الأربعاء، 18 يوليو 2012



كونترالتو                                                         قصة قصيرة : 
محسن الطوخى
..........
إحتجت لدقائق كى ألتقط أنفاسى , لم يعد من السهل ارتقاء خمسة طوابق , للكهولة أحكام لا يمكن تجاهلها , أحدث الباب الخشبى صريراً ورأيت رأفت يغيب بين ذراعى الشيخ , وقفت متردداً حتى حان دورى فقَبضَ على كفى بحميمية أزالت الوحشة واحتوتنى طيبته وسماحته , قادنا بقامته نصف المحنية إلى الغرفة الوحيدة عبر الردهة المعتمة التى راقبتنا من أركانها ستة عيون طفولية لا أثر فيها للدهشة . إعتلى الشيخُ فراشاً فقيراً منخفضا يتصدرُ المكان ويشغل معظم فراغ الغرفة فى حين اتخذتُ ورأفت مجلسينا , انشغلتُ بتأمل الحوائط الغفل من الطلاء , والأثاث المتهالك , والشيخ نفسه بردائه المنزلى البسيط . عندما دعانى رأفت إلى مرافقته للقاء الشيخ تصورت رجلاً معمماً , لم أفطن إلى أن الشيخَ لقباً لا مهنة , إنتبهت إلى دعاء حينما وجه إليها الشيخُ دعابة على سبيل التعريف , كانت مكومة على نفسها فى الركن القصى للفوتيه , ضئيلة , منشغلة بتأمل أظافرها , تبادلنا كلماتَ مجاملةٍ ثم توارت عندما اشتبكتُ مع الشيخ فى جدل حول الأحداث الجارية . قاطعنا رأفت : هل اجتمعنا لنفسد الأمسية بالجدل السياسى ؟ , نظر الشيخ الى الفتاة وهمس : لتخرجنا دعاء من هذا الهم . , تمنعتْ قليلاً ثم لانت وشبح ابتسامة باهتة حيية يطوف بشفتيها , أشار إلىَّ الشيخ : هلا ناولتنى العود ؟ . إنتبهت إلى أنى كنت أتكىءُ عليه ظناً منى أنه امتدادٌ لمسند الفوتيه المتهالك , تناوله بابتسامة واسعة وفض عنه غلافاً قماشيا بلون الفوتيه , إعتدلت دعاء , إحتضن الرجل استدارة العود كأنما يحنو على حبيبةٍ , أقامت دعاء ظهرها , جرت أصابعُ الشيخِ بضرباتٍ عشوائية على الأوتار يضبط المقامات , وبنظرة خاطفة , وإيمائةٍ من الفتاة كأنما اتفقا على المقطوعة , إنساب اللحن بينما أغفى الرجل مغمضاً عينيه منفصلا عن المكان , لم أنتبه لدعاء , ولم أتوقع أكثر من المتعةِ التى سرت فى خاطرى على وقع ضربات الريشة الرشيقة بين أصابع العواد , عبقت الغرفة بغتة بزخمٍ شجىْ ألغى ثقل جسدى فخلصْتُ لثوانٍ من المقعد الضيق , وتحَررَتْ ركبتىَ المغروستان فى الحافة  الموزايكو  للمنضدة العتيقة التى صفت فوقها أكواب الشراب , ثم عاد كل شىء كما كان , لم أفطن لما حدث إلا عندما عادت دعاء تصاحب اللحن بترنيمات تمهيدية تُجاوبُ بها الإيقاع . أشاعتْ طبقة الكونترالتو العميقة الدافئة موجة من السحر غمرت المكان وراحت تنحسر على مهل من خلال مسام الروح , كأنها إنما كانت تؤهلنى للسباحة عبر الأثير حالما انسابت دعاء تشدو .. ( إن كنت ناسى .. أفكرك ) .. كانت دعاء حينذاك تشغل فراغ الغرفة , وكنت أرى رأفت والشيخ , ودعاء نفسها من مكان قصى خارج الزمن , إستعدت اللحن مرارا , تألقت دعاء وسَطَا وهجُها على المكان , وعندما تأهبتُ للمغادرةِ لم أكن أرى إلا بسمتها الصبوحة وجدائلها السرخسية , وألق عينيها , لم يكن لشىء سواها مكان فى مجال البصر .
................
الأسكندرية 
8/6/2012

ليست هناك تعليقات: