الخميس، 19 يوليو 2012




المعطف

قصة قصيرة 

 نيقولاى جوجول







ترجمة: د. أبو بكر يوسف




في إحدى الادارات كان يعمل أحد الموظفين. . موظف لا نستطيع أن نقول عنه أنه كان بارزاً جداً، بل كان قصير القامة، مجدوراً إلى حد ما وأحمر الشعر إلى حد ما، بل ويبدو أعمش إلى حد ما، بصلعة صغيرة فوق الجبين وتجاعيد على كلا الخدين، أما لون وجهه فكان كما يقال بواسيريا .. وما العمل؟! الذنب في ذلك ذنب جو بطرسبورغ. أما فيما يتعلق برتبته (لأنه من الضروري عندنا أن نعلن عن الرتبة قبل كل شيء) فقد كان ممن يسمون بـ "المستشارين الاعتباريين"  الخالدين الذين سخر منهم وهزئ بهم ما وسعهم، كما هو معروف، شتى الكتاب من ذوي العادة المحمودة في التهجم على أولئك الذين لا يحسنون العض. وكان اسم عائلة الموظف بشماتشكين. وكان اسم الموظف أكاكي أكاكيفتش. أما متى وفى أي وقت التحق بالادارة ومن الذي ألحقه بها، فهذا ما لم يستطع أحد أن يتذكره. فهمها تغير المدراء والرؤساء فقد كان الجميع يرونه دائماً في نفس المكان وفي نفس الوضع وفي نفس الوظيفة، أي موظف كتابة، حتى أنهم آمنوا فيما بعد بأنه، على ما يبدو، قد ولد هكذا جاهزا، في حلته الرسمية وبصلعة في رأسه. ولم يكن يحظى في الادارة بأي احترام. فالحراس لم يكونوا ينهضون عند رؤيته، ليس هذا فحسب، بل حتى لم يكونوا ينظرون إليه، كما لو كانت مجرد ذبابة هي التي طارت عبر صالة الاستقبال. أما الرؤساء فكانوا يعاملونه بطريقة باردة. فأي مساعد من مساعدي الرئيس القلم كان يدس الأوراق تحت أنفه مباشرة حتى دون أن يقول له: "انسخها" أو "هاك عملا طريفا طيبا" أو أية كلمات طيبة كما جرت العادة في المكاتب المهذبة. أما هو فكان يتناول الأوراق متطلعا إليها وحدها دون أن ينظر إلى من قدمها له وهل يملك الحق في ذلك أم لا. كان يتناولها ويشرع على الفور في نسخها. وكان الموظفون الشبان يسخرون منه وينكتون عليه بقدر ما كانت تسمح به روح النكتة المكتبية، ويروون أمامه شتى الحكايات التي ألفوها عنه، ويقولون عن مدبرة بيته وهي عجوز في السبعين من عمرها، أنها تضربه ويسألونه متى سيحتفلون بزواجهما، ويهيلون الأوراق على رأسه قائلين أنه الثلج يسقط. ولكن أكاكي أكاكيفتش لم يكن يرد على ذلك بكلمة واحدة، كأنما لم يكن يقف أمامه أحد. بل ان ذلك حتى لم يؤثر على عمله، اذ لم يكن يرتكب خطأ واحداً في الكتابة وسط كل هذه السخريات. وفقط عندما تكون النكتة غير محتملة، وعندما كانوا يدفعونه في ذراعه، فيعوقونه عن العمل، كان يقول: "دعوني في حالي، لماذا تهينونني؟" كان يبدو ثمة شيء غريب في كلماته وفي الصوت الذي قيلت به. كان فيها شيء غريب في الشفقة ، حتى أن موظفا شابا التحق بالوظيفة حديثا وكان قد سمح لنفسه بالسخرية منه كما يفعل الآخرون، توقف فجأة كالمصعوق، ومن يومها بدا وكأنه كل شيء قد تغير أمام عينيه وتبدى في صورة أخرى. ودفعته قوة غير طبيعية مجهولة بعيداً عن زملائه الذين صاحبهم باعتبارهم أشخاصا محترمين مهذبين. وظل هذا الموظف بعد ذلك ولفترة طويلة وفي أوج لحظات المرح يتذكر الموظف القصير ذا الصلعة فوق الجبين بكلماته النافذة "دعوني في حالي، لماذا تهينونني؟".. وترن في هذه الكلمات النافذة كلمات أخرى: "أنا مثل أخيك". فكان الشاب المسكين من يغطي وجهه بيديه ويرتجف مرات ومرات عديدة بعد ذلك طوال عمره وهو يرى ما في الانسان من لا انسانية وإلى أي مدى تختفي الفظاظة الوحشية في التهذيب الراقي المرهف ويا الهي حتى في ذلك الانسان الذي يعتبره المجتمع نبيلا وشريفا.
ومن النادر أن تجد شخصا يتفانى في عمله إلى هذا الحد. فلا يكفي أن نقول أنه كان يعمل بغيرة، كلا، لقد كان يعمل بعشق. كان يرى في ذلك النسخ عالما خاصا به، عالما متنوعا ولطيفا. وكانت المتعة تتجلى في وجهه. وكانت بعض الحروف أثيرة لديه، وعندما يبلغها لا يعود يسيطر على نفسه. كان يضحك ويغمز بعينه ويساعد بشفتيه على كتابتها، حتى أنه كان يبدو أنه بالامكان أن تقرأ على وجهه الحرف الذي كان قلمه يخطه. ولو أنهم كافأوه بقدر حميته فربما أصبح، ولدهشته هو، من مستشاري الدولةولكنه، وكما قال زملاؤه المازحون. نال من الخدمة فتلة في عروة وفاز بمرض البواسير وألم الظهر. وعموما فلا يمكن أن نقول أنه لم يحظ بأدنى اهتمام. فقد أراد أحد المدراء، وكان رجلاً طيباً، أن يكافئه على النسخ، فكلفوه بأن يعد مذكرة من واقع ملف جاهز بالفعل لارسالها إلى جهة أخرى. ولم يكن الأمر يتعدى أكثر من تغيير العنوان الرئيسي وتعديل بعض الافعال من صيغة المتكلم إلى الغائب. ولكنه كلفه من الجهد ما جعله يعرق تماما ويحك جبينه، وأخيرا قال: "كلا، من الأفضل أن تعطوني شيئا ما أنسخه". ومن يومها أبقوه للنسخ إلى الأبد. وكان يبدو أنه لا يوجد بالنسبة له أي شيء خارج هذا النسخ. لم يكن يفكر في ملابسه أبدا: فحلته لم تكن خضراء اللون، بل ذات لون أحمر طحيني ما. وكانت ياقتها ضيقة، قصيرة، حتى أن عنقه، رغم أنه لم يكن طويلا، كان يبرز من الياقة ويبدو طويلا بصورة غير عادية. وكان يعلق بحلته دائما شيء: إما قطعة قش أو خيط ما. وعلاوة على ذلك كانت لديه مهارة خاصة أثناء سيره في الشارع في أن يتواجد تحت النافذة بالضبط في الوقت الذي يلقون منها شتى الفضلات، ولذلك كان يحمل على قبعته دائما قشر البطيخ والشمام وغير ذلك من التفاهات. ولم يحدث مرة واحدة في حياته أن التفت إلى ما يجري ويحدث كل يوم في الشارع ولا حتى إلى ما ينظر دائماً إليه أخوه الموظف الشاب. كما هو معروف، والذي تمتد نظرته الثاقبة النشطة إلى حد أنه يلاحظ على الرصيف الآخر من تفتقت ربطة ساق سرواله، الأمر الذي يجعل الابتسامة الخبيثة تظهر على وجهه.
