‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 18 يوليو 2012


قراءة فى المجموعة القصصية بعنوان ( أفق بلا حدود )
 للكاتبة غادة عيد
.....................................
غادة عيد كاتبة مفرطة الحساسية , تتميز بمعجم خاص تنتح منه ألفاظها , تنتقى موضوعاتها بوجدان أنثى شرقية بكل أشواقها المكبوتة , وأحلامها المحاصرة . وهى من الكاتبات اللائى حصرن إبداعاتهن فى قالب القصة القصيرة جدا .
والمجموعة المطروحة تتألف من أربعة أقاصيص تدور كلها حول موضوعات تتصل اتصالا مباشرا بالعالم القريب جدا من وجدان الأنثى , فالقصة الأولى بعنوان ( أفق بلا حدود ) تدور حول الحبيب وجدلية العلاقة الأزلية التى يحاول الرجل فيها فرض عالمه المتسع اتساع الكون , بينما تتوق المرأة الى التمحور حول بؤرة تجسد أشواقها , وتدور الأقصوصة الثانية التى لم تعطها عنوانا , وسأسميها ( مجون الجسد العارى ) , تدور حول ماء الإغتسال .. والإغتسال هو أحد الطقوس الحميمة للأنثى والموروث الشعبى يدخر ثروة  من الحكايات وأغانى الفولكلور التى تجعل من الحمام أيقونة من أيقونات عالم الأنثى الزاخر بالإيحاءات . كما يحمل التاريخ فى كل العصور ذكرى للحمامات فى مخادع الحريم والتى كثيرا ماصارت مسرحا للمؤامرات والحيل التى تضع نهايات مأساوية لقصص العشق . وتمثل الوسادة محور الأقصوصة الثالثة بعنوان ( وسادتى بيضاء ). والعنوان فى الأقصوصة جزء من السياق لأنه يصنع التضاد مع وسادة الأم التى أصبح لونها مصفرا من أثر البكاء , أما الأقصوصة الرابعة والأخيرة فهى حوار شفيف مابين القرط الذهبى وجيد الحسناء المعلق بأذنها .
سنتناول فى الفقرة التالية أولى الأقاصيص ( أفق بلا حدود ) بقراءة تحليلية نتلمس فيها تكنيك غادة فى انتاج القصة القصيرة جدا , وهو تكنيك نلاحظ أنه يتكرر فى غالب أعمالها .
والملاحظ أن غادة تدرك جيدا حدود وامكانيات القالب القصصى الذى تتعامل معه , فلا تتجاوزها ولو بقيد أنملة , فى الوقت الذى تفجر فيه الطاقات الإبداعية للقالب الى حدوده القصوى محدثة الأثر الإنفعالى المطلوب بلا زيادة ولا نقصان .
والقصة لا تتجاوز مائة وعشر كلمات رغم كونها أكبر قصص المجموعة , لكنها على قصرها تحمل شحنة موقوتة من المشاعر المتفجرة .
تبدأ الأقصوصة بجملة محورية .. ( ألبسنى رداءه ) فى إشارة الى مايمكن اعتبارة الحبيب المهيمن  .. ثم تبدأ فى الإرتحال فى موجات متتابعة فى الزمان والمكان مستخدمة مجموعة من الأفعال فى جدلية مابين الفعل  ( الماضى ) ..ورد الفعل ( المضارع غالبا ) كما يلى :
الفعل :  حملنى  /  جذبنى  /  طاف بى  /  غاص بى . وهى مجموعة أفعال تمهيدية تتصف كلها بمحدودية مجال الحركة .
رد الفعل :    إقتربت ألتقط إحدى اللآلىء . المضارع يوحى بالمقاومة . والجملة عموما بانصراف الذهن عن مجال الحركة .
ثم تعود دورة أخرى من الفعل وردة الفعل .
الفعل :  سبح بى  / سافر الى ..    الأفعال هنا تتميز باتساع مجال الحركة فى المكان فى تصعيد واضح للصراع .
رد الفعل :  هفا قلبى الى غدير بلادى . الفعل هفا يؤكد انصراف الذهن عن البلاد الغريبة والتشبث بالموطن رغم غرابة المغريات .
ثم تأتى دورة ثالثة وأخيرة من الأفعال وردود الفعل تؤكد تصميم الشخصية على التمسك بعالمها الخاص .
