الخميس، 9 يونيو 2011


قفص الطيور                                 قصة قصيرة   \   محسن الطوخى
..............                                  ...........           

     يتصدر المجلس والسيجارة فى ركن فمه . البيجاما المقلمة تحت المعطف الداكن .. الطاقية الصوف ..وجهه الهضيم يكتسى بعلامات الجد وهو يحدق فى أوراق اللعب :
- العب يامحترم ..لن ننتظرك حتى الفجر .
تتطلع اليه العيون متحفزة , تتساقط أوراق اللعب فوق المائدة الخشبية , يفرقع بالكارت منتشيا : آس سبيد .
يلملم الأوراق ويدسها أمامه مكشرا عن أنيابه فى مرح , يداعبه فؤاد ذو الشارب الزغبى :
- خسارة مواهبك تهدر فى هذا التيه .
يصيح بصوت أجش : قل للغجر .
يتفجر الضحك من حناجر تتوق للملحة .  يتابع فؤاد :
-لا يعرف قدرك سواى .
- ذلك أن الطيور على أشكالها تقع .
تتقافز عيناه فوق الوجوه وهو يتمتم متفكها : كلكم أولادى .
يلتقط الورق فيتأهبون لمعاودة اللعب , تكتسى الوجوه للحظة بجد حقيقى . رمى فؤاد الورق من يده .
- مللنا اللعب ... أرنا نياشينك .
توقف .. تفرس فى العيون بسرعة منتهيا بعينى فؤاد :
- النياشين لا يحصل عليها الا الحمقى من أمثالك .
لم يكن من الضرورى أن يكون ما يقوله مضحكا ليضج الآخرون بالضحك .
- لقد شاهدتموها عشرات المرات .
- أنسيت أن بيننا وجها جديدا ؟
كانا يقصدوننى .. اتجهت صوبى عشر عيون .
- أعرف ما تقولونه عنى فى خلوتكم ياأولاد الأبالسة .
     أعتدل وهو يضحك بطيبة . كنت ألتقى به للمرة الأولى , رغم أنى أعرفه منذ زمن بعيد , اذ يعرفه القاصى والدانى من أبناء المهنة . أتاحت لى وظيفتى كمفتش أن أتجول فى العديد من الوحدات العسكرية  , وأن ألتقى بأشخاص كثيرين يجدون الدافع لكى يرفهوا عنى , ويجعلوا اقامتى فى كثير من الأماكن الموحشة طبيعية الى أقصى حد ممكن , فتوفرت لى أمسيات طيبة , مليئة بالحكايات والنوادر . ونادرا ما ضمتنى أمسية دون أن يأتى ذكر السيد الضارب .                        صباح اليوم عنما ولجت بوابة المعسكر موفدا لبضعة أيام أشرف فيها على مستوى الرماية , كنت أتوق فى المقام الأول الى الالتقاء به , أول مااعترانى حينما أشاروا اليه , وتقدم فعانقنى , كانت الدهشة . كنت قد كونت صورة لشخص مفتول العضلات , بارز الصدر , مفرط فى ضخامته . تصورت بعين الخيال شاربا كثا متهدلا , وفما ساخرا , ونظرة ثاقبة . عندم احتضننى ببساطة أحتويته بذراعى فغاص بحجمه الضئيل فى صدرى , تطلعت الى وجهه الناحل ورأسه الصغير الأصلع , واحتوتنى نظرته الطيبة فذابت دهشتى فى غمرة الاحساس بالارتياح . تطوع فقادنى الى الاستراحة التى خصصت لى و قال وهو يجرب الصنبور الجاف  
- عسى ألا تفجع فينا .. لقد حاولنا أن نجهز لك مكانا يليق .  قلت متوددا : انهما ليلتين لا غير .
قال : ستأتى عربة الماء فلا تحمل هما .. تستطيع ان أردت أن تشاركنى الصومعة .. لكنك لن تجدها أفضل حالا.

..........

     لم تكن هناك مبالغة فى اطلاق اسم الصومعة على استراحة الضارب . الدرجات الحجرية التسع التى تهبطها . والباب الخشبى الضيق . والشكل البيضاوى . والقضبان الحديدية لأغطية الرأس التى تحمل سقف الملجأ الميدانى . وحتى الوجه الشاحب الضامر الذى ينظر اليك ببساطة . قال وهو يعتدل بجسده , قابضا بأصابعه على أوراق اللعب :
- أعرف ماذا يقولون عنلى فى  ادارتكم الرديئة .
نظرت اليه مستفهما ,
- يقولون أن لدى أرباعا ثلاثة ضاربة .
ضحكت قائلا : انهم لا يعرفونك جيدا .
قال بجدية : صدقت .. هذا دليل على فراستك .. فلو أنهم يعرفوننى جيدا لأدركوا أن الأربعة جميعهم  ( ضاربين ) .
     دوت عاصفة من الضحك ارتجت لها الجدران . القى بأوراق اللعب ونهض فساد الصمت . صمت مفتعل مشحون بالبهجة الخالصة , لا علاقة بينه وبين العالم الآخر الذى يقبع مكفهرا مقبضا فوق الصومعة .
     خطا خطوتين وأزاح ستارا واختفى وراءه , ثم لم يلبث أن أقبل يحمل بين يديه حقيبة ذات كسوة مخملية خضراء . اكتشفت من وجوه الر فاق أن علامات الجد التى تكسو وجه الضارب حقيقية , قال : بعدها ستنصرفون .
      استوى جالسا ورفع الغطاء , كانت هناك عوضا عن النياشين والأنواط , مجموعة من الشظايا المعدنية متفاوتة الأحجام والأشكال . احتلت الحواف قطع دقيقة فى حجم المصات , تلتها مجموعة من أحجام أكبر , أما كبراهن فقد استوت فى مركز المساحة الخضراء , شظية فى حجم عصفور الكناريا , سوداء مستدقة الأطراف , مكسوه بالنتؤات , كأنها حيوان بحرى صغير . أشار أحدهم الى الشظيات الحمصية قائلا : تلك هى العصافير .
رد فؤاد موضحا : العصافير .. هى تلك الطيور الدقيقة الرقيقة التى استخرجت من جسد الضارب نفسه .
قال ثالث وهو يتحسس بأصابعه مجموعة أخرى : أما تلك الحدآت .. فمن أجساد أخرى .
قال الضارب : تعرفون القواعد .
علق أحدهم : عليكم أن تختاروا واحدة .
أردف الضارب : بعدها ستنصرفون .
قال فؤاد : سيحظى ضيفنا بشرف الاختيار .
اتجهت العيون الى متسائلة ومحفزة . قفزت الى الكلمات الى لسانى قبل أن أعقله -  سأختار العنقاء . 
انفجر الضارب مقهقها فى سعادة حقيقية , وهو يلكم صدرى : أحسنت .
عقب فؤاد قائلا : تلك القطعة تخص المتهور .
     ساد الصمت وبدأ الضارب يروى .. تقلصت أمعائى وهو يصور كيف توقف القصف للحظة وساد الهدؤ , وقفز المتهور – هكذا أسماه – خارج حفرته ينفض الغبار عن وجهه وشعره , فى نفس اللحظة – هكذا أضاف – صفرت دانة .. رأيتها مقبلة .. كما أعرف أن المتهور رآها .. ليس من الأمور المتيسرة لكل شخص رؤية دانة مقبلة .. هذا شىء تتعلمه فى الميدان , عندما تعتمد حياتك على ترجمتك السريعة للأصوات , وتعتاد عيناك مفردات الضؤ فى الصحراء المفتوحة , هل رأيت الخوف فى  تلك اللحظة على وجه المتهور ؟ .. عشت سنوات معه يراودنى حلم آثم , أن أرى تعبير الخوف فى وجهه , أن يشوب  صوته تلك الرعشة التى تنبىء عن تصدع القلب . انفجرت الدانة على مسافة قريبة , ومرت العنقاء . رفع عينيه فى تلك اللحظة الى" وهو يصور بيده كيف مرت الشظية فى أحشاء المتهور من البطن , فخرجت من الظهر . خيم صمت ثقيل قبل أن يستطرد -  كانت هوايته المفضلة أن يتسلل من بيننا , يحمل هاتفه الميدانى ويقول :
-هل تريدون شيئا من هناك ياأولاد ؟
ونعرف نحن ماهو ( الهناك ) .. لم أكن لأفعل مايفعله المتهور . أحمل نفسى وأذهب مختارا الى الجانب الآخر , وأسير فوق الأرض الملغومة بين تحصينات اليهود , وأكمن حيث خطوط الهواتف , أعرى بأسنانى الأسلاك الباردة , وأقبع بالساعات أسترق السمع . ولما لا يجيب المتهور الا الصمت يقول لنا : لديهم هناك نساء فاتنات , سآتيكم بواحدة .
ويبتلعه الظلام , يتلاشى وقع أقدامه , أما نحن فننساه حتى يعود .

..........

      تتقلص أمعائى وأنا أكاد أرى العنقاء تمخر الأحشاء الطرية . أما الأمعاء الدامية فتبرز وسط لمعان أسنان الضارب , وهو يضحك ويقسم أنه لم ير الخوف مرة واحدة فى وجه المتهور حتى وهو يموت . عاد صوته الأجش يقول : بعد انتهاء المعارك أصبح مادار فى تلك البقعة يسمى بمعركة الشهيد سعد . كان سعد بطلا حقيقيا . كأنما كانت هناك صخرة فى مكان القلب منه . أنا لم أكن لأفعل أبدا ما كان يفعله .
     عندما نهض الضباط الصغار فى وقت متأخر تثاقلت أنا تحت وطأة رغبة عجزت طول الوقت عن التعبير عنها . بادرنى قائلا : تريد أن تبقى .
قلت وأنا لا أعنى ماأقول : الفجر على الأبواب .  قال : ربما لتشاهد الصومعة .  لم أعلق بينما استطرد : سوف تراها ولكن على الأولاد أن يرحلوا . 
كان آخر واحد منهم قد شد على يدى ومضى , أطل فى أثرهم وقال يحدث نفسه : أولاد طيبون .
قادنى وهو يزيح الستار : هذا ركنى الخاص .
كانت جدران الصومعة المقعرة مكسوة بأرفف بدائية الصنع عامرة بالكتب . أدار فتيل المصباح فاتسعت مساحة اللهب دون أن يضيف ذلك شيئا الى اضائة المكان . قلت :
- لا يستطيع مرحك أن يخفى شجنك .
دار ببصره فطاف بالكتب المتراصة . بدا المقعد الوحيد باردا موحشا أسفل المصباح فى نهاية الممر الضيق الذى يفصل الفراش الميدانى البسيط عن الجدار . دار حول نفسه قائلا :
- تستطيع أن تجلب مقعدا من الخارج .
- لن أبقى طويلا .. فقط دعنى ألقى نظرة على نياشينك .
- لقد رأيتها لتوك .
- أعنى النياشين التى منحتها فى الحرب .. النياشين الحقيقية .
- النياشين الحقيقية .
رددها لنفسه مبتسما كأنما يستمتع بوقع الكلمات .
- النياشين الحقيقية لا يمنحها لك أحد . أنت تحصل عليها هناك . تخوض الحرب فتحصل على واحدة – أشار الى الشظيات – فاذا بقيت حيا . لم يعد لأى شىء آخر قيمة .
- تعنى أنك لم تحصل على أية نياشين ؟
- أمامك ياصديقى كل مالدى من تراث شخصى .
- أنا لم أخض التجربة , لكنى أعتقد أنه من الغبن ألا يكافأ الانسان فى مقابل البلاء الحسن . هناك دائما المغانم والامتيازات .
كان ينظر الى فقط .. قلت مترددا : لابد أن الأمر يترك فى النفس بعض المرارة .
قال وهو ينظر فى عينى مباشرة : ليست هناك أهمية لما تعتقده أنت أو أنا , جوهر المسألة هو حياتك , تفقدها أو تحتفظ بها لقاء أشياء لا تدخل فى حساباتك . القضية العامة تتحول فى الميدان سواء شئت أم أبيت الى قضية غاية فى الخصوصية .. أن تظل حيا , فاذا علمت أن الله هناك ينظر فسوف تمتلىء بشىء واحد .. هو الدهشة , ولن يبقى حقيقيا الا ما يحتويه قفص الطيور . أشار مرة أخرى الى الشظيات الراقدة فى صندوقها المخملى .
     سادت فترة من الصمت , لم أكن أجد ماأصل به الحوار دون أن أكون مباشرا بطريقة تجعل منى ضيفا وقحا .. واصل حديثه :الحرب نشاط مثلها مثل باقى الأنشطة . أنت تذهب الى هناك لأنك منذ البداية لم تختر نشاطا آخر وعندما تقسم على الطاعة فقد أصبحت رهينة , ويكون من سؤ طالعك حينئذ أن تفترض سلفا أن المقدمات تؤدى بالضرورة الى النتائج , كما أنك لا تستطيع أن توجه اللوم الى أولئك الذين لديهم المهارة لجذب الانتباه الى أدائهم الخاص فهم أيضا يقومون بواجباتهم على خير وجه , بل انهم يفقدون حياتهم فى سبيل التمسك بشبر واحد من الأرض .. الانسان هو الانسان , موثق بقدره فى الحرب كما فى السلم .. تماما كما تكافىء ذلك الذى يأخذ بيد امرأة عجوز فى الطريق العام .. هل يعنى ذلك أنه الوحيد الذى يمتلىء قلبه بالشفقة ؟.. كلنا تأخذنا الشفقة بالنساء العجائز . ولكن المسألة منذالذى يعثر على امرأته العجوز فى الوقت المناسب .
سألته مداعبا : وأنت ما شأن امرأتك العجوز ؟
ضحك وهو يقول : لم أكن أبدا ذا باع مع النساء .
قلت : حتى االنساء العجائز ؟
- العجائز منهن بالذات .
وأغرق فى الضحك . . كان الليل قد أوغل , قاومت رغبتى فى البقاء وشددت على يده مودعا , وعندما كنت أهم بارتقاء الدرجات الحجرية صاعدا الى سطح الأرض سمعته يقول بوداعة : العنقاء .. انها لى .
     كنت لا أزال أقبض عليها بشدة , تناولها وهو يبتسم .. فى الخارج كانت السماء مرصعة بنجوم كثيرة . بحثت عن النجم القطبى . فقد كان هو الذى سيقودنى شمالا الى الاستراحة التى خصصت لاقامتى .