أما أكاكي اكاكيفتش فحتى لو نظر إلى شيء فما كان ليرى فيه سوى سطوره النظيفة المكتوبة بحط منمق، اللهم إلا إذا استقرت على كتفه فجأة سحنة حصان لا يعلم أحد من أين جاءت ونفثت بمنخاريها في خده ريحا قوية. عندها فقط كان يلاحظ أنه ليس في وسط السطر، بل على الأرجح في وسط الشارع. وعندما يعود إلى المنزل كان يجلس على الفور إلى المائدة، فيلتهم بسرعة حساء الكرنب وقطعة لحم البقر بالبصل دون أن يحس أبدا بطعمها، وكان يأكل ذلك مع الذباب وكل ما كان الله يرسله في تلك الساعة. وعندما كان يلاحظ أن معدته بدأت تنتفخ ينهض من أمام المائدة ويستخرج دواة الحبر ويبدأ ينسخ الأوراق التي جاء بها معه إلى البيت. فإذا لم تكن لديه مثل هذه الأوراق كان يقوم بعمل نسخة لنفسه، فقط من أجل المتعة الشخصية، خاصة إذ كانت الورقة رائعة لا من حيث جمال صياغتها، بل من حيث انها مرسلة إلى شخصية جديدة أو هامة.
وحتى في تلك الساعات التي تنطفئ فيها تماما سماء بطرسبورغ الرمادية، وبعد أن تكون جماعة الموظفين كلها قد تعشت وشبعت، كل منهم حسب ما يتقاضاه من مرتب وحسب رغباته الخاصة، وبعد أن يكون الجميع قد ارتاحوا من صرير اقلام الادارات والركض بعد أداء الأعمال الخاصة واعمال الآخرين الضرورية، بعد كل ما يكلف به الانسان الذي لا يهدأ نفسه عن طواعية، بل وبأكثر مما ينبغي... وعندما يسرع الموظفون إلى تخصيص ما تبقى من وقت للمتعة: فالأنشط منهم ينطلق إلى المسرح، ومنهم من يخرج إلى الشارع مخصصا هذا الوقت للتطلع إلى بعض القبعات، ومنهم من يذهب إلى حفل ما لينفق الوقت في اسداء المديح لفتاة ما مليحة تعد نجمة من نجوم اوساط الموظفين الضيقة، ومنهم من يذهب ، وهذا هو الأكثر، إلى أخيه الذي يسكن في الطابق الرابع أو الثالث، في شقة من غرفتين صغيرتين ومدخل أو مطبخ وببعض ادعاءات الموضة كمصباح مثلا أو قطعة أثاث كلفت أصحابها تضحيات كثيرة وحرمانا من وجبات الغداء والنزهات.. وباختصار فحتى في الوقت الذي يجلس فيه الموظفون في شقق زملائهم الصغيرة ليلعبوا الورق وهم يرشفون الشاي من الأكواب مع قطع الخبز المحمص الرخيص وينفثون الدخان من الغلايين الطويلة ويروون أثناء توزيع الورق شائعة ما وردت من المجتمع الراقي..وباختصار فحتى عندما يسعى الجميع إلى اللهو فان اكاكي اكاكيفتش لم يكن يلجأ إلى أي لهو. ولا يستطيع أحد أن يقول أنه رآه في وقت ما في احدى الحفلات. فبعد أن يشبع من النسخ يأوي إلى فراشه وهو يبتسم سلفا مفكرا في يوم الغد: فغدا سيرزقه الله بشيء ما لينسخه. هكذا كانت تمضي حياة هذا الرجل الوادعة، هذا الرجل الذي كان راضيا عن حظه بالاربعمائة روبل التي يتقاضاها في السنة، وربما مضت إلى أرذل العمر لولا وجود شتى المصائب المتناثرة على درب الحياة ليس فقط أمام المستشارين الاعتبارين. بل والمستشارين السريين الفعليين ومستشاري البلاط وغيرهم من المستشارين وحتى اولئك الذين لا يقدمون استشارات لأي شخص ولا يطلبون المشورة من أحد. لا يقدمون استشارات لأي شخص ولا يطلبون المشورة من أحد.
ثمة في بطرسبورغ عدو لدود لكل من يتقاضى اربعمائة روبل في السنة أو زهاء هذا. وهذا العدو ليس إلا صقيعنا الشمالي، بالرغم من أنه يقال أنه مفيد جدا للصحة. ففي بداية الساعة التاسعة صباحا، وبالذات عندما تكتظ الشوارع بالذاهبين إلى العمل يبدأ هو في توجيه لذعات حادة قوية إلى جميع الأنوف دونما تمييز، حتى أن الموظفين المساكين لا يعرفون ابدا أين يخفونها. وفي تلك الساعة يشعر حتى أولئك الذين يشغلون مناصب عليا بألم في جباههم من البرد، وتطفر الدموع من عيونهم، أما المستشارون الاعتباريون المساكين فيصبحون أحيانا بلا حماية. والمخرج الوحيد هو أن يركضوا في معاطفهم الهزيلة بأسرع ما يستطيعون ليقطعوا خمسة أو ستة شوارع، ثم يدقون بأقدامهم جيدا في المدخل حتى يذيبوا بهذه الطريقة كل ما تجمد في الطريق من قدرات ومواهب على أداء الأعمال الوظيفية. ومنذ فترة قريبة بدأ أكاكي اكاكيفتش يحس بوخز شديد خاصة في ظهره وكتفه، على الرغم من أنه كان يحاول أن يقطع بأسرع ما يمكن المسافة المشروعة. وأخيرا فكر: ألا يرجع ذلك إلى بعض العيوب في معطفه. وعندما فحصه جيدا في المنزل اكتشف أنه أصبح في موضعين أو ثلاثة، وبالذات عند الظهر والكتفين، مثل الخيش تماما، فقد رق نسيجه إلى درجة أن الهواء صار ينفذ خلاله، اما البطانة فقد تهرأت. وينبغي أن نعرف أن معطف اكاكي اكاكيفتش كان أيضا مادة لسخريات الموظفين، بل لقد نزعوا عنه اسم المعطف النبيل وسموه قبوطا. وبالفعل فقد كان شكله غريبا. كانت ياقته تصغر عاما بعد عام لأنها كانت تستخدم في ترقيع الأجزاء الأخرى. ولم يظهر الترقيع مهارة الخياط، فكانت الرقع تبدو قبيحة وخرقاء. وعندما عرف اكاكي اكاكيفتش حقيقة الأمر قرر أن يأخذ المعطف إلى بتروفتش، الخياط الذي يقطن في شقة ما بالطابق الرابع من ناحية سلم الخدم والذي كان رغم عوره ووجهه المجدور كله يزاول بنجاح كبير تصليح معاطف الموظفين وسراويلهم وحللهم وما إلى ذلك، بالطبع عندما يكون مفيقا وليس في رأسه مشاريع أخرى. وما كان هذا الخياط ليستحق منا أن نتحدث عنه كثيرا، ولكن بما أن العادة جرت أن يحدد في القصة طبع كل شخصية بوضوح تام، فلا حيلة اذن، هيا قدموا لنا بتروفتش أيضاً. كان في البداية يدعى ببساطة غريغوري، وكان من رقيق الأرض عند أحد السادة. ثم أصبح يدعى بتروفتش عندما أعتق واصبح يسكر بشدة في جميع الأعياد، في البداية في الأعياد الكبيرة، وبعد ذلك دون تمييز في جميع الأعياد الدينية وحيثما وضعت اشارة الصليب أمام أي يوم من أيام التقويم.
وبينما كان اكاكي اكاكيفتش يصعد السلم المؤدي إلى بتروفتش أخذ يفكر في المبلغ الذي سيتطلبه بتروفتش وقرر في ذهنه ألا يعطيه أكثر من روبلين. كان الباب مفتوحا لأن ربة تقلي سمكا. فملأت المطبخ بالدخان إلى درجة أنه لم يعد من الممكن حتى رؤية الصراصير نفسها. ومر اكاكي اكاكيفتش عبر المطبخ، حتى دون أن يلاحظ ربة البيت ذاتها، إلى أن وصل أخيراً إلى غرفة رأى فيها بتروفتش جالساً على طاولة خشبية عريضة غير مطلية طاويا قدميه تحت كالباشا التركي. وكانت قدماه كعادة الخياطين الجالسين إلى عملهم، عاريتين. وأول ما لفت نظر اكاكي اكاكيفتش تلك الأصبع الكبيرة المعروفة جداً له ذات الظفر المشوه، الاصبع السمينة القوية كصدفة السلحفاة. ومن رقبة بتروفتش تدلت ثلة من الحرير والخيوط، وعلى ركبتيه حشو ما. كان منذ حوالي ثلاث دقائق يحاول دخال الخيط في ثقب الابرة ولا يستطيع ولذلك كان ساخطا على العتمة، بل وحتى على الخيط نفسه وهو يدمدم بصوت خافت: "لا يدخل هذا الوغد، أيها الملعون، أنهكتني!" وشعر اكاكي اكاكيفتش بالضيق من مجيئه في هذه اللحظة التي كان بتروفتش فيها غاضبا، فقد كان يحسب أن يوصي بتروفتش على شيء ما عندما يكون الأخير منتعشاً بعض الشيء أو كما كانت زوجته تقول: "عبّ من الهباب المسكر هذا الشيطان الأعور". ففي مثل هذه الحالة كان بتروفتش في العادة يتنازل ويوافق عن طيب خاطر، بل كان ينحني كثيرا ويلهج بالشكر. صحيح أن زوجته كانت تأتي بعد ذلك وهي تعول وتشكو من أن زوجها كان آنذاك ثملا ولذلك وافق على ثمن بخس. ولكن الأمر كان ينتهي بزيادة عشر كوبيكات فقط وتسوى الأمور. أما الآن فيبدو أن بتروفيتش غير ثمل، ولذلك فهو صعب المراس، لا يلين، وسيطلب على الأرجح ثمنا باهظا. أدرك اكاكي اكاكيفتش ذلك وأراد كما يقال أن يعود أدراجه. ولكنه كان قد بدأ الأمر. زر بتروفيتش عينه الوحيدة مسددا نظرتها الثاقبة إليه، فتفوه اكاكي اكاكيفتش مسلوب الارادة:
مرحبا، يا بتروفيتش.
فقال بتروفيتش:
مرحبا بكم، يا سيدي، - ونظر بطرف عينه نحو يدي اكاكي اكاكيفتش رغبة منه في أن يعرف ما هو الصيد الذي جاء به هذا إليه.
ها أنذا قد جئت إليك، يا بتروفيتش، بهذا.. يعني.. وينبغي أن نعرف أن اكاكي اكاكيفتش كان يعبر عن أفكاره في أغلب الأحوال بحروف الجر والظروف وأخيرا بالادوات التي ليس لها أي معنى على الاطلاق. أما اذا كانت المسألة صعبة جدا فقد كان من عادته ألا ينهي الجملة ابدا. ولذلك كان كثيرا ما يبدأ حديثه بهذه الكلمات: "هذا في الواقع.. يعني تماما.." وبعد ذلك لا يقول شيئاً، وينسى هو نفسه، وهو يظن أنه قد قال كل شيء.
ما هذا؟ - قال بتروفيتش وتفحص أثناء ذلك بعينه الوحيدة حلة اكاكي اكاكيفتش كلها ابتداء من الياقة حتى الاكمام والظهر والصدر والعراوي كل ما كان معروفا لديه جيدا لأنه كان من صنع يديه. تلك عادة الخياطين، وهذا أول ما يفعله الخياط عندما يلقاك.
وها أنذا، يا بتروفيتش، يعني.. المعطف.. الجوخ.. انظر، في كل مكان آخر ما زال متيناً، لقد تعفر قليلا، ويبدو وكأنه قديم، لكنه جديد، فقط في مكان واحد يعني.. على الظهر، وأيضاً هنا على كتف واحدة تلف قليلا، وعلى هذه الكتف أيضاً قليلا، أترى، هذا كل شيء ، عمل قليل..
أخذ بتروفتش القبوط وبسطه على الطاولة أولا وفحصه طويلا وهز رأسه ومد يده إلى النافذة ليأخذ علبة السعوط المستديرة والمرسوم عليها صورة جنرال ما، لا يعرف أي جنرال هو لأن المكان الذي كان وجهه مرسوما عليه قد ثقب وغطى بقطعة ورق مربعة واستنشق بتروفتش السعوط وبسط المعطف بين يديه وفحصه في مواجهة النور وهز رأسه ثانية. ثم قلبه، فجعل بطانته إلى أعلى وهز رأسه من جديد، ونزع من جديد غطاء العلبة بصورة الجنرال المغطى بورقة، وبعد أن حشا أنفه بالسعوط أغلق العلبة وخبأها وأخيرا قال:
كلا، لا يمكن اصلاحه، ملبس بال.
أحس اكاكي اكاكيفتش عند سماعه هذه الكلمات بوخزة في قلبه.
ولماذا لا يمكن، يا بتروفتش؟ - قال بصوت ضارع كصوت الطفل تقريبا. – كل ما فيه أنه أصبح خفيفا عند الكتفين، وأنت لديك حتما قطع ما.
نعم، يمكن أن أجد قطعا، القطع موجودة، - قال بتروفيتش . – لكن لا يمكن تثبيتها. النسيج مهترئ تماما. ما أن تلمسه بالابرة حتى يتفسخ.
فليتفسخ، أما أنت فلتضع رقعة على الفور.
ليس هناك ما توضع عليه الرقعة، لا يوجد ما تثبت عليه، انه مستهلك جدا. الاسم فقط جوخ، ولكن لو هبت عليه الريح فسيتطاير.
حاول أن تثبتها. كيف اذن في الواقع يعني؟!
كلا، - قال بتروفتش بحسم. – لا يمكن عمل شيء.
أما المعطف فيبدو أنك ستضطر إلى تفصيل واحد جديد.
عند سماع كلمة "جديد" غامت عينا اكاكي اكاكيفتش واختلط أمام نظره كل ما كان في الغرفة. لم ير بوضوح سوى الجنرال بوجهه المغطى بورقة على غطاء علبة سعوط بتروفتش.
معطف جديد.. كيف؟ - قال وكأنما لا يزال نائما. – ليس لدي نقود لذلك.
نعم، جديد، - قال بتروفتش بهدوء وحشي.
واذا اضطررت إلى معطف جديد فكيف يعني هو..
تقصد كم يساوي؟
نعم.
ثلاث ورقات من فئة الخمسين أو أكثر قليلا سيكون عليك أن تدفع، - قال بتروفتش وزمّ شفتيه زمة ذات مغزى. كان يحب جدا التأثيرات القوية، كان يحب أن يربك من أمامه فجأة بطريقة ما، ثم ينظر بعد ذلك بطرف عينه إلى التعبير الذي يكسو ملامح الشخص المرتبك بعد سماع كلمات الخياط.
وصرخ اكاكي اكاكيفتش المسكين:
مائة وخمسون روبلا لمعطف! – صرخ ربما لأول مرة في حياته، فقد كان معروفا دائما بصوته الخافت.
نعم، - قال بتروفتش. – وهذا يتوقف أيضاً على نوع المعطف. فلم وضعنا على الياقة فراء سنسار وبطنّا القلنسوة بالحرير فيصل إلى المائتين.
بتروفتش، أرجوك، - قال اكاكي اكاكيفتش بصوت ضارع وهو لا يسمع ولا يحاول أن يسمع ما قاله بتروفتش من كلمات وجميع تأثيراته. – أصلحه بأي شكل، لكي أستخدمه ولو فترة أخرى.
كلا، هذا لا يمكن. سيكون ذلك اهدارا للعمل وتضييعا للنقود عبثا، - قال بتروفتش، فخرج اكاكي اكاكيفتش من عنده بعد هذه الكلمات محطما تماما.
.
.
أما بتروفتش فقد ظل بعد خروجه واقفا مدة طويلة وقد زمّ شفتيه زمة ذات مغزى، وهو لا يشرع في العمل، وقد أرضاه أنه لم يفرط في كرامته، كما أنه لم يخنْ فنه كخياط.
عندما خرج اكاكي اكاكيفتش إلى الشارع كان كأنما في حلم. ومضى يحدث نفسه: "يا له من أمر، يا لها من قضية. في الحقيقة لم أكن أظن أن المسألة يعني ستكون..". وبعد فترة صمت استطرد: "هكذا إذن. هذا حقا غير متوقع أبدا يعني.. ابدا لكن.. يا لها من مسألة!" وبعد أن قال ذلك وبدلا من أن يذهب إلى البيت سار في اتجاه آخر تماما، وهو لا يدري. وفي الطريق احتك به منظف مداخن بجنبه الملوث، فسوّد له كتفه كلها. وانهال عليه كوم من الملاط من قمة منزل يجري بناؤه. فلم يلاحظ ذلك كله، وفيما بعد عندما اصطدم بالدركي الذي كان قد اسند بلطته إلى جواره وأخذ ينفض التبغ من علبة تبغه فوق راحته الخشنة، عندها أفاق اكاكي اكاكيفتش قليلا، وذلك فقط لأن الحارس قال له: "ما لك تندفع مصطدما بالسحنة، أليس أمامك رصيف؟" وقد جعله ذلك ينبه ويعود أدراجه إلى المنزل. وهنا فقط بدأ يستجمع شتات أفكاره، فرأى وضعه في صورته الحقيقية الواضحة وأخذ يحدث نفسه لا بعبارات متقطعة، بل بحكمة وصراحة كأنما يتحدث إلى زميل راجح يمكن أن تفضي إليه بأخص أسرار القلب. قال اكاكي اكاكيفتش: "لا، لا يمكن. الكلام مع بتروفتش الآن مستحيل، فهو الآن يعني .. يبدو أن زوجته ضربته علقة بشكل ما. الأفضل أن أذهب إليه صباح الأحد. فبعد السبت سيكون زائغ النظرات ونعسان وبحاجة إلى الشراب، وزوجته لن تعطيه نقودا. وعندئذ أدس يعني في يده عشرة كوبيكات، فيصبح الاتفاق معه أسهل، وعندئذ سيأخذ المعطف يعني.." هكذا حدث اكاكي اكاكيفتش نفسه وشجعها، وانتظر حلول يوم الأحد، وعندما رأى من بعيد زوجة بتروفتش تخرج لأمر ما من المنزل، توجه إليه مباشرة. وبالفعل كان بتروفتش بعد السبت زائغ النظرات بشدة، ورأسه مدلى نحو الأرض، وكان نعسان جداً. ورغم كل ذلك فما أن عرف بالأمر حتى اعتدل كأنما وخزه الشيطان وقال: "لا يمكن .. فلتتكرم بتفصيل معطف جديد". وهنا دس اكاكي اكاكيفتش في يده عشرة كوبيكات. فقال بتروفتش: "أشكرك، يا سيدي، سأشرب قليلاً في صحتك. أما بخصوص المعطف فلا تقلق، انه لا ينفع لأية منفعة. سأخيط لك معطفاً جديداً عظيماً، على هذا اتفقنا."
وأراد اكاكي اكاكيفتش أن يفتح فمه ليتحدث عن التصليح، ولكن بتروفتش لم يصغ إليه وقال: "سأخيط لك واحداً جديداً من كل بد، وبوسعك أن تعتمد علي في ذلك، سأبذل جهدي. ومن الممكن حسب الموضة الآن أن أركب الياقة بمشابك فضية".
وعندها أدرك اكاكي اكاكيفتش أنه لا يمكن التنصل من تفصيل معطف جديد، فانهار تماما. وبالفعل كيف يمكن أن يفصله، بأية نقود؟ ومن أين له؟ بالطبع كان من الممكن الاعتماد جزئياً على المكافأة القادمة بمناسبة العيد، ولكن هذا المبلغ قد وزع وحددت أوجه انفاقه سلفا منذ زمن بعيد. فقد كان من المطلوب اقتناء سروال جديد وتسديد دين قديم للاسكافي مقابل تركيب رقبة جديدة للحذاء القديم، وكان عليه أيضاً أن يوصي الخياطة على ثلاثة قمصان وعلى قطعتين من تلك الملابس التي لا يليق ذكر اسمها في نص مطبوع، وباختصار كان من المفروض انفاق المبلغ كله، وحتى لو تكرم المدير وصرف له بدلا من الاربعين روبلا المقررة خمسة وأربعين أو خمسين فلن يتبقى منها مع ذلك سوى شيء تافه لن يكون في رصيد المعطف سوى قطرة في بحر. رغم أنه كان يعرف طبعاً أنه كان من عادة بتروفتش أحياناً أن يطلب فجأة مبلغا لا يعقل، حتى أن زوجته كانت لا تتمالك نفسها فتصيح به: "ماذا دهاك، هل جننت، أيها الأحمق؟! مرة لا يرضى أن يعمل بأي حال، والآن يدفعه الشيطان إلى طلب سعر لا يساويه المعطف حتى مقابل ثمانين روبلا، ومع ذلك فمن أين يأتي بالثمانين روبلا هذه؟ ربما أمكن تدبير نصف المبلغ، نعم، ربما وجد نصفه، بل وربما أكثر قليلا، ولكن من أي يأتي بالنصف الآخر؟.. ولكن ينبغي أولاً أن يعرف القارئ من أين جاء النصف الأول. كان من عادة اكاكي اكاكيفتش أن يوفر من كل روبل ينفقه نصف كوبيك ويضعه في صندوق صغير يقفل ذي فتحة في غطائه لالقاء النقود فيها. وكان كل نصف عام يغير قطع النقود النحاسية المتجمعة هناك بقطع فضية. هكذا كان يفعل منذ زمن طويل، وعلى هذا النحو تجمع لديه خلال عدة سنوات مبلغ يفوق الأربعين روبلا. وهكذا فقد كان معه نصف المبلغ، ولكن من أين يأتي بالنصف الآخر؟ وفكر اكاكي اكاكيفتش طويلا، ثم قرر أنه ينبغي عليه أن يخفض نفقاته العادية، ولو خلال عام واحد على الأقل: أن يمتنع عن تناول الشاي كل مساء، ولا يشعل الشمعة مساء، فإذا تطلب الأمر أن يعمل فليذهب إلى غرفة صاحبة البيت ويعمل هناك على ضوء شمعتها وأن يسير في الشارع بأقصى ما يمكن من الخفة والحذر وهو يخطو فوق الأحجار والبلاط على أطراف أصابعه تقريبا لكي لا يبلى نعله بسرعة وأن يقلل ما أمكن من اعطاء ملابسه للغسالة، وحتى لا تبلى فعليه أن يخلعها كلما عاد إلى المنزل ويبقى فقط في الروب القطني العتيق جدا والذي رأف بحاله حتى الزمن نفسه. وللحقيقة ينبغي أن نقول أنه كان من الصعب عليه إلى حد ما في البداية أن يتعود على هذه القيود، ولكنه ألفها فيما بعد وسارت الأمور على ما يرام، بل انه تعود تماما على الجوع في المساء وفي المقابل فقد كان يتغذى معنويا، وهو يحمل في خاطره الفكرة الخالدة عن المعطف المقبل. ومنذ تلك اللحظة بدا وكأن وجوده نفسه أصبح أكثر اكتمالا، وكأنما تزوج ، كأنما أصبح يلازمه شخص ما، كأنما لم يعد وحيداً، بل وافقت شريكة حياة لطيفة على أن تمضي معه في درب الحياة، ولم تكن شريكة الحياة تلك سوى المعطف ذي الحشوة القطنية السميكة والبطانة المتينة التي لا تعرف البلى. وأصبح اكاكي اكاكيفتش أكثر حيوية، بل وأصبحت شخصيته أكثر صلابة كشخص حدد لنفسه هدفا وسعى إليه. واختفت من وجهه ومسلكه تلقائياً الشكوك والتردد أي كل الملامح المتذبذبة وغير المحددة. وكانت عيناه تتوقدان أحياناً، وكانت أكثر الخواطر جرأة وجسارة تومض في ذهنه: "فماذا لو ركّب فعلا ياقة من فراء السنسار!" وكاد التفكير في ذلك أن يجعله نهبا لشرود الذهن. فذات مرة أوشك أن يخطئ وهو ينسخ الأوراق حتى أنه صاح بصوت مسموع تقريبا: "أوه!" ورسم علامة الصليب. وكان كل شهر يزور بتروفتش مرة على الأقل لكي يتحدث عن المعطف: وأين