الفعل :  حملنى  / رمى بى   .  عودة الى الفعل الأول ( حملنى ) .. ثم للمرة الأولى فعل يتضمن المفارقة المادية ( رمى بى ) .
رد الفعل : تدور رأسى  / أتهاوى  /  أتعلق بالحرف .. عودة الى المضارع تأكيدا للمفارقة النفسية , وترسيخا للأزمة .
ثم تأتى الخاتمة :: ( قذفنى بعيدا ) .. وهو فعل يتضمن تأكيدا للمفارقة المادية والنفسية ..( خلع عنى رداءه ) .. عودة لإغلاق الدائرة التى بدأت بألبسنى رداءه .. ( ألقانى فى أفق بلا حدود ) . وهى نهاية متوافقة مع طبيعة الجدل الدائر على مدار عملية القص .. والأفق بلا حدود يفتح باب الدلالة . فقد يكون بل حدود بما يعنى الضياع والتيه .. وقد يحمل معنى تعدد الخيارات  .
فى الفقرة التالية سنتابع القراءة فى محاولة لتطبيق الإطار الذى اتفق عليه النقاد ليحتوى السمات التى تحدد كون العمل الأدبى قصة قصيرة جدا . لنرى مدى توافق الأقصوصة مع هذا الإطار .
1 – اللغة والصياغات التى استخدمتها غادة عيد تراوح وتمازج مابين النثر والشعر .. الصياغة نثرية لكنها مرصعة بالصور الشعرية .. ( حملنى على أعناق الحرف ) .. طاف بى جنبات بحره ) .ز هف قلبى الى غدير بلادى ) .
بالإضافة الى غلبة الطابع الغنائى الفردى على السرد باستخدام جمل قصيرة كثيفة توحى ولا تصرح .ز ( أتعلق بالحرف المائل نحوى ) .
2- الدلالة المنفتحة فالأقصوصة تعرض محنة أنثى مابين الإنتماء والإغتراب بصور تقرب المعنى وتنقل الشعور والإحساس , ولا تسمى مواقف أو تنقل أحداثا , مايفتح أفق التلقى الى العديد من الدلالات الممكنة والمتاحة .
3- الحضور القوى للراوى ( الشخصية المحورية ) بحيث تصبح جميع عناصر ثانوية بما فيها الرداء وصاحبه , ويقتصر دور باقى عناصر العمل على إبراز الإنتقالات الانفعالية للشخصية المحورية .
4- يبقى العنصر الأهم من بين جميع العناصر وهو غلبة وشيوع الجمل الفعلية على الجمل الوصفية , والاعتناء بالحدث على حساب الانفعالات .. وهو العنصر الذى نرى أن غادة قد أخلت به بعض الإخلال الأمر الذى أدى الى بعض الترهل فى النص .
نلاحظ أن النص الذى لا يتجاوز 110 كلمة قد تضمن 22 فعلا بما يقترب من الربع . وهذا ما حقق للنص زخمه وتدافعه فى اتجاه البؤرة , لكن يلاحظ أيضا شيوع الجمل الوصفية التى ماكان للنص أن يختل فى حال عدم وجودها . مثال : ( لآلىء منثورة هنا وهناك , شطوط بعيدة , وأرصفة مهجورة ) أيضا .. ( فيلة تتهادى تغمرنى بالفرحة ) . أيضا ..( عبث ومجون , حب وجنون , حرية بلا قيد ) .. نرى أن تكرار الجمل الوصفية أضعف التيار المتدفق للقص .. وأضاف عبئا بدلا من أن ينمى التصاعد فى اتجاه النهاية , فى الوقت الذى لم تضف الجمل المشار اليها أى قيمة للنص حيث أنه متضمنه فى السياق .
فى النهاية أرى أن لغادة إسهاما لا يمكن إغفاله فى مضمار هذا الفن الذى فرض نفسه على الساحة الأدبية فى مصر والعالم .. والذى صنع آلياته وجمالياته . وربما تصبح غاده عيد - مع بعض العناية بالصياغات من الناحية اللغوية – من رائدات هذا الفن الرفيع , فن القصة القصيرة جدا .
                                                   محسن الطوخى
                                                  19 / 6 / 2012