 الرسم المصاحب بريشة الفنان \ ياسر عبد القوى

الثلاثاء، 7 يونيو 2011



أصيل ( 5 - ؟ )   ... السيد عبد الرحيم أدريس

...........................


      ربما كان الدافع وراء البحث عن 

شعار واسم للندوة , هو الهاجس الذى 

ظل يراود الجماعة . يطفو حينا على 

سطح الوعى , ويغيب أحيانا , لكنه 

هاجس حى على الدوام . وهو الخشية من 

اقتران الندوة فى الأذهان بالنادى النوبى . 

رغم أن واقع الحال كان أبعد من أن يثير

 مثل تلك الحساسية . ويستحق الاستاذ الفاضل السيد أدريس , رئيس النادى آنذاك , 

كل التقدير . مصرى متفتح , يعرف قدر المثقفين , ويؤمن بدور الأدب والفن

باعتبارهما من أهم مقومات بناء الانسان . ولقد استحق احترامى الكامل , واحترام 

كل من عرفه من جماعة أصيل , عرفانا لمدى تقديره للدور الذى كانت تلعبه الجماعة .

 ومن الواضح أن تعليماته وأوامره لاداريى النادى كانت واضحة تماما , بتقديم كافة 

المعاونة من ناحية , ولتجنب التدخل فى أعمال وأنشطة الندوة من جانب آخر .


       كانت القاعة التى خصصت للندوة عبارة عن منتدى لشباب النادى , يمارسون 

فيه الهوايات والسمر , وكانت تحتوى بالأضافة الى طاولتين للبنج بونج على جهاز

 تلفزيون عتيق مرفوع على حامل مثبت بالجدار , وبعض المناضد تعتليها طاولات

 الزهر ولوحات الشطرنج .

     كان ( ناجى ) عامل البوفيه منذ عصر الجمعة المخصص أسبوعيا لعقد الندوة , 

يضم طاولتى البنج بونج , ويفرد مفرشا أخضر اللون يغطيهما معا , ويصف

 المقاعد , ويرفع من القاعة كل أدوات التسلية فيحولها الى قاعة مؤتمرات بمعاونة 

الأعضاء المبكرين . ثم يواظب على تقديم المشروبات . وكنت تشعر وهو يدفع الباب

 برفق اثناء انعقاد الندوة , ويتحرك بحرص كأنما على أطراف أصابعه , يوزع 

الأكواب فى صمت  ثم يتسلل مغادرا فى هدؤ , الى أى حد يدرك ذلك الرجل البسيط 

قيمة النشاط الذى يدور فى القاعة .

وعلى امتداد سنوات لم يخرق أحدهم خصوصية الندوة , ولم يتدخل أحد من موظفى

 النادى أو أدارييه فى أعمالها . وكنا نملك أن نناقش كل الموضوعات , ونحطم جميع

 التابوهات دون أن يحفل بنا أحد . فيضاجع الموتى السماء بعامود السوارى , فى

 قصيدة ياسر عبد القوى ( الرأس البرونزى ) , وينشد عبد الرحمن عبد المولى ( 

الشاعر المفقود ) قصائده فى هجو العرب وانتهاكهم أذ يشاركون فى تطويق العراق

 تمهيدا لطحنه , ويرصد أنور جعفر بدايات المد الوهابى فيكتب دماء على تل الزمار

 ¸ويلقى حجاج قصته القصيرة ( ليس مع العبيط ) , ويناقش المرحوم محمود حنفى

 روايته ( ظل عائشة ) حول هزيمة الوطن ,يخترق فيها المحظور السياسى والدينى

 معا . وتنصت القاعة لشهدان الغرباوى وهى تلقى أشعارها متجاوزة كل الحدود
 .
غاية الأمر أن علاقة أشبه بالتكافل قد نشأت بين أصيل وبين النادى النوبى , برعاية

 الرجل الأصيل السيد أدريس . كان النادى يوفر قاعة دائمة واستقرارا تاما للأدباء .

 بينما كانت الندوة تغطى نشاطا ثقافيا هو من صميم أنشطة نادى اجتماعى . فكنا لا

 نعترض على تضمين فعاليات الندوة ضمن سجلات النادى كنشاط ثقافى يدعم مجلس

 الادارة . كما كنا نوجه الدعوات للندوات العامة باسم رئيس النادى . أذكر فى هذا

 المقام أن عن للجماعة أن تستضيف فى أحدى ندواتها عام 93 الأديب نعيم تكلا 

كاشارة الى انفتاحها واحتفائها بكافة التوجهات وللتدليل على قبول الآخر مهما كانت 

توجهاتة فى اطار الأدب والفن . ولم يكن لدى الوسط الثقافى حينها استعداد لتقبل

 أعمال نعيم التى تدور حول يهود مصريين أجبروا على الرحيل من مصر تاركين 

ذكريات وحيوات وصداقات . وجهنا الدعوة اذن لنعيم لحضور أحدى الندوات . ورغم

 أنه لم يزد عن المشاركة فى فعاليات الندوة الا أن موجة من الأقاويل والشكوك ثارت

 لأسابيع فى مناخ يعلى من قيم الانغلاق ( ربما كان مقدمات لما آلت اليه الأحوال 

اليوم )  . ولم يكن يشغلنا كجماعة الا ماقد يكون من تأثير ذلك على أدارة النادى .

 وأذكر أننى حين استطلعت رأى السيد أدريس أن ابتسم بود وقال : زوبعة فى فنجان

 ستنتهى .. لا تهتم .

وفر السيد أدريس أذن ملاذا آمنا للندوة . ووفرت له الندوة نشاطا مشرفا طالما افتخر 

به .

السبت، 4 يونيو 2011





أصيل (4  - ? ) ...  أحمد نبيه

     ...................


نبت أحمد نبيه فى الندوة 


بتلقائية , كبذرة شجرة كامنة 

فى التربة تنتظر سقوط المطر . 

ليس جريا على عادة الأشجار , 

تنموحثيثا . بل نبت دوحة 

وارفة فكأنما خرج من جراب 

ساحر .

حدث ذلك فى نهايات عام 

1990 , عندما حطت الندوة 

على مقر ثابت فى النادى النوبى العام الذى أتاح لها نقلة نوعية بالغة الأهمية . فلم 

تكن الندوة فى مرحلة المقاهى الا امتدادا لصالون أنور جعفر . وهو نفسه مافتىء 

يتعامل مع الحضور باعتبارهم ضيوفه , فلم يكن أحدنا ليجرؤ على تسديد ثمن

 المشروبات فى أى مقهى أرتدناه .

ويظهر اسم أحمد نبيه منذ أول تسجيل للندوات باعتباره أحد المؤسسين للجماعة , 

التى ستبحث لنفسها فيما بعد عن اسم وشعار وخطة عمل .

كان هناك منذ الليلة الأولى التى دخلنا فيها الى النادى النوبى , نبتسم للوجوه 

الشابة السمراء , ونتحسس مواقع أقدامنا . عرفته كشاعر رغم أنى لم أر له الا 

قصيدة يتيمة تدور على ما أذكر عن القدس الأسيرة . لكنه مفكر من طراز فريد , 

مثقف موسوعى . ومنذ اللقاء الأول صار واحدا من المؤسسين فلم تنقطع علاقته 

بالجماعة قط .

لا أنسى دوره وحماسته فى تجربة كتاب أصيل التى أنتجت رواية , وديوان شعر ,

 ومجموعتين قصصيتين , وكيف شارك أحمد نبيه فى الاعداد والتجهيز وتولى

 مسئولية الاشراف على طاقم التوزيع الداخلى فى الأسكندرية , فى الوقت الذى تولت 

فيه أخبار اليوم التوزيع فى عموم القطر , فكان العدد الذى تم توزيعه فى الداخل

 عشرة أضعاف ماوزعته دار الأخبار فى محافظات مصر . والواقع أن الكثير من 

طموحات أصيل فى النشر لم يتحقق لأسباب ربما يسمح المقام بذكرها فيما بعد .

كما يظهر اسم أحمد نبيه فى سجل الاشتراكات الشهرية كواحد من أكثر المساهمين 

انتظاما فى تمويل الجماعة التى كانت تعتمد على المؤسسين فى فى الانفاق على

 انشطتها المختلفة . ولأوجه الصرف على تلك الأنشطة حديث مستقل .

وربما يحسب لأحمد نبيه كونه العضو الأكثر فعالية على امتداد عمر أصيل فى 

الاجتماعات الخاصة بالمؤسسين , وكانت أسبوعية مستقلة عن ندوة الجمعة , 

بغرض وضع الخطوط العامة والسياسات وحل المشكلات الطارئة , ومناقشة 

الاصدرات . 

أما البصمة الأكثر وضوحا لنبيه فهى مساهماته وفعالياته فى ندوة الجمعة الأسبوعية 

التى خصصت لتناول أعمال أعمال الأدباء من شعر , وقصة , وكافة فنون الكتابة ,

 والتى كانت بمثابة ورشة أصيل وعماد نشاطها الأساسي . وقليلون هم الذين 

يملكون القدرة على النقد والتحليل على البديهة بمجرد الاستماع الى العمل الآدبى

 مقرؤا. وكان نبيه واحد من أولئك .

وقد تميز الى جواره الشاعر المشاغب خالد يوسف . ولعل كليهما يوافياننى

 بشهادتيهما عن تلك الفترة لتكونا جزءا من هذا السياق .

وأحمد نبيه بعد من اللأشخاص المعدودين الذين لم تنقطع صلتى بهم منذ تركت

 الندوة فى 1996 . والحوار معه ممتع . يحدثك فيمتعك فى السياسة والأدب 

والاقتصاد والتاريخ . وهو ليس كغيره نتاجا لأصيل . وانما أصيل من منتجاته .


الجمعة، 27 مايو 2011


    أصيل (3 - ؟ ) ...  أنور جعفر
                                       
      منزل أنور جعفر . شقة عادية بالعقار رقم 6, شارع شادى عبد السلام , بميامى . يشملك لحظة دخولك شعور عام بالنظافة , والنظام , والذوق الرفيع . هى سمات ترجع بالتأكيد الى سيدة المنزل . سيدة نوبية دقيقة الجسم والتكوين , تتمتع بوجه تشع منه السماحة والألفة .

      النظام والهدؤ والارستقراطية فى السلوك , هم روح هذه السيدة الفاضلة تسرى فى المكان , وتسرى بالتأكيد فى أنور نفسه , وكان اذاك على مشارف الستين , يستقبل القادم بحفاوة لدى الباب , بعد لحظة من انفراج الشراعة , وابتسامته المبسوطة تملأ وجهه. يخطو الضيف خطوتين لا أكثر ليجد نفسه فى الصالون عبر الصالة .


      عندما عرفت طريقى الى الصالون , لم يكن يضم غير عدد قليل من أدباء ومثقفى اللأسكندريه . أذكر منهم مصطفى نصر , ود. مصطفى عبد الشافى , وعبد العزيز عبد الشافى , وأحمد مبارك , وأحمد فضل شبلول . وربما خلطت الذاكرة بين من حضروا الصالون وبين من انضموا لاحقا فى مرحلة المقاهى الا أن ذلك لا يغير من جوهر الأمور . 

      كنت خلال خدمتى الطويلة فى الجيش قد هجرت الأدب مرغما ,  أقرأ بنهم فى جميع الموضوعات , لكنها قراءة غير موجهه لا تضبطها خطة ما . أرتقت القراءة المكثفة بذوقى ومداركى لكنها لم تشكل نمطا أو اتجاها فكريا . وكنت معزولا عن الصرعات الأدبية الحديثة التى كانت تمور بها الحياة الثقافية فى الثمانينيات , فسقطت فى بحر لجى من مصطلحات لم أكن على دراية بها . تيار الوعى , والبنيوية , والشكلانية , وسريالية الشعر والتصوير ¸ وجودية سارتر وعبثية بيكيت وكامى , فاقبلت على مجلة فصول التى كانت فى ذاك الوقت تحتفى بنشر المقالات النقدية عن تلك الاتجاهات  ورحت اجوب شارع النبى دانيال ( ايام عزه ) فألتقط كل كتاب يتناول النقد الأدبى , وبدأت فى تكوين مكتبتى الخاصة التى سطا عليها الكثيرون ابان حقبتى الرومانسية التى كانت فى سبيلها الى التآكل . وهذا يفسر لى الآن السبب الذى من أجله أننى عندما التقيت بأنور جعفر فكأنما عثرت على ضالتى . ربما كان السبب الأهم هو أنه كان من الأصالة بحيث يدرك كم الزيف والضحالة عند اولئك الذين جرفوا الوسط الأدبى  فى اتجاه اللامعقول , وكل فنون الحداثة , حتى باتت الواقعية سبة لصاحبها . فارتبطت به وداومت على حضور صالونه الجمعة من كل أسبوع . وأعتقد أن أنور بدوره قد ارتاح لصفاتى الشخصية أكثر مما اقتنع بموهبتى الأدبية . فقربنى اليه , ولا أعرف أنه باح بمكنون صدره لأحد سواى . فتوثقت صداقتنا على مدار عشر سنوات , نما فيها الصالون كطفل يحبو ويشب , وتزايد ضيوفه بمن انضموا اليه حتى لم يعد يتسع لمزيد , كما ثقل عبء تقديم المشروبات على سيدة المنزل دون أن تبدى تبرما . ولا أذكر من الذى طرح فكرة عقد الصالون خارج المنزل . لكنها على أى حال لم تكن فكرة أنور جعفر .

      وفى الشتاء , أواخر عام 88 بدأنا نرتاد المقاهى لنعقد ندوتنا . لم يكن للندوة بعد اسم , ولم يكن لها خطة , كنا ننخرط فى مناقشة قضية أدبية , أو اصدار حديث , أو يطرح أحد الحاضرين أحدث أعماله فنتبادل فيه الاراء . ثم نفترق فى الهزيع الأخير من الليل , فأعود متثاقلا وقد امتلأ رأسى بعشرات الموضوعات . تلك كانت مدرستى . اذ أنفق الأسبوع بين الندوة والأخرى فى النبش على أرصفة النبى دانيال والمكتبات العامة والخاصة , أرجع الى أصول الموضوعات فأدرسها بنهم الجائع الى المعرفة . فهل استطعت أن أعوض ما فاتنى فى عشرين عاما بياتا شتويا اجباريا ؟ . لا أعتقد أنى أفلحت . كل ما أفلحت فيه هو ازالة بعض الصدأ أعاننى على المساهمة بالدور الذى قدر لى فى تأسيس ورعاية جماعة أصيل الأدبية .

      غادرنا أذن صالون أنور جعفر , لكن الصالون حافظ على تماسكه وانتظامه متنقلا بين مجموعة من المقاهى بدءا من ميامى , فسيدى بشر , فالمنشية , حتى انتهى بنا المطاف فى المقهى التجارية . كان يدفعنا الى الانتقال من مقهى الى سواه ضيق المساحة والصخب الذى يطغى على أصوات المتحدثين . وكان مقهى التجارية نموزجيا حيث وفر موقعه موردا ثريا للشباب من كل التوجهات والميول والمشارب . 
  