يستحسن أن يشتري الجوخ ومن أي لون وبأي ثمن، وكان يعود من عنده مهموما بعض الشىء ، إلا أنه كان يعود راضياً دائما وهو يفكر في أنه سيأتي أخيراًَ ذلك الزمن الذي سيشتري فيه كل ذلك ويصبح المعطف جاهزاً. بل لقد سارت الأمور بأسرع مما كان يتوقع. فخلافا لكل الأحلام قرر المدير لاكاكي اكاكيفتش لا أربعين أو خمسة وأربعين روبلا، بل ستين روبلا كاملة. وسواء أحس المدير أن اكاكي اكاكيفتش بحاجة إلى معطف أم أن ذلك حدث عفوا فقد أصبح لديه نتيجة لذلك عشرون روبلا زيادة. وعجل هذا الوضع بسير الأمور. فبعد شهرين أو ثلاثة من الجوع البسيط أصبح لدى اكاكي اكاكيفتش بالضبط حوالي ثمانين روبلا. وبدأ قلبه الذي كان هادئاً للغاية بصفة عامة، يدق. وفي نفس اليوم ذهب مع بتروفتش إلى المحلات. وابتاعا قماشا جيدا جدا. ولا عجب. فقد كانا يفكران في ذلك قبلها بنصف عام، ونادرا ما مر شهر دون أن يذهبا إلى المحلات للنظر في الأسعار. وفي المقابل فقد قال بتروفتش نفسه أنه ليس هناك جوخ أفضل منه. واختار للبطانة قماشا بفتة، ولكنه كان متينا وسميكا وحسب كلام بتروفتش أفضل من الحرير، بل وكان منظره أبهى وأكثر لمعانا. ولم يشتريا فراء السنسار لأنه كان بالفعل غاليا، وبدلا منه اختارا فراء قط أفضل لم يجدا غيره في المحل، فراء قط يمكن دائما أن تظنه فراء سنسار اذا نظرت إليه من بعيد. واستغرق بتروفتش اسبوعين في خياطة المعطف لأنه تطلب الكثير من التنجيد، ولولا ذلك لفرغ منه قبل ذلك. وأخذ بتروفتش اثني عشر روبلا أجرا، ولم يكن من الممكن اعطاؤه أقل من ذلك: فقد كانت الخياطة كلها بخيوط من الحرير وبخياطة دقيقة مزدوجة، ومر بتروفتش على كل الخياطة بأسنانه بعد ذلك مزيلا بها شتى النتوءات. وكان ذلك في.. من الصعب أن نقول في أي يوم كان ذلك بالضبط، ولكنه على الأرجح كان أكثر الأيام مهابة في حياة اكاكي اكاكيفتش، وذلك عندما جاءه بتروفتش أخيراً بالمعطف. جاء به في الصباح بالضبط قبيل الوقت الذي كان على اكاكي اكاكيفتش فيه أن يذهب إلى الادارة. وجاء هذا المعطف في وقت ليس هناك ما هو أكثر منه مناسبة: فقد بدأ بالفعل الصقيع الشديد، وبدا أنه ينذر بمزيد من البرد. وجاء بتروفتش بالمعطف كما ينبغي أن يأتي خياط جيد, فقد ظهر على وجهه تعبير أهمية لم يره اكاكي اكاكيفتش عليه من قبل قط. وبدا أنه يدرك الهوة التي تفصل بين الخياطين الذين يركبون البطانات فقط ويصلحون الملابس والخياطين الذين يخيطون الملابس الجديدة. وأخرج بتروفتش المعطف من المنديل الذي لفه به. وكان المنديل خارجا من أيدي الغسالة لتوه. وقد لفه بتروفتش بعد ذلك ووضعه في جيبه للاستعمال. وبعد أن أخرج المعطف نظر إليه بزهو شديد وأمسكه بكلتا يديه، ثم ألقى به بمهارة شديدة على كتفي اكاكي اكاكيفتش. ثم شده وسواه بيده من الخلف إلى أسفل. ثم مر بيده على المعطف، وهو مسدل على كتفي اكاكي اكاكيفتش. ولكن اكاكي اكاكيفتش كرجل متقدم في العمر أراد أن يجرب المعطف وقد ارتداه بأكمامه. فساعده بتروفتش على ارتدائه بأكمامه، فظهر أنه جيد بالأكمام أيضاً. وباختصار فقد اتضح أن المعطف كان على مقاسه بالضبط. ولم ينس بتروفتش بهذه المناسبة أن يقول أنه فقط لأنه يعيش بدون لافتة وفي شارع صغير وفوق ذلك يعرف اكاكي اكاكيفتش منذ فترة طويلة فقد تقاضى أجراً قليلا إلى هذا الحد. أما في شارع "نيفسكي" فكانوا سيأخذون منه خمسة وسبعين روبلا على الخياطة فقط. ولم يشأ اكاكي اكاكيفتش أن يجادل بتروفتش في ذلك، وعلاوة على ذلك فقد كان يخاف من تك المبالغ القوية التي كان يحلو لبتروفتش أن يوهم بها الزبائن. فنقده أجره وشكره وخرج على الفور في المعطف الجديد إلى الادارة. وخرج بتروفتش في أثره ووقف ففي الشارع ينظر طويلا إلى المعطف من بعيد. ثم انعطف عن عمد إلى حارة ملتوية لكي يختصر الطريق ويعود إلى الشارع ثانية وينظر مرة أخرى إلى المعطف ولكن من ناحية أخرى أي من الوجه مباشرة. بينما كان اكاكي اكاكيفتش يسير ومشاعر البهجة تغمره. كان يشعر كل لحظة بأن على كتفيه معطفا جديدا، بل وضحك عدة مرات من السرور الداخلي. وبالفعل فقد كانت هناك منفعتان: واحدة هي أنه دافئ والأخرى أنه حسن. ولم يلحظ الطريق ابدا ووجد نفسه في الادارة فجأة. وفي غرفة الحاجب خلع المعطف وتفحصه من جميع الجهات ووضعه في رعاية الحاجب الخاصة. ولا نعرف كيف علم جميع من في الادارة فجأة أن لدى اكاكي اكاكيفتش معطفا جديدا، وأن معطفه السابق لم يعد له وجود بعد. وفي نفس اللحظة هرول الجميع إلى غرفة الحاجب ليروا معطف اكاكي اكاكيفتش الجديد. وراحوا يهنئونه ويحيونه ، حتى أنه في البداية أخذ يبتسم فقط، ثم شعر بعد ذلك بالخجل، وعندما أخذ الجميع، وقد أحاطوا به، يقولون أنه لا بد من تدشين المعطف الجديد وأنه ينبغي عليه على الأقل أن يقيم لهم جميعا حفلا، ارتبك اكاكي اكاكيفتش تماما، ولم يعرف ماذا يفعل وبم يردّ وكيف يتملص. وبعد بضع دقائق، وقد احمرّ كله، راح يؤكد لهم بسلامة نية أن هذا المعطف ليس جديدا ابدا وإنما هكذا مجرد معطف قديم. وأخيرا قال أحد الموظفين، بل كان أحد مساعدي رئيس القلم، ربما لكي يظهر أنه ليس متكبرا ابدا، بل ويتعامل مع من هم أدنى منه، قال: "طيب، فليكن. أنا سأقيم لكم حفلا بدلا من اكاكي اكاكيفتش، وأدعوكم اليوم لتناول الشاي. واليوم بالمناسبة عيد ميلادي". وعلى الفور هنأ الموظفون مساعد رئيس القلم وقبلوا دعوته بكل سرور. وأراد اكاكي اكاكيفتش أن يعتذر، ولكن الجميع راحوا يقولون أن ذلك لا يليق وأنه شيء معيب ومخجل، فلم يستطع أبدا أن يرفض الدعوة. وعلى العموم فقد شعر فيما بعد بالسرور عندما تذكر أن ذلك سيتيح له فرصة السير مساء أيضا في المعطف الجديد. وكان هذا اليوم كله بالنسبة اكاكي اكاكيفتش كأنما أكبر وأبهى عيد. وعاد إلى البيت في أسعد حالة ونزع المعطف وعلقه بحرص على الجدار، وقد ملى عينيه مرة أخرى من الجوخ والبطانة، ثم أخرج معطفه القديم عمدا بقصد المقارنة، ذلك المعطف الذي تهرأ تماما. تطلع إليه، فضحك هو نفسه منه، فما أبعد الفرق بينهما! وظل بعد ذلك وطوال الغداء يضحك كلما خطرت له حالة معطفه السابق. وتناول