الجمعة، 9 ديسمبر 2016

الأفعى .. قصة قصيرة .. جون شتاينبك

مختارات من القصة القصيرة







الأفعى

جون شتاينبك

ترجمة : رقية كنعان

كان الوقت ظلاما تقريبا عندما قام الطبيب الشاب فيليبس بوضع كيسه على كتفه وغادر البركة في جزرها، تسلق أعلى الصخور وخاض على طول الشارع في حذائه المطاطي. أضواء الشارع كانت مضاءة وقت وصوله إلى مختبره التجاري الصغير في شارع مونتيري. كان بناء ضيقاً صغيراً يقف جزئياً على أرصفة مياه الخليج وجزئياً على الأرض، في الجانبين تزاحمت معامل تعليب السردين.
تسلق الدرجات الخشبية وفتح الباب، ركضت الجرذان البيضاء في أقفاصها أعلى وأسفل السلك وماءت القطط الأسيرة تطلب الحليب. أشعل الضوء فوق طاولة التشريح ووضع كيسه الرطب على الأرض، مشى تجاه الأقفاص الزجاجية بجانب النافذة حيث تعيش الأفاعي المجلجلة، انحنى ونظر إلى الداخل. كانت متكومة على نفسها ترتاح في زوايا القفص ولكن كل رأس بدا واضحا، بدت العيون المغبرة وكأنها تنظر إلى لا شيء، حالما انحنى الشاب فوق القفص، بدأت الألسنة المتشعبة السوداء في الأطراف والوردية في الخلف ترتعش خارجاً وتتحرك ببطء أعلى وأسفل إلى أن ميزت الأفاعي الرجل وسحبت ألسنتها.
خلع الدكتور فيليبس معطفه الجلدي وأضرم ناراً في الموقد الضيق، وضع قدراً من الماء على الموقد، وأسقط علبة فاصولياء في الماء، ثم وقف محدقاً في الكيس على الأرض. كان رجلاً شابا مهملاً، بعينين لطيفتين مشغولتين كعيني من اعتاد النظر خلال المجهر لفترة طويلة، و لديه لحية شقراء خفيفة.
تنفس التيار الهوائي عبر المدخنة، وقدمت لمحة من الدفء من الموقد. غسلت الموجات الصغيرة الأرصفة تحت البناية. رمق الرجل طبقة فوق أخرى من جرار المتحف مرتبة في رفوف تحوي العينات البحرية المحمولة التي يتعامل بها المختبر.
فتح بابا جانبيا ودخل إلى غرفة نومه، سرير عسكري، ضوء قراءة، وكرسي خشبي غير مريح. سحب حذاءه المطاطي، وارتدى خفين مصنوعين من جلد الغنم، وعندما قفل عائداً إلى الغرفة الثانية كان الماء في الإبريق قد بدأ يهمهم.
رفع كيسه إلى الطاولة تحت الضوء الأبيض وأفرغ دزينتين من نجوم البحراستلقت بجانب بعضها البعض على الطاولة. عيناه المشغولتان استدارتا تجاه الجرذان في الأقفاص السلكية. أخذ حبوبا من كيس ورقي، و صبها في معالف الطعام، انزلقت الفئران عن الأسلاك ونزلت على الطعام. زجاجة حليب على رف زجاجي بين إخطبوط صغير محنط وسمكة هلامية، رفعها وسار باتجاه قفص القطط، التقط بلطف قطة صغيرة ممشوقة مبقعة، شد عليها للحظة، ثم أسقطها في صندوق صغير مطلي بالأسود، أحكم الغطاء وأغلق المزلاج ثم أشعل المشعل الذي نفث الغاز في غرفة القتل، و بينما الكفاح الناعم القصير مستمر داخل الصندوق الأسود، ملأ الصحون بالحليب، تسلقت إحدى القطط يده، فابتسم وداعب عنقها. الصندوق كان هادئا الآن فأطفأ المشعل.
على الموقد، كان قدر الماء يغلي باهتياج حول علبة الفاصوليا، رفع الدكتور العلبة بواسطة زوج من الكلابات، فتحها وأفرغ الفاصوليا في صحن زجاجي. راقب نجم البحر على الطاولة بينما كان يأكل. ، قطرات قليلة من سائل حليبي كانت تنتشر من بين أشعته في كل اتجاه.
