قراءة فى رواية
رجل يجلس على المقهى . يشرب الشاى . ويدخن الشيشة . وينتظر فكره
لأحمد عبد الجبار
أمتعتنى رواية الرجل الذى يجلس على المقهى, فقد حلقت بى من فكرة الى أخرى فوق رشاقة العبارات , وغرابة الصور الذهنية التى تذكرك بأعمال جارسيا .
الا أنها بنفس القدرقد أرهقتنى فى محاولة تكوين رؤية انطباعية عنها . ولما عدت الى المقدمة التى كتبها محمود الوردانى - وكنت مررت عليها دون أن أقرأها – فوجئت بأنه لم يشر الى الرواية أدنى اشاره . فهدتنى الحيلة الى استخدام العبارة المقتبسة عن ( أوفيد ) والتى صدر بها عبد الجبار روايته .
( اذا أردت أن تستمتع عيناك بالنور وأنت آمن ... فاتركنى أنشره لك على الأرض )
والنور هو المعرفة . فكأنما قصد عبد الجبار أن يسلط بروايته نورا على المشهد العام الذى يعيشه مجتمع فقد البوصلة .
فنحن فى الرواية بازاء شخصية محورية نراها من خلال عينى وادراك صديق وندرك من السياق أنها شخصية مرفوضة يتضح ذلك فى سخرية الأصدقاء , واهمال عمال المقاهى والحبيبة التى لم تؤمن بفكرته .
هو شخص آمن بلا مبررات بأنه انما اختير من قبل القدر للقيام بعبء جسيم وفريد . وهو استقبال الفكرة , أما الشروط التى وضعها لاستقبال فكرته , فهى شروط ماركيزية . وهى شروط تشكل عالم الرواية – شديد الخصوصية – اذ هى ملزمة للمتلقى . ويجب عليه أن يخضع لها تمام الخضوع طالما هو بين دفتى الرواية , ليتسنى له تلقى دفقة النور وهو آمن . فان قبل المتلقى هذه الشروط الصارمة عن رضى , فسوف تمنح له الرواية نفسها . والا فسوف يخرج خالى الوفاض .
والفكرة هى المحور الذى تدور حوله حياة الشخصية ( الفكرة كاسم للجنس ) . وتخبرنا الرواية مبدئيا أنه –الشخص المحورى – لم يخلص أبدا لشىء .. لكنه عندما ( حاول ) جديا أن يخلص للفكرة فالطريقة التى اتبعها يجب أن تكون غاية فى الغرابة . أن يجلس على المقهى يشرب شايا , ويدخن الشيشة , وينتظر . ومهما كانت درجة استقبالك لتلك الطريقة , فيجب عليك أن تتقبلها طبقا لشروط النص . واحدى طرق تقبلك لها أن تعتبرها بقعة من بقع النور التى فرشها عبد الجبار . اذ هى ترغمك على استحضار المفارقة بين شروط الحصول على فكرة . ( أن تسعى اليها , وتلتمس الأسباب , وتستعد بالهيئة المناسبة ) .. وبين عالم افتراضى يصنعه لك يسوغ أساليب لا يقبلها المنطق . اذ هو فعل عبثى يذكرك بفلادمير واسترابون اللذين جلسا يثرثران فى الستينيات فى انتظار جودو .
وقد كنت أظن أن جمود الشخصية وعدم تطورها يمثل أحد عيوب التطور الدرامى . الى أن نبهنى المدخل الذى سلكته عبر أوفيد الى أن انتظار الفكرة قد لحقه التطور بما يخدم دراما النص . ففيما بعد سوف يضاف الى طقوس الانتظار ضرورة أن تأتى الفكرة من خلفه , وتلمس كتفه , ثم تقول : أنا الفكرة . ثم فى تطور لاحق تنسحب الفكرة نفسها من المشهد وتهيمن تيمة الانتظار نفسها .
أما جمود الشخصية فهو بقعة أخرى من بقع النور يفرشها عبد الجبار ليعبر بها عن واقع راوح فى مكانه لعقود من الزمن بينما يفور سطحه بأفكار التطور والحداثة , وتصنع ثورة الاتصالات عالم مواز يسرع الخطى بينما الجسم الحقيقى يسقط فى فخ الجمود . وسواء قصد عبد الجبار ذلك أو لم يقصد , فأنا أؤمن بأن الرواية تكتب نفسها , وتعبر عن أغراضها بمعزل عن مقاصد الكاتب .
فاذا عدنا الى الرواية , فسوف نكتشف أن انتظار الفكرة هو المعادل للهروب من واقع شديد المرارة , الى واقع افتراضى مصنوع بعناية , تنتخب له القواعد المناسبة التى تحول الهزيمة والاخفاق – من خلال دور ذى قيمة - الى نجاح . حيث انتظار الفكرة هو سلوك ينطوى على نوع من السمو . ويشبه الى حد ما انتظار الرسل للوحى . الأمر الذى يجعل الناس فى عز الحر والاختناق ينتبهون لثوان معدودة لحضوره الجميل , ويبتسمون فرحين لأسباب غامضة .
ثم هو فى الوقت نفسه يعتمد اسلوبا مناقضا لأساليب اصحاب الرسالات الذين يبادرون بالابلاغ . اذ هو يعتمد أسلوب المراوغة ازاء الآخرين فينكر فى عبثية انتظاره لأى فكرة , ولا يسمح لعالمه النفسى بتجاوز محيطه الداخلى الى الخارج . كأنما يتشرنق داخل فكرته . بل انه يجيب احيانا باعتداد ( ومن أنا ياصديقى حتى أحمل فكرة ) .
وعناصر الواقع المرير الذى تحياه الشخصية تحشدها الرواية من خلال السرد .
- فهو يعانى من صعوبات العيش حيث لا عمل له , وعندما يعثر على عمل لا تكفى القروش القليلة ضرورات الحياه .
- وهو لا يجد نفسه فى العمل الذى يمارسه بلا ابداع , فكل ماعليه أن يقف يراقب الماكينة , ينتظر المنتج وهو يخرج .
- وهو فاقد للثقة فى قدراته حتى ليخشى أن يكون ضعيفا جنسيا . والجنس هنا مرادف للفعل بشكل عام .
- وهو مولع بالسيدات المسنات السمينات ( وهو ولع مرضى ) له جذوره فى علم النفس التحليلى .
ولا تفوتنا الاشارة فى هذا المقام الى أن الشخصية لا اسم لها . وغياب الاسم ليس حيلة من حيل القص . وانما هو حالة . فالرواية تخبرنا بسمات هذا الاسم الذى نجهله . فهو غير مميز على الاطلاق . لا صفة , ولا سجع أو نغم أو مهنة أو اسم بلد . الى الجد السابع أسماء متشابهة مع كل الأسماء . فالواقع المرير لا يضغط عليه ماديا فقط . انما معنويا أيضا . فيهمشه , ويلغى فرديته ويدمجه فى مجموعة المهمشين الى سابع جد بلا أى وجود حقيقى مميز .
نظرة فى شكل الرواية .
لو تأملنا الشكل البنائى للرواية سوف نكتشف أن الفصل الأول – الذى لم يعطه عبد الجبار عنوانا – والفصل الأخير بعنوان ( المقهى مغلق ) يشكلان معا قصة قصيرة مكتملة الأركان . وفيما بين الفصلين يخوض المتلقى فى مجموعة من التفاصيل والتجارب المتنوعة , التى تلقى مزيدا من الضؤ على الشخصية , دون أن تسهم فى تطور الأحداث . لكنها تأخذنا فى رحلة ممتعة , عبارة عن تنويعات على الفكرة , وعلى تيمة الانتظار . وكلها بصوت الراوى غير المحايد . فهو يقدم الشخصية أو يحكى عنها بغير قليل من السخرية والنقد اللاذع . وخلال هذه الصفحات نلتقى بعالم عبد الجبار وعقله ورؤيته للحياة . فهو يتحدث بأسلوب رشيق عن العمل والحب ,والخوف , والمرض , والحاجة , والجنس , والأصدقاء , والغرور , والفشل , والصبر , والمراوغة , كما يتحدث عن رواد المقاهى , وطلبة الجامعات , وعاملات المحلات , وغير ذلك من التجارب المتنوعة .
فربما ابتدع عبد الجبار شكلا جديدا من اشكال القص . صنع من قصته القصيرة غلافا ضم بين دفتيه بوح نفسه , ومكنون صدره . أفكاره وتأملاته . ومع تنوع الأفكار والموضوعات فقد حافظ على النسق العام ووحدة الموضوع . عدا فصل وحيد هو الفصل المسمى ( الأم ) , فهو الفصل الوحيد الخارج عن السياق .
وتنتهى أحداث الرواية بالذروة المتوقعة , أذ ينبذ الفكرة عندما تأتيه بالفعل أثناء سيره فى شارع صفيه زغلول وتقول له بوضوح أنها الفكرة . وحتى عندما تتوسل اليه وتقبض على راحته متشبثة بها , فانه يسحب يده ببساطة تاركا اياها تبكى مقهورة . وعندما تسأله ( ألست تنتظرنى ؟ ) يرد باستنكار شديد ( أنا ؟؟ ) . فلم يكن ساعتها على المقهى يشرب شايا ويدخن الشيشة .. قمة العبثية . لكنها العبثية المشروعة التى تنشر لك الضؤ لكى تستمتع عيناك به . لكنك هنا لست آمن .. لابد أن تستشعر الخطر .
محسن الطوخى
هناك تعليق واحد:
ايه الجمال ده
إرسال تعليق