الغداء بمرح، ولم ينسخ شيئاً بعد الغداء، لم يمسك بأية أوراق، بل تمرغ فراشه قليلا حتى هبط الظلام. ثم ارتدى المعطف دون تسويف وخرج إلى الشارع. وللأسف فإننا لا نستطيع أن نقول أين كان يسكن الموظف الذي دعاه، فقد بدأت الذاكرة تخوننا بشدة، فاختلط علينا كل شيء في بطرسبورغ. واندمجت كل البيوت والشوارع في الرأس. حتى أصبح من الصعوبة بمكان أن نستخرج منها شيئاً ما في صورة متسقة. وأيا كان الأمر إلا أن الشيء الصحيح على الأقل هو أن الموظف كان يسكن في أحسن مناطق بطرسبورغ، وبالتالي بعيدا جدا عن اكاكي اكاكيفتش. كان على اكاكي اكاكيفتش في البداية أن يمر عبر بعض الشوارع المقفرة ذات الإضاءة الهزيلة. ولكن بقدر اقترابه من شقة الموظف أصبحت الشوارع أكثر حيوية وحركة واضاءة. وبدأ المارة يلوحون أكثر، ولاحت السيدات الأنيقات، وظهرت على الرجال ياقات من فراء السمور، ولم تظهر الا نادرا الزخارف الشعبية الخشبية المليئة بالمسامير المذهبة، وعلى العكس من ذلك كثر الحوذيون المندفعون بسرعة بطواقيهم المخملية القرمزية، وبزحافاتهم المطلية باللاك اللامع وبالأغطية المصنوعة من جلود الدببة، وكانت العربات ذات مقاعد الحوذية المزينة تنهب الشارع وعجلاتها تصر على الثلج. وتطلع اكاكي اكاكيفتش إلى ذلك كله وكأنما يراه للمرة الأولى. إذ لم يخرج من داره مساء منذ عدة سنوات. وتوقف بفضول أمام واجهة متجر مضاءة ليتفرج على لوحة كانت تصور امرأة ما جميلة تخلع حذاءها كاشفة بذلك عن ساقها كلها، وكانت ساقا لا بأس بها أبدا. ومن خلفها أطل من باب غرفة أخرى رجل بسالفين ولحية جميلة تحت شفته. وهزّ اكاكي اكاكيفتش رأسه وضحك ضحكة قصيرة، ثم مضى في حال سبيله. فهل يا ترى ضحك لأنه رأى شيئاً غير معروف له، ولكنه مع ذلك يترك في نفس كل من يراه حدسا ما، أم أنه ضحك لأنه فكر مثل كثيرين من الموظفين بهذه الصورة: "آه من هؤلاء الفرنسيين! ماذا بوسعك أن تقول.. فهم اذا أرادوا شيئا ما يعني فهو بالضبط يعني.." وربما لم يفكر حتى في هذا، فمن الصعب أن تقحم نفسك في دخيلة انسان ما لتعرف فيم يفكر. وأخيرا وصل إلى البيت الذي كان يقطنه مساعد رئيس القلم.
كان مساعد رئيس القلم يحيا في بحبوحة من العيش: فعلى سلم المدخل كان مصباح مضاء، وكانت شقته في الطابق الثاني. وعندما دخل اكاكي اكاكيفتش إلى الردهة رأى على الأرض صفوفا من الخفوف. وبينها، في وسط الغرفة كان هناك سماور يغلي وينفث سحبا من البخار. وعلى الجدران علقت معاطف وأردية. كان من بينها معاطف بياقات من فراء السمور أو بطيات صدور من المخمل. وتناهى من وراء الجدار صخب ولغط أصبحا فجأة واضحين ورنانين عندما فتح الباب وخرج منه خادم يحمل صينية غاصة بالأكواب الفارغة ودورق حليب وسلة خبز مجفف. وكان واضحا أن الموظفين مجتمعون مدة طويلة وقد شربوا أول كوب شاي. وبعد أن علق اكاكي اكاكيفتش معطفه بنفسه داخل الغرفة، وفي نفس الوقت لاحت أمام ناظريه الشموع والموظفون والغلايين وموائد لعب الورق، وأصم سمعه حديث متصاعد من جميع الجهات وجلبة مقاعد يحركونها. فتوقف في وسط الغرفة مرتبكا تماما، وهو يبحث ويحاول أن يجد لنفسه شيئاً يفعله. ولكنهم كانوا قد لاحظوا وجوده، فاستقبلوه بالصياح ومضوا على الفور إلى الردهة وتفرجوا على معطفه مرة اخرى. ورغم أن اكاكي اكاكيفتش كان محرجا بعض الشيء، ولكنه، اذ كان شخصا سليم النية، لم يستطع إلا أن يفرح، وهو يرى أن الجميع يمتدحون المعطف. وبعد ذلك بالطبع تركوه ومعطفه واتجهوا كما هو متبع إلى موائد لعب الورق. وكان كل ذلك: الصخب واللغط وهذا الحشد من الناس، كان كل ذلك عجيباً بالنسبة لاكاكي اكاكيفتش. لم يكن يدري كيف يتصرف ولا ماذا يفعل بيديه وساقيه وجسمه كله. وأخيرا جلس إلى اللاعبين وتطلع إلى أوراق اللعب وحدق في وجه هذا وذلك وبعد فترة من الوقت بدأ يتثاءب ويشعر بالملل خاصة وأنه قد حان منذ زمن بعيد الموعد الذي كان عادة يأوي فيه إلى الفراش. وأراد أن يستأذن من رب الدار في الانصراف، ولكنهم لم يسمحوا له قائلين أنه لا بد من تناول كأس شمبانيا بمناسبة المعطف الجديد. وبعد ساعة قدموا العشاء المكون من سلطة روسية ولحم عجول بارد وكبد مهروس وقطع جاتوه وشمبانيا. وأجبروا اكاكي اكاكيفتش على شرب كأسين من الشمبانيا أحس بعدهما أن الجو في الغرفة أصبح أكثر مرحا، الا أنه لم يستطع أبدا أن ينسى أن الساعة بلغت الثانية عشرة وأن وقت عودته إلى البيت قد حان منذ زمن بعيد. ولكيلا يحاول صاحب البيت أن يستبقيه بطريقة ما خرج اكاكي اكاكيفتش من الغرفة بهدوء وبحث عن معطفه في الردهة، فوجده للأسف ملقى على الأرض، فتناوله ونفضه ونزع منه كل ما علق به من زغب ووضعه على كتفيه ونزل على السلم إلى الشارع. كان الشارع لا يزال مضيئاً. وكانت بعض المتاجر الصغيرة، هذه النوادي الدائمة للبوابين وغيرهم من الناس، لا تزال مفتوحة، أما البعض الآخر المغلق فكان يصدر عنه رغم ذلك شريط ضوء طويل عبر شق الباب كله، الأمر الذي كان يدل على أنها لم تخل بعد من تجمع بشري، اذ يبدو أن البوابين والسيّاس أو الخدم يوشكون على الفراغ من أحاديثهم ورواياتهم موقعين أسيادهم في حيرة كاملة بخصوص أماكن تواجدهم. سار اكاكي اكاكيفتش مرح النفس حتى انه هم بالركض فجأة لسبب مجهول وراء سيدة ما مرقت بجواره كالبرق، وكان كل طرف من أطراف جسدها مفعما بحركة غير عادية. الا أنه مع ذلك توقف على الفور وسار كما في السابق بهدوء شديد ودهش هو نفسه من ركضه الذي لا يعرف من أين حل عليه. وسرعان ما امتدت أمامه تلك الشوارع الخاوية التي لا تتسم بمرح خاص حتى في النهار، فما بالك بالمساء. لقد أصبحت الآن أكثر خواء وعزلة. ومضت المصابيح أضعف، اذ يبدو أن الزيت فيها أصبح قليلا، وبدأت تلوح المنازل الخشبية والاسيجة. ولم يكن هناك أحد على الاطلاق . الثلج فقط هو الذي كان يلمع في الشوارع، ولاحت الأشباح السوداء الحزينة للأكواخ المنخفضة النائمة بنوافذها الموصدة الشيش. واقترب من ذلك المكان الذي كان الشارع يتقاطع فيه مع ميدان لا نهاية له لا تكاد المنازل تبين في طرفه الآخر. وكان هذا الميدان يبدو كصحراء رهيبة.
.
ومن بعيد، من مكان لا يعلمه إلا الله، ومض ضوء في كشك حراسة بدا وكأنه قائم في آخر الدنيا. وهنا انخفض مرح اكاكي اكاكيفتش إلى حد كبير. ودخل الميدان باحساس لاارادي بالخوف كأنما كان قلبه يحدسه بشر. ونظر خلفه وتلفت حواليه. فبدا كأنما كان قلبه يحدسه بشر. ونظر خلفه وتلفت حواليه. فبدا ما حوله وكأنه بحر. فقال في نفسه: "كلا، من الأفضل ألا أنظر"، - وسار مغمض العينين، وعندما فتحهما ليعرف هل أوشك الميدان على الانتهاء أم لا، رأى أمامه فجأة، تحت أنفه تقريبا، شخصين ما بشوارب، ولكنه لم يستطع حتى أن يميز أي شخصين هما. وغامت عيناه وخفق قلبه بعنف. "ولكن هذا المعطف معطفي!" – قال أحدهما بصوت راعد وأمسك بياقة معطفه. واراد اكاكي اكاكيفتش أن يصرخ: "النجدة!"، ولكن الآخر دس أمام فمه مباشرة قبضة بحجم رأس موظف ودمدم: "حاول أن تصرخ". ولم يشعر اكاكي اكاكيفتش إلا وهما ينزعان عنه المعطف، ثم ركلاه ركلة قوية، فسقط على وجهه فوق الثلج، ولم يعد يشعر بشيء أكثر من ذلك. وبعد بضع دقائق عاد إلى وعيه، فنهض على قدميه. ولكن لم يكن هناك أحد. وأحس أن الجو بارد وأن المعطف ليس موجودا، فأخذ يصرخ، ولكن صوته كما بدا لم يكن ينوي أن يبلغ آخر الميدان. فانطلق اكاكي اكاكيفتش يركض في يأس، وهو لا يكف عن الصراخ،. ، متجها، عبر الميدان إلى كشك الحراسة مباشرة حيث كان الدركي يقف متكئا على البلطة. وهو يتطلع فيما يبدو بفضول ويريد أن يعرف أي شيطان دفع هذا الشخص إلى الركض نحوه صارخا من بعيد. وعندما بلغه اكاكي اكاكيفتش راح يصرخ بصوت مختنق بأنه نائم ولا يحرس شيئاً ولا يرى كيف ينهبون الناس. فأجاب الدركي بأنه لم ير شيئا وأنه رأى كيف استوقفه شخصان وسط الميدان، ولكنه ظن أنهما من معارفه. وأنه بدلا من السباب عبثا من الأفضل أن يذهب غدا إلى المفتش، وسيعثر المفتش على من سرق المعطف. وعاد اكاكي اكاكيفتش إلى المنزل في اضطراب تام، فقد تبعثر شعره الذي تبقى لديه بكمية صغيرة عند صدغيه ومؤخرة رأسه، وكان جنبه وصدره وسرواله ملوثة بالثلج كلها. وعندما سمعت العجوز، صاحبة شقته دقا رهيبا على الباب نهضت من فراشها على عجل وركضت بفردة شبشب واحدة في قدمها لتفتح الباب وقد شدت بإحدى يديها القميص على صدرها من التواضع. ولكن عندما فتحت الباب تراجعت إلى الخلف إذ رأت اكاكي اكاكيفتش في هذه الهيئة. وعندما قص عليها ما حدث له أشاحت بيديها وأشارت عليه بأن يذهب مباشرة إلى مأمور القسم، لأن شرطي الحي سيخدعه، فسيعده بالبحث، ثم يماطل بعد ذلك. أفضل شيء أن يذهب إلى المأمور مباشرة، بل انها تعرف المأمور لأن الفنلندية التي كانت تعمل عندها طاهية، أصبحت تعمل الآن عند المأمور مربية، كما أنها كثيرا ما تراه شخصيا عندما يمر بجوار منزلهم، كما أنه يتردد على الكنيسة كل أحد ليصلي وفي الوقت نفسه يتطلع إلى الجميع بمرح، ولذلك فهو على ما يبدو رجل طيب. وبعد أن سمع اكاكي اكاكيفتش هذا القرار جر ساقيه حزينا إلى غرفته. أما كيف قضى ليلته فلنترك الحكم على ذلك لمن يستطيع أن يتخيل ولو إلى حد ما وضع شخص آخر. وفي الصباح الباكر مضى إلى المأمور. فقيل له أنه نائم. وعاد في العاشرة، فقيل له ثانية أنه نائم. فعاد في الحادية عشرة ، فقيل له أن المأمور غادر البيت. فعاد ساعة الغداء، الا أن الكتبة في المدخل لم يريدوا أن يسمحوا له بالدخول وأصروا على أن يعرفوا الغرض من زيارته وماذا يريد وماذا حدث. لكن اكاكي اكاكيفتش أراد أخيرا أن يبدي صلابة ولو مرة في حياته، فقال بلهجة قاطعة أنه يريد مقابلة المأمور نفسه وأنهم لا يملكون الحق أن يمنعوه من مقابلته وأنه جاء من الادارة في عمل رسمي وأنه سوف يشكوهم وعندئذ سيرون. ولم يستطع الكتبة أن يقولوا شيئاً أمام ذلك. فذهب أحدهم لاستدعاء المأمور. وكان موقف المأمور من روايته عن السرقة غريبا للغاية. فبدلا من أن يوجه اهتمامه إلى النقطة الأساسية في الموضوع راح يسأل اكاكي اكاكيفتش لماذا عاد في هذه الساعة المتأخرة وألم يعرج في الطريق على أحد المنازل المشبوهة حتى أن اكاكي اكاكيفتش أحرج تماما وخرج من عنده، وهو لا يعرف هل ستسير قضية معطفه كما ينبغي أم لا. لقد قضى هذا النهار كله غائبا عن العمل (المرة الوحيدة في حياته). وفي اليوم التالي جاء شاحبا وفي قبوطه القديم الذي أصبح أكثر بؤسا. وهزت قصة سرقة المعطف قلوب الكثيرين بالرغم من أنه كان هناك بعض الموظفين الذين لم يتورعوا حتى في هذه المناسبة عن السخرية باكاكي اكاكيفتش. وقرروا على الفور أن يجمعوا له تبرعا، إلا انهم جمعوا مبلغا تافها لأن الموظفين كانوا قد أنفقوا الكثير في الاكتتاب لرسم صورة للمدير وفي شراء كتاب ما اقترحه عليهم رئيس القسم الذي كان صديقا للمؤلف. وهكذا جمعوا مبلغا تافها للغاية. وقرر أحدهم بوازع من الشفقة أن يساعد اكاكي اكاكيفتش على الأقل بنصيحة طيبة، فأشار عليه بألا يذهب إلى شرطي الحي، إذ بالرغم من أنه قد يحدث أن يتمكن الشرطي رغبة منه في كسب تقدير الرؤساء من العثور على المعطف بطريقة ما، لكن المعطف مع ذلك سيبقى في قسم البوليس ما لم يقدم اكاكي اكاكيفتش أدلة قانونية على ملكيته له. أفضل شيء أن يقصد احدى الشخصيات الهامة، فهذه الشخصية الهامة تستطيع بالاتصال ومخاطبة من ينبغي أن تدفع القضية بنجاح أكبر. ولم يكن أمام اكاكي اكاكيفتش من مفر، إنما ينبغي أن نعلم أن إحدى الشخصيات الهامة أصبح منذ فترة قريبة