*********************************************


قصص قصيرة جدا 
بقلم : غادة عيد
......................................
(1)

أفق بلا حدود .
........................


ألبسنى ردائه حملنى على أعناق الحرف المضطرب كموج البحر الثائر,جذبنى نحو الأعماق ,طاف بى جنبات بحره الواسع,لآلئ منثوره هنا وهناك,شطوط بعيده , وأرصفة مهجوره,غاص بى نحو الأعماق ,أقتربت التقط إحدى اللآلئ سبح بى بعيدا ,سافر الى بلاد غريبة ,موطن جديد لم تطأه قدماى , هفى قلبى الى غدير بلادى,حملنى بحكاياه الطويله الى بلاد الهند ,فيله تتهادى تغمرنى الفرحه,رمى بى الى أقاصى النوبه,حملتنى الكلمات الى نهر النيل,عبثا حاولت الوصول الى مركبى,قذفتنى الامواج نحو الهادى بسفنه العملاقه ,الى بلاد السفور,عبث ومجون , حب وجنون,حريه بلا قيد ,تدور راسى أتهاوى أتعلق بالحرف المائل نحوى,قذفنى بعيدا, خلع عنى ردائه, ألقانى فى أفق بلا حدود .


(2)



مجون الجسد العارى .
................................

سلمت الجسد المنهك لذرات الماء الكثيف التى تنهدل على رأسها ,تمنت أن تغتسل من ذنوبها, تتساقط مع حبات الماء المنسابه ,نظرت اليه فى ذهول وكأنها ترتمى بين أحضانه طالبته أن يزداد أنهمارة فوق كتفيها العاريتين, أن يحمل ما بهما من مجون ,أن يعرى ما بهما من آثام ,أن ينتفض كجمر النار ليحرق شوقها العارم الى عبثه ,الى خمره, الى سكون جسده المتقد ,ضن عليها, توسلت اليه أن ينهمر , أنسحب من بين أصابعها رويدا وتركها تغوص فى مجون الجسد العارى .


(3)



وسادتى بيضاء
........................

أشتهى لونها الابيض , تشتاق عيونى لتراه لترتاح عليها ,من عناء يوم طويل, تجذبنى اليها كمغناطيس ,لا تترك لى الاختيار بل تجبرنى على الولوج اليها, والاستمتاع بنعومتها وسحرها الفتان,ترمينى بسكرات النعاس ,فتحملنى على بساطها المسحور الى عالم الأحلام,تحكى لى عما فاتنى من روايات جدتى,وأحلام أخوتى الصغار , ودموع امى فى ليالى الشتاء الطويل, وكيف أصبح لونها مصفرا من أثر بكائها , وهجران أبى لمخدعه بعد حوار المال المرير, تضحكنى أحيانا وتؤلمنى كثيرا, تعدنى بنوم هادئ , وتؤرقنى الليل كله, تتلون بالوان فرحى , ودموع حزنى بنشوتى وندمى بصفائى وعتمتى


(4)


قرط ذهبى .
..................

قرط ذهبى,يتدلى فى أذنها فيزيد أشراقة وجهها ,وهجا يعكس براءة الطفل بداخلها, يشتكى من حركتها الدئوبه, والتفات رأسها يمينا ويسارا ,ينشد الراحة على خديها وفوق رقبتها المرمر دون أهتزاز ,يرهقه كثرة النظر اليه,فينحنى مختفيا بين خصلات شعرها ,تداعبه نسمات الهواء يتطاير فيبتسم معلنا عن بريق يأخذ اللب ,ثم يعود يسترق النظرات بين خصلاتها السوداء تفتش عنة بأبهامها ,يضوى مع أنعكاس قرص الشمس ,تتلاقى العيون فيخفت شعاعه خشية أن يلامسه أبهام الأخر .
,

                                                                                                          غادة عيد


قراءة فى القصة القصيرة: ( بحيرة )
للأديبة حرية سليمان .
بقلم : محسن الطوخى
.......................................
عاشقة البحيرة . رغم أنها – البحيرة – قد ابتلعت أقرب الناس اليها . رفيق الدرب ..أخذته عشقا . ( لكنها كانت تحبك .. وحتى عندما أسرتك لم تعذب روحك ...... ) .. أو أخذته بذنب اللآخرين .
الراوية تحمل غصة تجاه  البحيرة لكنها لا تكف عن عشقها كما عشقت يونس . وكلاهما كان يمنح نفسه للآخر بلا حدود ( كنت تضاجعها يوميا فتلد لك صباحا غلاما جميلا كانتشاءات الربيع ).. وما انتظارها الدائم لامتلاء البحيرة . وما تشوفها لعودته وانتظارها مجيئه الا تعبيرا عن هذا العشق  . وشغفها لعودة الحياة – المياه -  اليها بعد الجفاف الذى طال أمده . كأنما بات يونس والبحيرة قرينان فى ذهنها .
وما تفاصيل غرق يونس التى سجلتها الكاتبة على لسان الراوية  ببراعة نادرة بمشاهد تدب فيها الحياة . ولغة جريئة لاهثة  . الا تفاصيل انسحاب البحيرة وجفاف مائها . وانحسار العلاقة الثلاثية فى واقع القص . الثنائية فى ادراك الراوية .. حيث سنرى الى أى حد توحد يونس والبحيرة فى كيان واحد لديها .
والقصة تتضمن محتوى أخلاقى سربلته الكاتبة بالغموض ( أما هم فقد احترفوا الكذب فذهبوا وما عادوا .. ) . . البيئة التى تدور فيها الحوادث بيئة ساحلية تشبه بيئة القرى والمراكز التى تحتضن البحيرات السبخة على سواحل المتوسط .. الخير فيها وفيرا  ( لم يكن الطعام حتى بمشكلة ) .. لكن البشر – ربما – لم يكونوا شاكرين للنعمة . ( يتبادلون السجائر والنكات والطاولات ) .. فبدأ الرجال يذهبون بلا عوده .  تبتلعهم البحيرة .. وذلك مما يتواءم مع ثقافة البسطاء الذين يرجعون كوارث الطبيعة الى أسباب تتعلق بالعقاب على مايرتكبه البشر من آثام . لكن يونس وحده يعود . منكمشا كعجوز . لا يميزه الا استحالة أن يكون أحدا غيره . ينقر مابين فراغات الشعر . رغم الزمن الذى مر . ورغم فقدان البصر . اذ كانت تتمتع بالبصيرة النافذة ( أخبرتهم بعودة مطر . وعاد . ورحيل جمال . ورحل ..... الخ ).  فعودة يونس اذن هى ايذان بانتهاء المحنة وعودة البحيرة للبوح من جديد .
أما القصة الموازية لرحلة جفاف البحيرة .. تلك القصة التى جمعت الراوية بيونس فهى قصة مترعة بالشفافية والجمال .. هى قصة رباط العشق الحر .. والعلاقة تحسها علاقة نفسية وجدانية أكثر منها علاقة حسية .. يونس الذى يشارك الراوية التخاطر .. والذى تميزه بالحلقة الحمراء ثبتها بقدمه اليسرى ..ذلك العشق الذى التحم بالبحيرة فلا تستطيع الا ان تستحضرها فى ذهنك عندما تقول الراوية ( ثلاثتنا ) .. والكاتبة ملكت القدرة على أخذ القارىء من ناصيته وغمر ساقيه فى الماء ليشعر بقشور الأسماك تخمش ساقه ويتذوق طعم الماء المالح من ركلات يونس .. ويستشعر نعومة الطمى تحت قدميه .. ويدهش لمهارة النوارس اذ تقتنص فرائسها . ويعاين بنفسه يونس تبتلعه البحيرة ولوعة الراوية اذ تحدق فى المجداف الوحيد الطافى .. وقد الجمها القدر الصاعق . اذ تتحقق نبؤتها فى لحظة عنفوان وتأجج المشاعر .
القصة مترعة بالجمال والشفافية . تتضمن جوا أسطوريا يتناسب مع بيئة البحيرات بموروثاتها الشعبية التى تشكل وجدان قاطنيها .. استخدمت الكاتبة عناصر البيئة مضفورة بالموروث لتجعل المكان حاضرا بقوة بجميع خصائصه .. كجنية البحر التى تعشق المختارين وتستدرجهم ليقعوا أسرى العشق . ثم تأخذهم بلا عودة . أيضا الايمان بالتخاطر . وانتظار عودة الموتى يحملون البشارات . اضافة الى الموروث الشعبى الذى يؤمن بقدرة البعض على توقع الغيب .. ( مكشوف عنهم الحجاب ).. ضفرت الكاتبة الموروث الشعبى بعناصر البيئة المحلية كشباك الصيادين .. وقوارب الصيد والنوارس بعيونها الصقرية  . الأمر الذى جعل المكان بمثابة شخصية مستقلة متفردة من شخوص القصة .. ( وصارت علامتنا المائية التى تميز ثلاثتنا ) . حتى عندما تشير اليه الراوية فى مطلع القص فانها تستخدم تعبيرا يشى بالحميمية والتشخيص . ( تلك الزرقاء ) . هذا الحضور القوى للمكان مكن وعى المتلقى من استقبال بؤرة القص . ذلك الحدث الاستثنائى الا وهو مجىء يونس من الموت باعتباره من عناصر الواقع .
استخدمت الكاتبة لغة شاعرية محملة بالايحاءات .. أعطت ابعادا أكثر اتساعا لفضاء النص .. وساهمت الى حد كبير فى تجسيد الجو شبه الأسطورى الذى يقترب من أساليب الواقعية السحرية . لاحظ العبارات التالية وما تحمله من ايحاءات وتضمينات :
-         الدوامات الندية من الذكريات .
-         وكالنزناز يباغت غفوتى .
-         ينقر مخابىء الذاكرة .
-         رحل متسربا بين جدائل تلك الزرقاء .
-         أصر أن يكون فصلا جديدا من فصول البوح .
-         تركتنى وتسربت كما الحلم للداخل .
تلك اللغة الشفيفة الموحية . فى اطار تكنيك يراوح ويبادل بين أساليب القص أعطى القصة قدرة على التدفق الى وعى المتلقى المشارك بالأحداث وكأن روح المكان قد تلبسته . فالكاتبة القديرة تنتقل بسلاسة ونعومة مابين ضمير الغائب فى عموم السرد . وضمير المخاطب فى مناجاة مع طيف يونس الذى يتساوى فى قوة حضوره مع الواقع .
كما انتقلت الراوية فى الزمن فبدأت من بؤرة الحدث . طرقات طيف يونس على سطح الوجدان .. وتهيؤها لملاقاته بعبائتها الزرقاء والرقعة والكشاف لهدايته الى الطريق . ثم انتقلت الى أزمان أقدم لتروى أسطورة التلاحم الساحرة بين ثلاثتهم . يونس والبحيرة وهى .. وليسمتع المتلقى ببوح البحيرة .
                                                     محسن الطوخى

*******************************************


            بقلم: حرية سليمان

قصة قصيرة بعنوان ....( بحيرة .. )

لسنوات متصلة ظل يأتينى برغم استحالة العودة .. واستحالة رؤيتى له من جديد لفقدانى البصرولكنه بالفعل تغيركثيرا.. ثقلت حركته ، اختلف صوته ، انكمش كعجوز مثلى تماما ، وهذا ما أدركته حين ضممته لصدرى ، يمكننى تحسس عظامه كما يمكنه فعل المثل معى ، صرنا أقرب لهيكلين عظميين نمارس رياضة نفسية من نوع ما ، لم يعد يميزه الا استحالة أن يكون أحدا غيره ، من سواه يأتى بتلك الظروف ، من تراه يرسل هذا الصوت وتلك الدوامات الندية من الذكريات ، كان الخوف من فقدانه هو الشيطان الذى يزورنى ليلا وكالنزناز يباغت غفوتى ويبطل صلاتى ويفسد تسبيحى ويحيلنى ماجنة بانتظار توبة ويستحيل هاجسا ينقر مخابئ الذاكرة الوهنة فيستدعى تلك الصورة للزمن الذى رحل متسربا بين جدائل تلك الزرقاء الهادئة التى طالت غفوتها ورقادها وتنتظر الآن قبلة حياة ، أصر أن يكون فصلا جديدا من فصول البوح برغم جفافها وانتظار ما ستهبه بعد انتهاء صومها إن قدرت لها الحياة بكل صبر وأناة برغم تمزق النسيج المتقاطع للِشباك المتوسدة جدران البيوت والمفترشة الممرات الساكنة والأحجار الجيرية بين الطرقات ، أى خيط جرئ الآن يقدر على لملمة أجزاءها وقد تفرقت وتباعدت واهترأت كنسيج متحلل ، وصار كل فتق فيها بطول ذراع وعمق ذراعين ،ولكن برغم جفاف الصورة وشحوبها إلا أن صيحته تشق دوما وحشة السكون و تبارك ولادة الخيوط الأولى للفجر فتعود لى الروح من جديد فأنفض غبارا ثقيلا لزجا عن نفسى وأعربد فى الفراغ المتسع للحجرة بحثا عن عباءة سماوية بلونها لأرتديها و قطعة قماش بيضاء لأشير له بها وكشاف ضوئى ان فكر مرة بالمجئ مبكرا على غير المعتاد .

مسرعة أدس نفسى بعباءتى الزرقاء ، حافية أقطع الحجرة ، أحرر المزلاج ، أركض باتجاه الخارج وأتنفس ، أشير له تارة برقعة القماش البيضاء أو أرسل تلك الومضات المتتابعة بشكل دائرى باتجاه عقارب الساعة أحيانا وأحيانا عكسها ، لأتفاجأ به فوق رأسى ينقرمابين فراغات الشعر ، كان لزاما على أن أصدق بأنه عاد وأنه قادر دوما على الرجوع وقتما شاء .. برغم انعدام قدرتى على تتبعه كما بالماضى كفتاة عشرينية جموحة على حافة زورق مستعيدة توزانى بلحظات ، كانت تلك الحلقة الحمراء مايميزه عنهم جميعا أيامها ، ثبتها( يونس) بطرف قدمه اليسرى ، وصارت علامتنا المائية التى تميزثلاثتنا عن غيرنا من الباحثين عن أنفسهم بالغيروالموقنين بفكرة التخاطر أو التلاحم أو الاستنساخ أو أياَ كان المسمى .. والآن لم يعد منهم سواه وصارت الحلقة كخاتم زواج يربطنا أبداً .


