الأربعاء، 18 يوليو 2012


قراءة فى القصة القصيرة: ( بحيرة )
للأديبة حرية سليمان .
بقلم : محسن الطوخى
.......................................
عاشقة البحيرة . رغم أنها – البحيرة – قد ابتلعت أقرب الناس اليها . رفيق الدرب ..أخذته عشقا . ( لكنها كانت تحبك .. وحتى عندما أسرتك لم تعذب روحك ...... ) .. أو أخذته بذنب اللآخرين .
الراوية تحمل غصة تجاه  البحيرة لكنها لا تكف عن عشقها كما عشقت يونس . وكلاهما كان يمنح نفسه للآخر بلا حدود ( كنت تضاجعها يوميا فتلد لك صباحا غلاما جميلا كانتشاءات الربيع ).. وما انتظارها الدائم لامتلاء البحيرة . وما تشوفها لعودته وانتظارها مجيئه الا تعبيرا عن هذا العشق  . وشغفها لعودة الحياة – المياه -  اليها بعد الجفاف الذى طال أمده . كأنما بات يونس والبحيرة قرينان فى ذهنها .
وما تفاصيل غرق يونس التى سجلتها الكاتبة على لسان الراوية  ببراعة نادرة بمشاهد تدب فيها الحياة . ولغة جريئة لاهثة  . الا تفاصيل انسحاب البحيرة وجفاف مائها . وانحسار العلاقة الثلاثية فى واقع القص . الثنائية فى ادراك الراوية .. حيث سنرى الى أى حد توحد يونس والبحيرة فى كيان واحد لديها .
والقصة تتضمن محتوى أخلاقى سربلته الكاتبة بالغموض ( أما هم فقد احترفوا الكذب فذهبوا وما عادوا .. ) . . البيئة التى تدور فيها الحوادث بيئة ساحلية تشبه بيئة القرى والمراكز التى تحتضن البحيرات السبخة على سواحل المتوسط .. الخير فيها وفيرا  ( لم يكن الطعام حتى بمشكلة ) .. لكن البشر – ربما – لم يكونوا شاكرين للنعمة . ( يتبادلون السجائر والنكات والطاولات ) .. فبدأ الرجال يذهبون بلا عوده .  تبتلعهم البحيرة .. وذلك مما يتواءم مع ثقافة البسطاء الذين يرجعون كوارث الطبيعة الى أسباب تتعلق بالعقاب على مايرتكبه البشر من آثام . لكن يونس وحده يعود . منكمشا كعجوز . لا يميزه الا استحالة أن يكون أحدا غيره . ينقر مابين فراغات الشعر . رغم الزمن الذى مر . ورغم فقدان البصر . اذ كانت تتمتع بالبصيرة النافذة ( أخبرتهم بعودة مطر . وعاد . ورحيل جمال . ورحل ..... الخ ).  فعودة يونس اذن هى ايذان بانتهاء المحنة وعودة البحيرة للبوح من جديد .
أما القصة الموازية لرحلة جفاف البحيرة .. تلك القصة التى جمعت الراوية بيونس فهى قصة مترعة بالشفافية والجمال .. هى قصة رباط العشق الحر .. والعلاقة تحسها علاقة نفسية وجدانية أكثر منها علاقة حسية .. يونس الذى يشارك الراوية التخاطر .. والذى تميزه بالحلقة الحمراء ثبتها بقدمه اليسرى ..ذلك العشق الذى التحم بالبحيرة فلا تستطيع الا ان تستحضرها فى ذهنك عندما تقول الراوية ( ثلاثتنا ) .. والكاتبة ملكت القدرة على أخذ القارىء من ناصيته وغمر ساقيه فى الماء ليشعر بقشور الأسماك تخمش ساقه ويتذوق طعم الماء المالح من ركلات يونس .. ويستشعر نعومة الطمى تحت قدميه .. ويدهش لمهارة النوارس اذ تقتنص فرائسها . ويعاين بنفسه يونس تبتلعه البحيرة ولوعة الراوية اذ تحدق فى المجداف الوحيد الطافى .. وقد الجمها القدر الصاعق . اذ تتحقق نبؤتها فى لحظة عنفوان وتأجج المشاعر .