      صار للندوة سحرها الخاص , فكنا ننهى أعمال الندوة فننتقل للمتابعة بشكل أكثر تحررا فى البوابين أو نجمة ميامى بشارع اسكندر ابراهيم . وكان العمود الفقرى للندوة فى تلك الفترة هو أنور جعفر نفسه , بحضوره الفريد , وتلقائيته , وبساطته , وتواضعه الجم . بالاضافة الى ثقافته الموسوعية . وأزعم أن الكثيرين من المبتدئين قد تم صقلهم فى تلك الندوة . ونراهم الآن يملأون أرجاء الأسكندرية صخبا , يملكون آفاقا واسعة , وجرأة على عرض أفكارهم , انما اكتسبوها فى أصيل . وربما أن ما تفردت به الندوة انما يكمن فى احتضانها للجميع , واحتفائها بكل التوجهات . ولم يكن الهواه ليجدوا أدنى حرج فى عرض أعمالهم واجتهاداتهم فيجدوا الرعاية بلا مجاملة ولا استعلاء . وانى لأرى من حولى الكثيرين ممن أقبلوا 
على الندوة لديهم الموهبة ولا يملكون الجرأة . نهلوا وارتووا ثم انطلقوا مشرعين أجنحتهم فارتقوا , ونسوا أن يلتفتوا برؤسهم الى الوراء فيتذكروا أصيل .

استمر انعقاد الندوة على مقاهى الآسكندرية ما يربو على سنوات ثلاث , حتى قدر لها أن تستقر بشكل مؤقت كاستضافة فى النادى النوبى العام . تلك الاستضافة التى استغرقت عمر الندوة كله . ولهذا حديث آخر .

الخميس، 26 مايو 2011


    أصيل (2 - ? ) ... حجاج أدول                               

          أمسية من أمسيات صيف عام 86 الحارة , قادتنى قدماى الى قصر ثقافة الحرية ( قصر التذوق الآن ) قاصدا ندوة القصة بعد انقطاع دام عشرون عاما بدأت بالتحاقى بالكلية الحربية فى نهاية الستينيات , أنفقتها فى خدمة ميدانية شاقة فى ربوع وصحارى مصر , لم أنجز فيها شيئا ذا بال , ولم أحقق تطلعاتى نظرا لرومانسيتى الشديدة , فقد كنت أرى للحق وجها واحدا بينما كان له عديد من الأوجه .

        وجدتنى أرتقى مدخل قصر الثقافة , دخلت قاعة القصة القصيرة لأجد عبد الله هاشم يدير ندوة تقليدية . قادتنى المصادفة لأجلس الى جوار ِ( شاب ) أربعينى نوبى الملامح . سمرته المحببة ودماثته أزالتا الحواجز فتعارفنا سريعا بلا عوائق . قادنا الحديث حول شئون الأدب والكتابة الى المجاهرة بالضجر من الندوةالدائرة فانصرفنا قبل انتهائها واستكملنا الحديث سيرا فى النبى دانيال . كان ذلك الأربعينى الدمث هو حجاج أدول . زاملته منذ ذلك الحين  ما يقرب من عشر سنوات  . كنت أستطيع على الدوام أن أسمع مراجل الغضب تدوى فى صدره , كان قد أنفق تسع سنوات مجندا فى الجيش حارب فيها الاسرائيليين وأحرز مع رفاقه النصر وعاد ليجد فى انتظاره مقعدا خشبيا هالكا فى وزارة الزراعة ومرتبا هزيلا فانكفأ شأن النبلاء على موهبته ينحتها بدأب لم أر له مثيلا . كان حينئذ يعالج قصص مجموعته الأولى التى نشرها فيما بعد تحت اسم ( ليالى المسك العتيقة ) . بهرتنى قصة الرحيل الى ناس النهر أحدى قصص المجموعة , تمنيت وقتها لو سمى المجموعة باسمها . وقعت فى غرام بطلة القصة ( آشا آشرى ) , قطعت آشا نياط قلبى وهى تصرخ ملتاعة :     ( صيام يانسٌاى) ..  كان صيام وقتها غائبا بالغرق فى النهر فى رحلة العودة من الغرق الأول فى المدينة الشمالية , ولم يغفر حجاج للخزان أن كان السبب فى تغريبة صيام , ولوعة آشا .  كانت أزمة غرق النوبة والتهجير ماثلة فى كيانه منذ ذلك الوقت . حتى جرفته السياسة فتشعبت بنا الطرق ولم أعد أراه منذ عام 96 أثر رحيل أنور جعفر . كأنما كان أنور هو الخيط الذى يجمعنى بحجاج, رغم أن الأمر لم يكن كذلك , لكن هذا مابدا على أى حال .

      فى لقائى الأول بحجاج وقبل أن نفترق وعد بأن يصحبنى فى الأسبوع المقبل ليقدمنى الى شخص فريد . قال أننى سوف أعجب به . ,قال أيضا أنه بالتأكيد سوف يحتفى بى , وقد كان , أصطحبنى فى الأسبوع التالى الى صالون أنور جعفر لكى تبدأ الخطوة الأولى من رحلة الألف ميل المسماة ( أصيل )

الخميس، 19 مايو 2011

قال لى صديقى:                                    
ملم بالتاريخ والجغرافيا , قارىء للأدب وتاريخ الشعوب ,أعرف تاريخ الأديان ومعتقدات الشعوب , أفهم فى الفلك والفيزياء والأنثربولوجى , أتذوق الفنون والموسيقى , ملم بالنسبية والتحليل النفسى ونظرية التطور , أدرك مساهمات فلاسفة ومفكرى عصر النهضة والتنوير , وأدرك تفاصيل الثورات الكبرى فى التاريخ المعاصر , أدرك ويلات الحروب الكبرى على مر التاريخ , ألممت بأسباب قيام وانهيار الحضارات . 
ولا أفهم ما يجرى فى مصر . ولا أبصر مواقع أقدامى . وليس أمامى طريق واضح للخروج من الأزمة . هل نقلتنا ثورة 25 يناير الى حال أفضل , أم الى الأسوأ . هل نحن شعب جدير بأن يتولى أمر نفسه , أم نحن همج لا يصلح حالنا الا بحكومات غاشمة تدير أمورنا بالأساليب القمعية . 
فاذا كان هذا هو حالى , فما بال البسطاء الذين لا يدركون من أمور العالم الا وسائل جلب الرزق يوما بيوم لتوفير الحاجات الأساسية ؟
قلت لصديقى :
أنا مثلك تقلقنى الفوضى الضاربة أطنابها فى الشارع المصرى .وأكاد أحن الى الأمن المصنوع على شفا توازنات تمسك بخيوطها سلطة فاسدة .. لكنى أعى ابعاد الفترة المفصلية التى تعبرها مصر . مصر التى أهدرت العديد من الفرص المماثلة . وشأن الفترات المفصلية فى عمر الشعوب أنها عصية بطبيعتها على أن يحتويها فهم أو ادراك محيط . اذ هى تنقل الأمم عبر نقلات نوعية لا تخضع للحسابات والتحليلات . انها ليست كانصهار العناصر فى بوتقة , يمكن حساب نواتج تفاعلها , فالشعوب والجماعات البشرية أبعد ماتكون عن صفات العناصر المادية الجامدة . 
وأنا على استعداد لقبول المخاطرة . لا أخشى الكتل المتطاحنة فى الشارع المصرى . تيارات اسلامية فيما بينها من جانب , وفيما بينها متحالفة اذاء التيار  العلمانى . رأسمالية متوحشة مع طبقة عمالية مطحونة تتطلع الى حقوقها المهضومة فيما يسمى افتئاتا  بالمطالب الفئوية , سلطة تأمل فى بقاء الوضع كما هو عليه مع بعض الاصلاحات , مقابل برجوازية متطلعة الى تأصيل دولة القانون . شعب مسلم وشعب مسيحى يتبادلان كراهية أصيلة ذات جذور وتاريخ يغذيها كل طرف بتعصب أحمق جاهل .
لا ضير فى أن ينصهر المجتمع المصرى فى صراع حقيقى هذا أوانه . لست مستعدا لقبول فكرة بناء الدولة على الأكاذيب مجددا . والخاسر الوحيد هو من سيبقى متفرجا من خارج الأحداث . فعدم المشاركة يعنى البقاء خارج المعادلة . دعنا ننصهر لنخرج كما طائر الفينيق مجلوا متطهرا بالجحيم . ولا تخشى على مصر , فهى أمة ضاربة بجذورها فى عمق التاريخ . وتملك من عناصر البقاء مالا تملكه أى أمة مرت بتجارب مماثلة .
                                                                   محسن الطوخى

السبت، 7 مايو 2011


قراءة فى رواية                                                                     

رجل يجلس على المقهى . يشرب الشاى . ويدخن الشيشة . وينتظر فكره

لأحمد عبد الجبار

                                                                                                                             
أمتعتنى رواية الرجل الذى يجلس على المقهى, فقد حلقت بى من فكرة الى أخرى فوق رشاقة العبارات , وغرابة الصور الذهنية التى تذكرك بأعمال جارسيا .
الا أنها بنفس القدرقد أرهقتنى فى محاولة تكوين رؤية انطباعية عنها . ولما عدت الى المقدمة التى كتبها محمود الوردانى - وكنت مررت عليها دون أن أقرأها – فوجئت بأنه لم يشر الى الرواية  أدنى اشاره . فهدتنى الحيلة الى استخدام العبارة المقتبسة عن  ( أوفيد ) والتى صدر بها عبد الجبار روايته .
          ( اذا أردت أن تستمتع عيناك بالنور وأنت آمن ... فاتركنى أنشره لك على الأرض )
والنور هو المعرفة . فكأنما قصد عبد الجبار  أن يسلط بروايته نورا على المشهد العام الذى يعيشه مجتمع فقد البوصلة .
فنحن فى الرواية بازاء شخصية محورية نراها من خلال عينى وادراك صديق وندرك من السياق أنها شخصية مرفوضة  يتضح ذلك فى سخرية الأصدقاء , واهمال عمال المقاهى والحبيبة التى لم تؤمن بفكرته .
هو شخص آمن بلا مبررات بأنه انما اختير من قبل القدر للقيام بعبء جسيم وفريد . وهو استقبال الفكرة , أما الشروط التى وضعها لاستقبال فكرته , فهى شروط ماركيزية . وهى شروط تشكل عالم الرواية – شديد الخصوصية – اذ هى ملزمة للمتلقى . ويجب عليه أن يخضع لها تمام الخضوع طالما هو بين دفتى الرواية , ليتسنى له تلقى دفقة النور وهو آمن . فان قبل المتلقى هذه الشروط الصارمة عن رضى , فسوف تمنح له الرواية نفسها . والا فسوف يخرج خالى الوفاض .
والفكرة هى المحور الذى تدور حوله حياة الشخصية ( الفكرة كاسم للجنس ) . وتخبرنا الرواية مبدئيا أنه –الشخص المحورى – لم يخلص أبدا لشىء .. لكنه عندما ( حاول ) جديا أن يخلص للفكرة فالطريقة التى اتبعها يجب أن تكون غاية فى الغرابة . أن يجلس على المقهى يشرب شايا , ويدخن الشيشة , وينتظر . ومهما كانت درجة استقبالك لتلك الطريقة , فيجب عليك أن تتقبلها طبقا لشروط النص . واحدى طرق تقبلك لها أن تعتبرها بقعة من بقع النور التى فرشها عبد الجبار . اذ هى ترغمك على استحضار المفارقة بين شروط الحصول على فكرة . ( أن تسعى اليها , وتلتمس الأسباب , وتستعد بالهيئة المناسبة ) .. وبين عالم افتراضى يصنعه لك يسوغ أساليب لا يقبلها المنطق . اذ هو فعل عبثى يذكرك بفلادمير واسترابون اللذين جلسا يثرثران فى الستينيات فى انتظار جودو .
وقد كنت أظن أن جمود الشخصية وعدم تطورها يمثل أحد عيوب التطور الدرامى . الى أن نبهنى المدخل الذى سلكته عبر أوفيد الى أن انتظار الفكرة قد لحقه التطور بما يخدم دراما النص . ففيما بعد سوف يضاف الى طقوس الانتظار ضرورة أن تأتى الفكرة من خلفه , وتلمس كتفه , ثم تقول : أنا الفكرة . ثم فى تطور لاحق تنسحب الفكرة نفسها من المشهد وتهيمن تيمة الانتظار نفسها .
أما جمود الشخصية فهو بقعة أخرى من بقع النور يفرشها عبد الجبار ليعبر بها عن واقع راوح فى مكانه لعقود من الزمن بينما يفور سطحه بأفكار التطور والحداثة , وتصنع ثورة الاتصالات عالم مواز يسرع الخطى بينما الجسم الحقيقى يسقط فى فخ الجمود . وسواء قصد عبد الجبار ذلك أو لم يقصد , فأنا أؤمن بأن الرواية تكتب نفسها , وتعبر عن أغراضها بمعزل عن مقاصد الكاتب .
فاذا عدنا الى الرواية , فسوف نكتشف أن انتظار الفكرة هو المعادل للهروب من واقع شديد المرارة , الى واقع افتراضى مصنوع بعناية , تنتخب له القواعد المناسبة التى تحول الهزيمة والاخفاق – من خلال دور ذى قيمة -  الى نجاح . حيث انتظار الفكرة هو سلوك ينطوى على نوع من السمو . ويشبه الى حد ما انتظار الرسل للوحى . الأمر الذى يجعل الناس فى عز الحر والاختناق ينتبهون لثوان معدودة لحضوره الجميل , ويبتسمون فرحين لأسباب غامضة .
ثم هو فى الوقت نفسه يعتمد اسلوبا مناقضا لأساليب اصحاب الرسالات الذين يبادرون بالابلاغ . اذ هو يعتمد أسلوب المراوغة ازاء الآخرين فينكر فى عبثية انتظاره لأى فكرة , ولا يسمح لعالمه النفسى بتجاوز محيطه الداخلى الى الخارج . كأنما يتشرنق داخل فكرته . بل انه يجيب احيانا باعتداد ( ومن أنا ياصديقى حتى أحمل فكرة ) .
وعناصر الواقع المرير الذى تحياه الشخصية تحشدها الرواية من خلال السرد .
- فهو يعانى من صعوبات العيش حيث لا عمل له , وعندما يعثر على عمل لا تكفى القروش القليلة ضرورات الحياه .
- وهو لا يجد نفسه فى العمل الذى يمارسه بلا ابداع , فكل ماعليه أن يقف يراقب الماكينة , ينتظر المنتج وهو يخرج .
- وهو فاقد للثقة فى قدراته حتى ليخشى أن يكون ضعيفا جنسيا . والجنس هنا مرادف للفعل بشكل عام .
- وهو مولع بالسيدات المسنات السمينات ( وهو ولع مرضى ) له جذوره فى علم النفس التحليلى .

ولا تفوتنا الاشارة فى هذا المقام الى أن الشخصية لا اسم لها . وغياب الاسم ليس حيلة من حيل القص . وانما هو حالة . فالرواية تخبرنا بسمات هذا الاسم الذى نجهله . فهو غير مميز على الاطلاق . لا صفة , ولا سجع أو نغم أو مهنة أو اسم بلد . الى الجد السابع أسماء متشابهة مع كل الأسماء . فالواقع المرير لا يضغط عليه ماديا فقط . انما معنويا أيضا . فيهمشه , ويلغى فرديته ويدمجه فى مجموعة المهمشين الى سابع جد بلا أى وجود حقيقى مميز .

نظرة فى شكل الرواية .


لو تأملنا الشكل البنائى للرواية سوف نكتشف أن الفصل الأول – الذى لم يعطه عبد الجبار عنوانا – والفصل الأخير بعنوان ( المقهى مغلق ) يشكلان معا قصة قصيرة مكتملة الأركان . وفيما بين الفصلين يخوض المتلقى فى مجموعة من التفاصيل والتجارب المتنوعة , التى تلقى مزيدا من الضؤ على الشخصية , دون أن تسهم فى تطور الأحداث . لكنها تأخذنا فى رحلة ممتعة , عبارة عن تنويعات على الفكرة , وعلى تيمة الانتظار . وكلها بصوت الراوى غير المحايد . فهو يقدم الشخصية أو يحكى عنها بغير قليل من السخرية والنقد اللاذع . وخلال هذه الصفحات نلتقى بعالم عبد الجبار وعقله ورؤيته للحياة . فهو يتحدث بأسلوب رشيق عن العمل والحب ,والخوف , والمرض , والحاجة , والجنس , والأصدقاء , والغرور , والفشل , والصبر , والمراوغة , كما يتحدث عن رواد المقاهى , وطلبة الجامعات , وعاملات المحلات , وغير ذلك من التجارب المتنوعة .
فربما ابتدع عبد الجبار شكلا جديدا من اشكال القص . صنع من قصته القصيرة غلافا ضم بين دفتيه بوح نفسه , ومكنون صدره . أفكاره وتأملاته .  ومع تنوع الأفكار والموضوعات فقد حافظ على النسق العام ووحدة الموضوع . عدا فصل وحيد هو الفصل المسمى ( الأم ) , فهو الفصل الوحيد الخارج عن السياق .

وتنتهى أحداث الرواية بالذروة المتوقعة , أذ ينبذ الفكرة عندما تأتيه بالفعل أثناء سيره فى شارع صفيه زغلول وتقول له بوضوح أنها الفكرة . وحتى عندما تتوسل اليه وتقبض على راحته متشبثة بها , فانه يسحب يده ببساطة تاركا اياها تبكى مقهورة . وعندما تسأله ( ألست تنتظرنى ؟ ) يرد باستنكار شديد ( أنا ؟؟ ) . فلم يكن ساعتها على المقهى يشرب شايا ويدخن الشيشة .. قمة العبثية . لكنها العبثية المشروعة التى تنشر لك الضؤ لكى تستمتع عيناك به . لكنك هنا لست آمن .. لابد أن تستشعر الخطر .

                                                                              محسن الطوخى