وضع الصحن في الحوض، وخطا إلى خزانة المعدات، تناول منها مجهراً ومجموعة من أطباق العدسات الصغيرة، ملأ الأطباق واحدا تلو الآخر من أنبوب نزع سدادته يحتوي على ماء البحر ثم رتبها في صف بجانب نجم البحر، أخذ ساعته وألقاها على الطاولة تحت الضوء الأبيض المنسكب. تحركت الأمواج بتنهدات صغيرة تجاه الدعائم تحت الأرضية.
تناول قطارة من أحد الأدراج وانحنى على نجم البحر، في تلك اللحظة كان هناك خطوات ناعمة على الدرجات الخشبية وطرق قوي على الباب. تجهم للحظة ثم فتح الباب. شاهد امرأة طويلة منحنية تقف في طريق الباب. لمعت في الضوء القوي.
تكلمت بصوت ناعم حلقي : "هل يمكنني الدخول؟، أريد أن أتحدث معك".
"إنني مشغول تماماً الآن ،علي أن أقوم بأشياء في موعدها، ولكنه وقف بعيدا عن الباب، فدلفت المرأة الطويلة إلى الداخل.
- "سأظل هادئة إلى أن تستطيع الحديث معي".
أغلق الباب وأحضر الكرسي غير المريح من غرفة النوم، وقال معتذرا :"كما ترين، العملية قد بدأت وعلي أن أنهيها"، كان قد اعتاد أن يأتيه كثير من الناس يدخلون يسألون. فيلجأ للقليل من روتين الشروحات للعمليات الجارية. كان يمكنه قولها دون تفكير: "اجلسي هنا، خلال دقائق سأكون قادراً على الإصغاء لك".
انحنت المرأة الطويلة على الطاولة، بواسطة القطارة جمع الشاب السائل من بين أذرع نجم البحر لتبخ في وعاء من الماء وحرك الماء بلطف بواسطة القطارة و بدأ يتمتم في شروحاته:
"عندما تكون نجوم البحر ناضجة جنسيا فإنها تفرز المني والبويضات في حالة الجزر، باختيار عينات ناضجة وأخذها خارج الماء أهيء لها ظرفاً من المد المنخفض، والآن خلطت المني بالبويضات ووضعت بعضاً من المزيج في كل واحدة من زجاجات الساعة العشرة هذه. في غضون عشرة دقائق سأقتل تلك التي في الزجاجة الأولى بالمنثول، وبعد ذلك بعشرين دقيقة سأقتل المجموعة الثانية، ومجموعة أخرى كل عشرين دقيقة. ثم سأسيطرعلى العملية في مراحل وسأعرض السلسلة على شرائح المجهر للدراسة البيولوجية"، توقف قليلا وأضاف: "هل تحبين أن تتفرجي على المجموعة الأولى تحت المجهر؟".
- "لا ، شكرا لك".
استدار بسرعة تجاهها، الناس عادة يحبون النظر خلال الزجاج، ولكن هي لم تكن تنظر إلى الطاولة نهائيا بل إليه هو. عيناها السوداوان كانتا عليه ولكنهما بدتا و كأنهما لا تريانه. لقد أدرك لم، فالقزحية كانت غامقة مثل البؤبؤ، وما من فاصل لوني بينهما.
قال: "بينما أنتظر الدقائق العشرة الأولى لدي ما أفعله، بعض الناس لا يحبون رؤيته وربما من الأفضل لك أن تدخلي تلك الغرفة ريثما أنتهي".
- "لا"، قالت بنغمتها الناعمة المنبسطة، "افعل ما شئت، سأنتظر إلى أن تستطيع الحديث معي"
استراحت يداها بجانب بعضها البعض على حجرها،. بدت عينيها لامعتين ولكن باقي جسدها كان في حالة حركة مؤجلة.
فكّر:" معدل أيض متدن كذلك الذي لدى الضفدع! "
تملكته الرغبة في هزها خارج جمودها ثانية.
أحضر إناء خشبياً هزازاً إلى الطاولة، وضع المشارط والمقصّات وركب إبرة كبيرة مجوفة على أنبوب ضغط ، ثم من غرفة القتل أحضر القطة المترهلة الميتة ووضعها في الإناء وربط أقدامها إلى خطافات في الجوانب، ألقى نظرة جانبية تجاه المرأة، لم تتحرك، ولم تزل في راحتها.
القطة كشخت في الضوء و لسانها الوردي كان عالقاً بين أسنانها المدببة كالإبر. قص الدكتور فيلبس الجلد حول حلقها برشاقة، بواسطة مشرط أحدث شقا طوليا ووجد شرياناً بواسطة تقنية لا تتطلب الصدع، وضع الإبرة في الوريد وربطها بالأحشاء.
"سائل تحنيط" ، و شرح :"لاحقا سأحقن كتلة صفراء في النظام الوريدي وأخرى حمراء في النظام الشرياني من أجل تحليل الدورة الدموية – دروس بيولوجيا".
نظر جانباً تجاهها، عيناها بدتا مملوأتان غباراً، نظرت بدون أي تعبير على وجهها إلى حلق القطة المفتوح، ولا قطرة من الدم فرت، والشق كان نظيفاً. قال الدكتور فيليبس ناظراً إلى ساعة يده: "وقت المجموعة الأولى"، وهز مجموعة من كريستالات المنثول في زجاج الساعة الأولى. جعلته المرأة عصبياً ، تسلقت الجرذان أسلاك أقفاصها ثانية وصرت بصوت خافت، ضربت الأمواج تحت البناية الدعائم ضربات خفيفة، ارتعش الشاب، وضع قطعاً من الفحم في الموقد وجلس، "الآن، ليس لدي ما أفعله لمدة عشرين دقيقة"،
لاحظ كم كانت المسافة قصيرة بين شفتها السفلى وطرف ذقنها، بدت كمن يستيقظ على مهل ليأتي من بركة عميقة من الوعي. حركت رأسها وعينيها الغبراوين خلال الغرفة ثم عادت إليه.
- "كنت انتظر"، قالت ويداها ممددتان واحدة بجنب الأخرى على حجرها، " لديك أفاعي؟"
"لماذا، نعم"، قالها بصوت مرتفع، "لدي دزينتان من أفاعي الجرس، أستخرج منها السم وأرسله إلى مختبرات العقاقير ضد السموم".
شملته بنظرها وبدت كمن ينظر في دائرة كبيرة حوله.
- "ألديك ثعبان ذكر؟ ثعبان مجلجل ذكر؟".
"حسناً يبدو أنه لدي. جئت في أحد الصباحات ووجدت أفعى في الداخل– في حالة جماع مع أخرى أصغر، ذلك نادر جدا في الأسر، أترين، وهكذا أعرف أن لدي ثعبان ذكر".
- "أين هو ؟"
"لماذا، في القفص الزجاجي بجانب النافذة هناك"، تأرجح رأسها حولها قليلاً لكن يديها الهادئتين لم تتحركا، استدارت ثانية نحوه: - "هل يمكن أن أراه؟"
نهض ومشى إلى القفص بمحاذاة النافذة، على القاع الرملي كانت عقدة الأفاعي تستلقي مجدلة ولكن رؤوسها كانت تبدو واضحة، خرجت الألسنة واضطربت للحظة ثم لوحت أعلى وأسفل تتحسس الجو والذبذبات فيه. أدار الدكتور فيليبس رأسه بعصبية، كانت المرأة تقف بمحاذاته ، لم يسمع صوتها وهي تنهض من الكرسي، كل ما أحس به كان جلد المياه للدعائم وصرير الفئران على المنخل السلكي. قالت برقة:
- "أيها الذكر الذي تحدثت عنه؟"
أشار إلى ثعبان سميك بلون رمادي مغبر يستلقي بمفرده في إحدى زوايا القفص، "ذاك، طوله حوالي خمسة أقدام، أفاعينا في ساحل المحيط الهادي تكون أصغر عادة، وقد اعتاد أن يأخذ كل الجرذان أيضا، ولذا عندما أريد الآخرين أن يأكلوا يكون علي أن أخرجه بعيدا"
حدقت المرأة في الرأس الجاف عديم الحس، انزلق اللسان المتشعب خارجا وظل يرتعش للحظة طويلة، - "أنت متأكد من أنه ذكر؟"
"الأفاعي المجلجلة مسلية جداً"، قالها بعفوية، "فكل تعميم تثبت خطأه، لا أحب أن أقول شيئا قاطعاً حول أفعى جرس، ولكن، نعم أستطيع أن أؤكد لك أنه أفعى ذكر".
ثبتت عينيها على الرأس المسطح، - " هل تبيعه لي؟"
"أبيعه؟"، صرخ، "أبيعك إياه!"
- "أنت تبيع العينات، اليس كذلك؟"
"أوه نعم، بالطبع أبيعها".


- "كم سعره؟ خمسة دولارات؟ عشرة؟"
"أوه ، ليس أكثر من خمسة دولارات، ولكن هل تعرفين شيئا عن أفاعي الجرس؟، ربما تلدغين؟"
نظرت إليه للحظة: -"لا أنوي أخذه معي، سأتركه هنا ولكني أريده أن يكون لي، أريد أن أجيء إلى هنا وأنظر إليه وأطعمه، وأن أعرف أنه لي".
فتحت جزداناً صغيراً وأخرجت ورقة خمسة دولارات، "هاك، الآن إنه ملكي".
بدأ الدكتور فيليبس يشعر بالخوف، "يمكنك أن تأتي وتنظري إليه بدون أن تملكيه"
- "أريده أن يكون لي"
"أوه يا الهي"، صرخ، "لقد نسيت الوقت"، وركض نحو الطاولة،"تأخرت ثلاثة دقائق، لن أبالي كثيرا"، هز كريستالات المنثول في زجاجة الساعة الثانية ثم انسحب عائداً إلى القفص حيث كانت المرأة لا تزال تحدق في الثعبان. سألت: - "ماذا يأكل؟"
"أنا أطعمهم جرذانا بيضاء، من القفص الذي هناك في الأعلى".
- "هلا وضعته في القفص الآخر، أريد أن أطعمه".
"ولكنه لا يحتاج طعاما، لقد تناول جرذا هذا الأسبوع، والأفاعي قد لا تأكل لمدة ثلاثة أو أربعة شهور، كان لدي واحدة لم تأكل لما يزيد عن السنة"، بنغمتها المنفردة سألت: - "هل تبيعني جرذا؟" ، هز كتفيه بلا مبالاة: "فهمت، تريدين أن تراقبي كيفية أكل الأفاعي المجلجلة، حسنا، سأريك، الجرذ سيكلفك خمسة وعشرين سنتا، ذاك أفضل من مصارعة ثيران إن نظرت إليه بطريقة ما، وهو ببساطة ثعبان يتناول عشاءه إن نظرت إليه بطريقة أخرى"
لهجته أصبحت لاذعة، هو يكره الناس الذين يجدون الرياضة في صراع المخلوقات الحية. لم يكن رجل رياضة وإنما عالماً بيولوجياً يمكنه قتل ألف حيوان لأجل المعرفة ولكنه لا يقتل ولو حشرة من أجل المتعة. هذا ما كان قد استقر في ذهنه منذ أمد.
أدارت وجهها ببطء نحوه و تشكلت بداية ابتسامة على شفتيها الرقيقتين، - "أريد أن أطعم ثعباني، سأضعه في القفص الآخر" و فتحت غطاء القفص العلوي وأنزلت يدها لداخله قبل أن يدرك ما كانت على وشك أن تفعل. قفز إلى الأمام وسحبها إلى الخلف فارتطم غطاء القفص وأغلق.
"ألا تعقلين؟"، سأل بشراسة، "ربما ما كان ليقتلك ولكنه كان سيصيبك بالمرض رغم كل ما يمكنني أن أفعل من أجلك" .
قالت بهدوء - "ضعه أنت في القفص الآخر.
اكتشف الدكتور فيليبس أنه كان يحاول تجنب العينين المظلمتين اللتين لم تكونا تنظران إلى شيء. شعر بأن وضع جرذ في القفص خطأ بيّن، بل وإثم كبير، ولم يعرف لماذا. عادة كان يضع الجرذان في القفص عندما يريد شخص أو آخر رؤية ذلك، ولكن هذه الرغبة اليوم أشعرته بالمرض، حاول أن لا يعلل السبب كثيراً.
"إنه أمر جيد للرؤية، يريك كيف تعمل الأفعى، ويجعلك تقدرين أفعى الجرس، وهكذا أيضاً كثيرون يصابون برعب الأفاعي القاتلة لأن الجرذ ذاتي، بمعنى أن الشخص هو الجرذ، أما عندما تنظرين إلى الأمر كله بموضوعية فالجرذ مجرد جرذ والرعب يختفي".
أخذ عصا طويلة مزودة بأنشوطة جلدية من على الجدار، فتح الشرك وأسقط الأنشوطة حول رأس الثعبان وضيق السير الجلدي، أفعى جرس جافة حادة ملأت الحيز، الجسد السميك تلوى وتمسك حول مقبض العصا، رفع الثعبان وألقاه في قفص التغذية، وقف جاهزا للهجوم للحظة ولكن الطنين خبا شيئا فشيئا، زحف الثعبان إلى زاوية، كون رقم ثمانية كبير (8) بجسده واستلقى بسكون. "كما ترين، هذه الأفاعي أليفة تماماً، إني أملكها منذ وقت طويل، و افترض أني قادر على مسكها إذا أردت ولكن كل من يمسك أفاعي الجرس يلدغ آجلاً أو عاجلاً، ولا أريد أن آخذ هذه الفرصة"، التفت تجاه المرأة للحظة كارهاً أن يضع الجرذ في الداخل، تحركت مقابل القفص الجديد، عيناها السوداوان كانتا على الرأس الحجري الصقيل للثعبان مرة أخرى، قالت:-" ضع جرذاً في الداخل".
على مضض اتجه إلى قفص الجرذان، لسبب ما كان يشعر بالأسف من أجل الجرذ، وهو ما لم يشعر به من قبل، مرت عيناه فوق كتلة الأجساد البيضاء المحتشدة التي تتسلق المنخل المعدني باتجاهه. "أي واحد؟"، فكّر، "أي واحد منها سيكون؟"، وفجأة استدار غاضبا تجاه المرأة، "ألا تفضلين أن أضع قطة في الداخل؟ عندها ستشاهدين قتالا حقيقيا، بل وربما تفوز القطة ولكن إن فعلت فقد تقتل الثعبان، سأبيعك قطة إن رغبت!"
دون أن تنظر إليه قالت: -"ضع جرذا في الداخل، أريده أن يأكل".
فتح قفص الجرذان وغرز يده في الداخل، أمسكت أصابعه بذيل فرفع جرذا ممتلئ الجسم أحمر العينين، كافح محاولاً عض أصابعه إلى أن فشل و تدلى بلا حراك. مشى بسرعة عبر الغرفة، فتح قفص التغذية وأسقط الجرذ على رمل القفص. صاح: "الآن راقبيه".
لم تجبه المرأة، راقبت الثعبان الذي كان مستلقياً ساكناً ولسانه يرتعش داخلاً خارجاً بسرعة، يتذوق هواء القفص. هبط الجرذ على أقدامه، استدار وتشمم حول ذيله العاري الوردي وباطمئنان هرول عبر الرمل متشمماً، لم يعرف الدكتور فيليبس إن كانت المياه هي من تنهد أم المرأة، وبزاوية عينه رأى جسدها ينحني ويتيبس.
تحرك الثعبان بنعومة لدرجة لا يبدو معها أن هناك حركة على الإطلاق. في الطرف الآخر من القفص كان الجرذ يتزين في وضع جلوس ويلعق الشعر الناعم الأبيض على صدره، حافظ الثعبان على انحناءة مثل حرف "S" في عنقه. أثار الصمت الشاب، فشعر بالدم يتدفق في جسده، قال بصوت عال:"أنظري إنه يحافظ على الانحناء الضارب جاهزاً، أفاعي الجرس حذرة وأقرب للجبن، الآلية أنيقة جدا، عشاء الثعبان يتم تناوله بعملية رشيقة كعمل الجراح، لا يأخذ الاحتمالات في حسبانه".
انساب الثعبان نحو منتصف القفص حتى الآن، وقف الجرذ ورأى الثعبان وبلا مبالاة عاد للعق صدره. "إنه أجمل شيء في العالم".
قال الشاب وعروقه تنبض بقوة "إنه أكثر الأشياء فظاعة في العالم".
دنا الثعبان من الجرذ، رأسه مرفوع بضع بوصات عن الأرض، يتموج ببطء إلى الوراء والأمام، يسدد و يأخذ مسافة، لمح الدكتور فيليبس المرأة، شعر بالغثيان، كانت تتموج هي الأخرى، ليس كثيرا، وإنما بشكل ضئيل.
الجرذ نظر إلى الأعلى ورأى الثعبان، انتفض على أربعة أقدام واقفاً، ثم كانت الضربة، تعذرت الرؤية، فقد كانت مجرد ومضة، ارتج الجرذ تحت ضربة غير مرئية وعاد الثعبان مسرعاً إلى الزاوية التي قدم منها واستقر ولسانه يلعب بشكل مستمر.
"مدهش"، صرخ الدكتور فيليبس،" تماما بين عظام الكتف، الأنياب لا بد وصلت القلب"
سكن الجرذ، متنفساً كرئة بيضاء صغيرة، وفجأة خفق في الهواء ووقع على جانبه، ركلت أقدامه بتشنج لثانية ثم همد. استرخت المرأة ، استرخت بكسل.
"حسنا"، تساءل الشاب، " كان حماماً عاطفياً، أليس كذلك؟"
أدارت عينيها الضبابيتين تجاهه، وسألت: "هل سيأكله الآن؟".
"بالطبع سيأكله. لم يقتله من أجل النشوة، قتله لأنه جائع".
انقلبت زوايا فم المرأة إلى الأعلى هازئة، نظرت ثانية إلى الثعبان وقالت: -"أريد أن أراه يأكله".
للتو خرج الثعبان من زاويته مرة أخرى، لم يكن هناك اعوجاج هجوم في رقبته ، اقترب من الجرذ بحذر شديد، مس الجسد برفق بواسطة أنفه الكليل تحسسه من الرأس إلى الذيل بواسطة ذقنه، بدا وكأنه يقيس الجسد ويقبله، أخيرا فتح فمه ووسع فكه على مفاصل الزوايا. وضع الدكتور فيليبس نصب عينيه ألا يلتفت تجاه المرأة، فكر، إن كانت تفتح فمها فسأشعر بالمرض والخوف، ونجح في إبقاء عينيه بعيدا.
ثبت الثعبان فكه حول رأس الجرذ وبتؤدة بدأ بابتلاعه، تحرك الفكان وكامل الحلق، زحف ببطء، اتسعت مفاصل الفك ثانية. استدار الرجل وذهب إلى طاولته ثانية، "لقد جعلت واحدة من السلسلة تفوتني"، قال بقسوة، "المجموعة لن تكون كاملة"، وضع واحدة من زجاجات ساعة اليد تحت مجهر قليل القوة ونظر إليها، ثم سكب كل محتويات الزجاجات بغضب في الحوض.
انخفضت الأمواج إلى همس رطب قادم من النافذة، أمسك الرجل الشاب بيت الفخ إلى قدميه وأسقط نجم البحر في المياه السوداء، توقف عند القطة التي انحنت وتجهمت بسخرية في الضوء،جسدها كان منتفخا بدم محنط، أوقف الضغط، سحب الإبرة وربط الأوردة.
"هل تشربين بعض القهوة؟"
- "لا، شكرا لك سأذهب حالا".
مشى إليها حيث وقفت أمام قفص الثعبان، اختفي الجرذ بالكامل عدا بوصة من الذيل الوردي علقت خارجه كلسان ساخر. اتسع الحلق ثانية واختفى الذيل، عادت مفاصل الفك لمواقعها، زحف الثعبان بتثاقل إلى زاويته، شكل رقم ثمانية كبير وألقى برأسه على الرمال.
قالت المرأة - "إنه نائم الآن .. إني ذاهبة، ولكني سأعود وأطعم ثعباني كل حين، وسأدفع ثمن الجرذان، أريده أن ينال وفرة منها وفي بعض الأحيان سآخذه معي بعيدا"، رجعت عيناها من حلمها المغبر للحظة: "تذكر أنه لي، لا تأخذ سمّه، أريده أن يحتفظ به، ليلة سعيدة" .. مشت بنعومة إلى الباب وغادرت. سمع وقع أقدامها على الدرج، لكنه لم يسمع خطوها على حجارة الرصيف.
أدار كرسياً وجلس مقابل قفص الأفعى، حاول أن يمسد زوره وهو ينظر إلى الثعبان المخدر. "قرأت الكثير عن رموز الجنس السيكولوجية"، فكّر، "ولكني لا أفهم، ربما أني وحيد جداً، ربما علي أن أقتل الثعبان، لو أني أعلم، لا، لا.. لا يمكنني أن أصلي لأي شيء".
لأسابيع توقع عودتها، "سأخرج وأتركها وحدها هنا عندما تعود، لا أريد أن أرى الشيء اللعين ثانية". لم تعد ثانية أبداً، ولأشهر بحث عنها وهو يتجول في البلدة، مراراً، ركض خلف امرأة طويلة ظانّا أنها هي، ولكنه لم يرها مرة أخرى إلى الأبد.
________
جون شتاينبك
كاتب أمريكي. من أشهر أدباء القرن العشرين. اشتهر بقصصه حول الحرب العالمية الثانية.
ولد في ولاية كاليفورنيا عام 1902.
مؤلفاته:
- كوب من ذهب 1929
- شقة تورتيلا 1935
- معركة ساجال 1936
- فئران ورجال 1937
- عناقيد الغضب 1939
- شرقي عدن 1952
فاز بجائزة بوليتزر عام 1940 عن رواية عناقيد الغضب
فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1962 ، عن مجمل أعماله
توفي في نيويورك عام 1968