القصة مترعة بالجمال والشفافية . تتضمن جوا أسطوريا يتناسب مع بيئة البحيرات بموروثاتها الشعبية التى تشكل وجدان قاطنيها .. استخدمت الكاتبة عناصر البيئة مضفورة بالموروث لتجعل المكان حاضرا بقوة بجميع خصائصه .. كجنية البحر التى تعشق المختارين وتستدرجهم ليقعوا أسرى العشق . ثم تأخذهم بلا عودة . أيضا الايمان بالتخاطر . وانتظار عودة الموتى يحملون البشارات . اضافة الى الموروث الشعبى الذى يؤمن بقدرة البعض على توقع الغيب .. ( مكشوف عنهم الحجاب ).. ضفرت الكاتبة الموروث الشعبى بعناصر البيئة المحلية كشباك الصيادين .. وقوارب الصيد والنوارس بعيونها الصقرية  . الأمر الذى جعل المكان بمثابة شخصية مستقلة متفردة من شخوص القصة .. ( وصارت علامتنا المائية التى تميز ثلاثتنا ) . حتى عندما تشير اليه الراوية فى مطلع القص فانها تستخدم تعبيرا يشى بالحميمية والتشخيص . ( تلك الزرقاء ) . هذا الحضور القوى للمكان مكن وعى المتلقى من استقبال بؤرة القص . ذلك الحدث الاستثنائى الا وهو مجىء يونس من الموت باعتباره من عناصر الواقع .
استخدمت الكاتبة لغة شاعرية محملة بالايحاءات .. أعطت ابعادا أكثر اتساعا لفضاء النص .. وساهمت الى حد كبير فى تجسيد الجو شبه الأسطورى الذى يقترب من أساليب الواقعية السحرية . لاحظ العبارات التالية وما تحمله من ايحاءات وتضمينات :
-         الدوامات الندية من الذكريات .
-         وكالنزناز يباغت غفوتى .
-         ينقر مخابىء الذاكرة .
-         رحل متسربا بين جدائل تلك الزرقاء .
-         أصر أن يكون فصلا جديدا من فصول البوح .
-         تركتنى وتسربت كما الحلم للداخل .
تلك اللغة الشفيفة الموحية . فى اطار تكنيك يراوح ويبادل بين أساليب القص أعطى القصة قدرة على التدفق الى وعى المتلقى المشارك بالأحداث وكأن روح المكان قد تلبسته . فالكاتبة القديرة تنتقل بسلاسة ونعومة مابين ضمير الغائب فى عموم السرد . وضمير المخاطب فى مناجاة مع طيف يونس الذى يتساوى فى قوة حضوره مع الواقع .
كما انتقلت الراوية فى الزمن فبدأت من بؤرة الحدث . طرقات طيف يونس على سطح الوجدان .. وتهيؤها لملاقاته بعبائتها الزرقاء والرقعة والكشاف لهدايته الى الطريق . ثم انتقلت الى أزمان أقدم لتروى أسطورة التلاحم الساحرة بين ثلاثتهم . يونس والبحيرة وهى .. وليسمتع المتلقى ببوح البحيرة .
                                                     محسن الطوخى

*******************************************


            بقلم: حرية سليمان

قصة قصيرة بعنوان ....( بحيرة .. )

لسنوات متصلة ظل يأتينى برغم استحالة العودة .. واستحالة رؤيتى له من جديد لفقدانى البصرولكنه بالفعل تغيركثيرا.. ثقلت حركته ، اختلف صوته ، انكمش كعجوز مثلى تماما ، وهذا ما أدركته حين ضممته لصدرى ، يمكننى تحسس عظامه كما يمكنه فعل المثل معى ، صرنا أقرب لهيكلين عظميين نمارس رياضة نفسية من نوع ما ، لم يعد يميزه الا استحالة أن يكون أحدا غيره ، من سواه يأتى بتلك الظروف ، من تراه يرسل هذا الصوت وتلك الدوامات الندية من الذكريات ، كان الخوف من فقدانه هو الشيطان الذى يزورنى ليلا وكالنزناز يباغت غفوتى ويبطل صلاتى ويفسد تسبيحى ويحيلنى ماجنة بانتظار توبة ويستحيل هاجسا ينقر مخابئ الذاكرة الوهنة فيستدعى تلك الصورة للزمن الذى رحل متسربا بين جدائل تلك الزرقاء الهادئة التى طالت غفوتها ورقادها وتنتظر الآن قبلة حياة ، أصر أن يكون فصلا جديدا من فصول البوح برغم جفافها وانتظار ما ستهبه بعد انتهاء صومها إن قدرت لها الحياة بكل صبر وأناة برغم تمزق النسيج المتقاطع للِشباك المتوسدة جدران البيوت والمفترشة الممرات الساكنة والأحجار الجيرية بين الطرقات ، أى خيط جرئ الآن يقدر على لملمة أجزاءها وقد تفرقت وتباعدت واهترأت كنسيج متحلل ، وصار كل فتق فيها بطول ذراع وعمق ذراعين ،ولكن برغم جفاف الصورة وشحوبها إلا أن صيحته تشق دوما وحشة السكون و تبارك ولادة الخيوط الأولى للفجر فتعود لى الروح من جديد فأنفض غبارا ثقيلا لزجا عن نفسى وأعربد فى الفراغ المتسع للحجرة بحثا عن عباءة سماوية بلونها لأرتديها و قطعة قماش بيضاء لأشير له بها وكشاف ضوئى ان فكر مرة بالمجئ مبكرا على غير المعتاد .

مسرعة أدس نفسى بعباءتى الزرقاء ، حافية أقطع الحجرة ، أحرر المزلاج ، أركض باتجاه الخارج وأتنفس ، أشير له تارة برقعة القماش البيضاء أو أرسل تلك الومضات المتتابعة بشكل دائرى باتجاه عقارب الساعة أحيانا وأحيانا عكسها ، لأتفاجأ به فوق رأسى ينقرمابين فراغات الشعر ، كان لزاما على أن أصدق بأنه عاد وأنه قادر دوما على الرجوع وقتما شاء .. برغم انعدام قدرتى على تتبعه كما بالماضى كفتاة عشرينية جموحة على حافة زورق مستعيدة توزانى بلحظات ، كانت تلك الحلقة الحمراء مايميزه عنهم جميعا أيامها ، ثبتها( يونس) بطرف قدمه اليسرى ، وصارت علامتنا المائية التى تميزثلاثتنا عن غيرنا من الباحثين عن أنفسهم بالغيروالموقنين بفكرة التخاطر أو التلاحم أو الاستنساخ أو أياَ كان المسمى .. والآن لم يعد منهم سواه وصارت الحلقة كخاتم زواج يربطنا أبداً .


وجدتنى أجدف بقارب فى بحر من رمال ، أجدف فتعلو ، أجدف فتعلو، يكشر عن أنيابه بموجة غاضبة تصر على ابتلاعه وتفعل ، فيعود يظهر ثم تلتهمه من جديد ويظهر ثم تعلو لتلتهمه ويعود أخيراً لا يظهر، كان المجداف على السطح هو الإشارة الوحيدة المتبقية لقارب ما كان هنا واختفى ، لا إشارة لكائن حى نافق أو بانتظار الموت ، قلت له يومها سيحل الجفاف ، نظر إلىّ وتهكم ، قلت : لا تعرف رؤاى ، أخبرتهم بعودة (مطر ) وعاد ورحيل (جمال) ورحل ، أخبرتهم بولادة( خاطر) ووُلد وموت (ياسين) ومات ، أخبرتهم بجنون (سعاد ) وجنت وزواج (غرام) فتزوجت، أخبرتهم عن جنية سيأسرك جمالها وقد كان ، ألم تخبرنى بأنها عشقتك لثمان سنوات متصلة بعدها ، كنت تضاجعها يوميا فتلد لك صباحا غلاما جميلا كانتشاءات الربيع ، كنت تضحك منى ، سألتنى وقتها وماذا بعد فوجمت ، أظنك أدركت أنك ستفارقنى ، وفارقت .

غائمة كانت هى الشمس يومها ولم أجد بى رغبة فى اقتفاء أثرها ، ربما كانت هى من يفعل ذلك فتتجنبنى ، لم تصدر ماينبئ عن شروق مميز منذ زمن بعيد ، كانت قديما كعروس بليلة الحناء ، مشتعلة الوجنتين دافئة المشاعر موحية بقبلة ، كانوا هم الآخرون يتندرون ، ويتصعلكون بالنواصى متفكهين بعد أسبوع حافل بالبحيرة .. يتبادلون السجائر والنكات والطاولاتلم نتعود الجفاف ولا ندرة الأسماك ، لم يكن الطعام حتى بمشكلة ، يمكنك أن تتخذ قاربا من تلك القوارب المسترخية بعيدا بالشاطئ والذهاب هناك ولن يسألك أحدهم عن وجهتك ولا حتى لمن هذا القارب ، جدف لأى عمق كان ، أو فلتبق على الحافة ، كنا نشعر حركتها بالأسفل تتحرك بين أقدامنا ، تندفع وتتداخل فتخمشنا قشورها وزعانفها ، كم كانت أعدادها كبيرة وهى تهرب بكل اتجاه ، كنا نذهب معا ، أمسكت يدى يومها ، أحسست بدفء القاع ونعومة الطمى وانحساره تحت قدمى ، اقتدتنى مسافة كبيرة للداخل ، كان يحلق فوقنا ، أتذكر تلك النظرة الثاقبة بعينيه واندفاعه نحوها ، اظنه اختفى لثانية وعاد وقد امتلأت حوصلته ، أتذكر نظرتك لى وانت تدندن ذاك اللحن اليونانى لزوربا ، قبلتنى ، تركتنى وتسربت كما الحلم للداخل ، مازال لحنك يداعبنى ، منحتنى ركلات قدميك بعض القطرات بين شفتى بينما انخرطت ضاحكا واندفعت للداخل من جديد ، بدت ملامح البحيرة ممتدة كما السماء يعانقها خط الأفق ، يعكس بريقا فضيا مثيرا ، ظهرت رأسك من بعيد ككرة تسبح تطفو فوق الماء ، كنت أناديك ، كان يحلق فوقك ، كنا نتتبعك ، لكن ماعدت ، وعاد هو ..

عندما بدأوا يخرجون ثم لا يعودون قلت لك أنها غاضبة ، اختفى الرجال ولم تعد النسوة يفتحن الأبواب ، احترفن غلقها بالمزاليج ، كن يتلكأن حين نقرعها لنسأل عن من خرج ولم يعد ، كن يخفين الطاولات ويتجنبن الشواء والحديث والابتسام وكل شئ ، صارت الريح تصفر مرسلة صخبها بلا انتهاء ، تضاجع الأبواب والشبابيك يوميا بنهم وتنفذ عبر مسام الِشباك ممزقة أحلامها بالاحتواء ، أخبرتك أنه الجفاف آت، لكنها كانت تحبك وحتى عندما أسرتك لم تعذب روحك وأطلقتها بسلام ، كنت حبيبها وفقط ، أما هم فقد احترفوا الكذب فذهبوا وما عادوا ، ليتها عرفت ذلك فأعادتك لى ولم تأخذك بذنبهم ، كان هذا موسمها الأخير لأنها بعدها صمتت للأبد .                                         27/5/2012 

نشرت فى حديث العالم بتاريخ 5 يونيو 2012

ليست هناك تعليقات: