار الرمان وأعشاب السوس، باتجاه المد اللامع.
- هل نمت يا حليمة؟
- خرج من الحقيبة كالدخان ولم يتكلم.
- وأين هو الآن؟
- لست أدري. لقد ذهب. غاص في النهر.
ولم يلبثا هما كذلك، أن غاصا في إثره
_______ 

 قصة الأرجوحة للكاتب العراقي محمد خضير هي التي منحته الشهرة في العالم العربي ونشرت في مجلة الآداب البيروتية عام 1968 قال عنها غسان كنفاني انها من اعظم قصص الحرب في ادبنا العربي وهي من قصص الحرب المكتوبة بعد نكسة حزيران1967 وقد قال عنها محمد خضير: "عندما كتبت هذه القصة كنت في سن الخامسة والعشرين ووجدت حقيقة صعوبة في السيطرة على المشاعر الذاتية التي كانت تختمر في نفس شابة قليلة الخبرة في السياسة والحرب لكني كنت على وعي كاف بظروف كتابة القصة .. ومع ذلك كانت الموازنة صعبة بين الحدث الكبير وفن التعبير عن سخونته وأثره وصدمته ".. القصة نشرت لاحقا في مجوعته القصصية الأولى "المملكة السوداء"