وجدتنى أجدف بقارب فى بحر من رمال ، أجدف فتعلو ، أجدف فتعلو، يكشر عن أنيابه بموجة غاضبة تصر على ابتلاعه وتفعل ، فيعود يظهر ثم تلتهمه من جديد ويظهر ثم تعلو لتلتهمه ويعود أخيراً لا يظهر، كان المجداف على السطح هو الإشارة الوحيدة المتبقية لقارب ما كان هنا واختفى ، لا إشارة لكائن حى نافق أو بانتظار الموت ، قلت له يومها سيحل الجفاف ، نظر إلىّ وتهكم ، قلت : لا تعرف رؤاى ، أخبرتهم بعودة (مطر ) وعاد ورحيل (جمال) ورحل ، أخبرتهم بولادة( خاطر) ووُلد وموت (ياسين) ومات ، أخبرتهم بجنون (سعاد ) وجنت وزواج (غرام) فتزوجت، أخبرتهم عن جنية سيأسرك جمالها وقد كان ، ألم تخبرنى بأنها عشقتك لثمان سنوات متصلة بعدها ، كنت تضاجعها يوميا فتلد لك صباحا غلاما جميلا كانتشاءات الربيع ، كنت تضحك منى ، سألتنى وقتها وماذا بعد فوجمت ، أظنك أدركت أنك ستفارقنى ، وفارقت .

غائمة كانت هى الشمس يومها ولم أجد بى رغبة فى اقتفاء أثرها ، ربما كانت هى من يفعل ذلك فتتجنبنى ، لم تصدر ماينبئ عن شروق مميز منذ زمن بعيد ، كانت قديما كعروس بليلة الحناء ، مشتعلة الوجنتين دافئة المشاعر موحية بقبلة ، كانوا هم الآخرون يتندرون ، ويتصعلكون بالنواصى متفكهين بعد أسبوع حافل بالبحيرة .. يتبادلون السجائر والنكات والطاولاتلم نتعود الجفاف ولا ندرة الأسماك ، لم يكن الطعام حتى بمشكلة ، يمكنك أن تتخذ قاربا من تلك القوارب المسترخية بعيدا بالشاطئ والذهاب هناك ولن يسألك أحدهم عن وجهتك ولا حتى لمن هذا القارب ، جدف لأى عمق كان ، أو فلتبق على الحافة ، كنا نشعر حركتها بالأسفل تتحرك بين أقدامنا ، تندفع وتتداخل فتخمشنا قشورها وزعانفها ، كم كانت أعدادها كبيرة وهى تهرب بكل اتجاه ، كنا نذهب معا ، أمسكت يدى يومها ، أحسست بدفء القاع ونعومة الطمى وانحساره تحت قدمى ، اقتدتنى مسافة كبيرة للداخل ، كان يحلق فوقنا ، أتذكر تلك النظرة الثاقبة بعينيه واندفاعه نحوها ، اظنه اختفى لثانية وعاد وقد امتلأت حوصلته ، أتذكر نظرتك لى وانت تدندن ذاك اللحن اليونانى لزوربا ، قبلتنى ، تركتنى وتسربت كما الحلم للداخل ، مازال لحنك يداعبنى ، منحتنى ركلات قدميك بعض القطرات بين شفتى بينما انخرطت ضاحكا واندفعت للداخل من جديد ، بدت ملامح البحيرة ممتدة كما السماء يعانقها خط الأفق ، يعكس بريقا فضيا مثيرا ، ظهرت رأسك من بعيد ككرة تسبح تطفو فوق الماء ، كنت أناديك ، كان يحلق فوقك ، كنا نتتبعك ، لكن ماعدت ، وعاد هو ..

عندما بدأوا يخرجون ثم لا يعودون قلت لك أنها غاضبة ، اختفى الرجال ولم تعد النسوة يفتحن الأبواب ، احترفن غلقها بالمزاليج ، كن يتلكأن حين نقرعها لنسأل عن من خرج ولم يعد ، كن يخفين الطاولات ويتجنبن الشواء والحديث والابتسام وكل شئ ، صارت الريح تصفر مرسلة صخبها بلا انتهاء ، تضاجع الأبواب والشبابيك يوميا بنهم وتنفذ عبر مسام الِشباك ممزقة أحلامها بالاحتواء ، أخبرتك أنه الجفاف آت، لكنها كانت تحبك وحتى عندما أسرتك لم تعذب روحك وأطلقتها بسلام ، كنت حبيبها وفقط ، أما هم فقد احترفوا الكذب فذهبوا وما عادوا ، ليتها عرفت ذلك فأعادتك لى ولم تأخذك بذنبهم ، كان هذا موسمها الأخير لأنها بعدها صمتت للأبد .                                         27/5/2012 

نشرت فى حديث العالم بتاريخ 5 يونيو 2012

السبت، 7 مايو 2011


قراءة فى رواية                                                                     

رجل يجلس على المقهى . يشرب الشاى . ويدخن الشيشة . وينتظر فكره

لأحمد عبد الجبار

                                                                                                                             
أمتعتنى رواية الرجل الذى يجلس على المقهى, فقد حلقت بى من فكرة الى أخرى فوق رشاقة العبارات , وغرابة الصور الذهنية التى تذكرك بأعمال جارسيا .
الا أنها بنفس القدرقد أرهقتنى فى محاولة تكوين رؤية انطباعية عنها . ولما عدت الى المقدمة التى كتبها محمود الوردانى - وكنت مررت عليها دون أن أقرأها – فوجئت بأنه لم يشر الى الرواية  أدنى اشاره . فهدتنى الحيلة الى استخدام العبارة المقتبسة عن  ( أوفيد ) والتى صدر بها عبد الجبار روايته .
          ( اذا أردت أن تستمتع عيناك بالنور وأنت آمن ... فاتركنى أنشره لك على الأرض )
والنور هو المعرفة . فكأنما قصد عبد الجبار  أن يسلط بروايته نورا على المشهد العام الذى يعيشه مجتمع فقد البوصلة .
فنحن فى الرواية بازاء شخصية محورية نراها من خلال عينى وادراك صديق وندرك من السياق أنها شخصية مرفوضة  يتضح ذلك فى سخرية الأصدقاء , واهمال عمال المقاهى والحبيبة التى لم تؤمن بفكرته .
هو شخص آمن بلا مبررات بأنه انما اختير من قبل القدر للقيام بعبء جسيم وفريد . وهو استقبال الفكرة , أما الشروط التى وضعها لاستقبال فكرته , فهى شروط ماركيزية . وهى شروط تشكل عالم الرواية – شديد الخصوصية – اذ هى ملزمة للمتلقى . ويجب عليه أن يخضع لها تمام الخضوع طالما هو بين دفتى الرواية , ليتسنى له تلقى دفقة النور وهو آمن . فان قبل المتلقى هذه الشروط الصارمة عن رضى , فسوف تمنح له الرواية نفسها . والا فسوف يخرج خالى الوفاض .
والفكرة هى المحور الذى تدور حوله حياة الشخصية ( الفكرة كاسم للجنس ) . وتخبرنا الرواية مبدئيا أنه –الشخص المحورى – لم يخلص أبدا لشىء .. لكنه عندما ( حاول ) جديا أن يخلص للفكرة فالطريقة التى اتبعها يجب أن تكون غاية فى الغرابة . أن يجلس على المقهى يشرب شايا , ويدخن الشيشة , وينتظر . ومهما كانت درجة استقبالك لتلك الطريقة , فيجب عليك أن تتقبلها طبقا لشروط النص . واحدى طرق تقبلك لها أن تعتبرها بقعة من بقع النور التى فرشها عبد الجبار . اذ هى ترغمك على استحضار المفارقة بين شروط الحصول على فكرة . ( أن تسعى اليها , وتلتمس الأسباب , وتستعد بالهيئة المناسبة ) .. وبين عالم افتراضى يصنعه لك يسوغ أساليب لا يقبلها المنطق . اذ هو فعل عبثى يذكرك بفلادمير واسترابون اللذين جلسا يثرثران فى الستينيات فى انتظار جودو .
وقد كنت أظن أن جمود الشخصية وعدم تطورها يمثل أحد عيوب التطور الدرامى . الى أن نبهنى المدخل الذى سلكته عبر أوفيد الى أن انتظار الفكرة قد لحقه التطور بما يخدم دراما النص . ففيما بعد سوف يضاف الى طقوس الانتظار ضرورة أن تأتى الفكرة من خلفه , وتلمس كتفه , ثم تقول : أنا الفكرة . ثم فى تطور لاحق تنسحب الفكرة نفسها من المشهد وتهيمن تيمة الانتظار نفسها .
أما جمود الشخصية فهو بقعة أخرى من بقع النور يفرشها عبد الجبار ليعبر بها عن واقع راوح فى مكانه لعقود من الزمن بينما يفور سطحه بأفكار التطور والحداثة , وتصنع ثورة الاتصالات عالم مواز يسرع الخطى بينما الجسم الحقيقى يسقط فى فخ الجمود . وسواء قصد عبد الجبار ذلك أو لم يقصد , فأنا أؤمن بأن الرواية تكتب نفسها , وتعبر عن أغراضها بمعزل عن مقاصد الكاتب .
فاذا عدنا الى الرواية , فسوف نكتشف أن انتظار الفكرة هو المعادل للهروب من واقع شديد المرارة , الى واقع افتراضى مصنوع بعناية , تنتخب له القواعد المناسبة التى تحول الهزيمة والاخفاق – من خلال دور ذى قيمة -  الى نجاح . حيث انتظار الفكرة هو سلوك ينطوى على نوع من السمو . ويشبه الى حد ما انتظار الرسل للوحى . الأمر الذى يجعل الناس فى عز الحر والاختناق ينتبهون لثوان معدودة لحضوره الجميل , ويبتسمون فرحين لأسباب غامضة .
ثم هو فى الوقت نفسه يعتمد اسلوبا مناقضا لأساليب اصحاب الرسالات الذين يبادرون بالابلاغ . اذ هو يعتمد أسلوب المراوغة ازاء الآخرين فينكر فى عبثية انتظاره لأى فكرة , ولا يسمح لعالمه النفسى بتجاوز محيطه الداخلى الى الخارج . كأنما يتشرنق داخل فكرته . بل انه يجيب احيانا باعتداد ( ومن أنا ياصديقى حتى أحمل فكرة ) .
وعناصر الواقع المرير الذى تحياه الشخصية تحشدها الرواية من خلال السرد .
- فهو يعانى من صعوبات العيش حيث لا عمل له , وعندما يعثر على عمل لا تكفى القروش القليلة ضرورات الحياه .
- وهو لا يجد نفسه فى العمل الذى يمارسه بلا ابداع , فكل ماعليه أن يقف يراقب الماكينة , ينتظر المنتج وهو يخرج .
- وهو فاقد للثقة فى قدراته حتى ليخشى أن يكون ضعيفا جنسيا . والجنس هنا مرادف للفعل بشكل عام .
- وهو مولع بالسيدات المسنات السمينات ( وهو ولع مرضى ) له جذوره فى علم النفس التحليلى .

ولا تفوتنا الاشارة فى هذا المقام الى أن الشخصية لا اسم لها . وغياب الاسم ليس حيلة من حيل القص . وانما هو حالة . فالرواية تخبرنا بسمات هذا الاسم الذى نجهله . فهو غير مميز على الاطلاق . لا صفة , ولا سجع أو نغم أو مهنة أو اسم بلد . الى الجد السابع أسماء متشابهة مع كل الأسماء . فالواقع المرير لا يضغط عليه ماديا فقط . انما معنويا أيضا . فيهمشه , ويلغى فرديته ويدمجه فى مجموعة المهمشين الى سابع جد بلا أى وجود حقيقى مميز .

نظرة فى شكل الرواية .


لو تأملنا الشكل البنائى للرواية سوف نكتشف أن الفصل الأول – الذى لم يعطه عبد الجبار عنوانا – والفصل الأخير بعنوان ( المقهى مغلق ) يشكلان معا قصة قصيرة مكتملة الأركان . وفيما بين الفصلين يخوض المتلقى فى مجموعة من التفاصيل والتجارب المتنوعة , التى تلقى مزيدا من الضؤ على الشخصية , دون أن تسهم فى تطور الأحداث . لكنها تأخذنا فى رحلة ممتعة , عبارة عن تنويعات على الفكرة , وعلى تيمة الانتظار . وكلها بصوت الراوى غير المحايد . فهو يقدم الشخصية أو يحكى عنها بغير قليل من السخرية والنقد اللاذع . وخلال هذه الصفحات نلتقى بعالم عبد الجبار وعقله ورؤيته للحياة . فهو يتحدث بأسلوب رشيق عن العمل والحب ,والخوف , والمرض , والحاجة , والجنس , والأصدقاء , والغرور , والفشل , والصبر , والمراوغة , كما يتحدث عن رواد المقاهى , وطلبة الجامعات , وعاملات المحلات , وغير ذلك من التجارب المتنوعة .
فربما ابتدع عبد الجبار شكلا جديدا من اشكال القص . صنع من قصته القصيرة غلافا ضم بين دفتيه بوح نفسه , ومكنون صدره . أفكاره وتأملاته .  ومع تنوع الأفكار والموضوعات فقد حافظ على النسق العام ووحدة الموضوع . عدا فصل وحيد هو الفصل المسمى ( الأم ) , فهو الفصل الوحيد الخارج عن السياق .

وتنتهى أحداث الرواية بالذروة المتوقعة , أذ ينبذ الفكرة عندما تأتيه بالفعل أثناء سيره فى شارع صفيه زغلول وتقول له بوضوح أنها الفكرة . وحتى عندما تتوسل اليه وتقبض على راحته متشبثة بها , فانه يسحب يده ببساطة تاركا اياها تبكى مقهورة . وعندما تسأله ( ألست تنتظرنى ؟ ) يرد باستنكار شديد ( أنا ؟؟ ) . فلم يكن ساعتها على المقهى يشرب شايا ويدخن الشيشة .. قمة العبثية . لكنها العبثية المشروعة التى تنشر لك الضؤ لكى تستمتع عيناك به . لكنك هنا لست آمن .. لابد أن تستشعر الخطر .

                                                                              محسن الطوخى