شخصية هامة، أما قبل ذلك فكان شخصية غير هامة. على أية حال فإن منصبه لا يعتبر حتى الآن هاما بالمقارنة مع المناصب الأخرى الأكثر أهمية. غير أنك ستجد دائما دائرة من الناس الذين يعتبرون مهما ما يبدو في عيون الآخرين غير مهم. على أية حال حاول هذه الشخصية الهامة أن يزيد من أهميته بوسائل أخرى كثيرة، وبالتحديد فقد عمل على أن يستقبله الموظفون الصغار على السلم ساعة حضوره إلى وظيفته وألا يجرؤ أحد على الدخول إليه مباشرة، بل يمضي كل شيء وفق نظام صارم: أن يبلغ المساعد الاعتباري سكرتير المحافظ، ويبلغ سكرتير المحافظ المستشار الاعتباري أو شخصا آخر، وبهذه الطريقة يبلغ الأمر إليه. هكذا تنتشر عدوى التقليد إلى كل شيء في روسيا المقدسة، ويحاول كل شخص أن يقلد رئيسه ويتشبه به. بل انه يقال أن مستشارا اعتباريا ما عندما عينوه رئيسا لاحدى الادارات الصغيرة المستقلة، اقتطع لنفسه على الفور غرفة خاصة وسماها "غرفة الحضور" ووضع على بابها حجابا ما بياقات حمراء، كانوا يمسكون بمقبض الباب ويفتحونه أمام كل وافد على الرغم من أن "غرفة الحضور" كانت لا تتسع إلا بالكاد لطاولة مكتب عادية. لقد كانت أساليب وعادات الشخصية الهامة رصينة ومهيبة ولكن دون تعقيد. كانت الصرامة هي القاعدة الأساسية لنظامه. وكان يقول عادة: "الصرامة والصرامة، ثم الصرامة" وعند الكلمة الأخيرة يحدق في العادة بأهمية في وجه من يخاطبه. رغم أن ذلك على أية حال لم يكن له أدنى مبرر لأن الموظفين العشرة الذين كانوا يشكلون كل الجهاز الحكومي للادارة، كانوا حتى بدون ذلك مرعوبين بدرجة كافية. فما أن يروه من بعيد حتى يتركوا عنهم أعمالهم ويقفوا في انتباه منتظرين حتى يمر الرئيس عبر الغرفة. وكان حديثه العادي مع مرؤوسيه يتسم بالصرامة ويتألف تقريبا من ثلاث جمل: "كيف تجرؤ؟ هل تعلم مع من تتحدث؟ هل تفهم أمام من تقف؟" على أية حال كان في قرارته رجلا طيبا، لطيفا مع رفاقه، خدوما، الا أن رتبة الجنرال أفقدته توازنه. فما أن حصل على رتبة الجنرال حتى ارتبك وضل طريقه ولم يعرف ابدا كيف يتصرف. فاذا حدث أن اجتمع مع أناس من مستواه كان يبدو انسانا وكما ينبغي انسانا مستقيما جدا، بل وحتى انسانا غير غبي في كثير من النواحي. ولكن ما أن يتواجد في مجتمع فيه أشخاص أدنى منه ولو برتبة واحدة حتى يصبح شخصا لا أمل منه: كان يركن إلى الصمت، ويثير وضعه الشفقة، خاصة وأنه هو نفسه كان يشعر بأنه كان من الممكن أن يقضي وقته بصورة أفضل بكثير. وكانت تتبدى في عينيه أحيانا رغبة قوية المشاركة في أحد الأحاديث أو الانضمام إلى احدى الحلقات الشيقة، فتصده عن ذلك فكرة: "لن يكون ذلك تنازلا كبيرا من جانبه؟ ألن يكون في ذلك رفع للكلفة، ألن يكون في ذلك اهدارا لأهميته؟" ونتيجة لهذه الأفكار يظل دائما في نفس حالة الصمت التي لا تتغير، فلا يتفوه الا نادرا بأصوات أحادية المقاطع حتى استحق لقب أضجر انسان. إلى هذه الشخصية الهامة توجه صاحبنا اكاكي اكاكيفتش ووصل في وقت غير موات أبدا وغير مناسب أبدا له وان كان على أية حال مناسبا للشخصية الهامة.


كان صاحبنا الشخصية الهامة في غرفة مكتبه يتحدث، وهو في غاية المرح، مع شخص جاء منذ طويل. وفي هذه الأثناء أبلغوه أن شخصا يدعى بشماتشكين يريد مقابلته. فسأل باقتضاب: "من القادم؟" فأجابوه: "أحد الموظفين". فقال الرجل الهام: "آه، فلينتظر، لا وقت عندي الآن". ومن المناسب هنا أن نذكر أن الرجل الهام قد كذب تماما: فقد كان لديه وقت، اذ أنه انتهى منذ زمن بعيد من الحديث مع زميله حول كل شيء، ومنذ زمن بعيد أخذت تتخلل حديثهما فترات صمت طويلة، وبين الحين والحين يربت أحدهما على ساق الآخر مرددا: "هكذا يا ايفان ابراموفتش!" – "نعم، يا ستيبان فارلاموفتش!" ومع ذلك ورغم كل شيء فقط أمر الموظف أن ينتظر لكي يظهر لزميله، هذا الرجل الذي لم يمارس الخدمة منذ زمن بعيد واستقر في داره بالقرية. كم من الزمن ينتظره الموظفون في الردهة. وأخيرا وبعد أن شبعا من الكلام وبعد أن شبعا أكثر من الصمت ودخن كل منهما سيجارا في كراس وثيرة للغاية بمساند متحركة قال وكأنما تذكر فجأة للسكرتير الذي وقف بجوار الباب حاملا أوراقا ليقدم له التقارير: "نعم، أعتقد أن هناك موظفا ينتظر، أخبره أنه يستطيع أن يدخل". وعندما رأى هيئة اكاكي اكاكيفتش المستكينة ومعطفه الرسمي القديم التفت نحوه فجأة وقال: "أي خدمة؟" – بصوت قاطع حاسم تدرب عليه من قبل في غرفته على انفراد أمام المرآة، وذلك قبل أسبوع من توليه منصبه الحالي ورتبة الجنرال. وكان اكاكي اكاكيفتش قد تملكه الوجل قبل ذلك بوقت طويل، فارتبك قليلا، ثم مضى يشرح له قضيته كيفما استطاع وعلى قدر ما سمحت له طلاقة لسانه مع اللجوء أكثر من أي وقت سبق إلى استخدام كلمة "يعني"، فقال أنه كان لديه معطف جديد تماما، وها قد نهب بصورة لا انسانية، وأنه يتوجه إليه لكي يتشفع له بما لديه يعني ولكي يخاطب السيد مدير الشرطة أو غيره من المسئولين لكي يجدوا المعطف. ولسبب ما بدت هذه اللهجة للجنرال خالية من الكلفة ، فقال له بصوت قاطع:
ما هذا، يا سيدي المحترم، ألا تعرف النظام؟ إلى أين جئت؟ ألا تعرف كيف تصرف الأمور؟ كان ينبغي قبل كل شيء أن تقدم طلبا في الادارة، فيرفع الطلب إلى رئيس القلم، ثم إلى رئيس القسم، ثم إلى السكرتير، وعندئذ يرفعه السكرتير إلي..
ولكن ، يا صاحب المعالي، قال اكاكي اكاكيفتش محاولاً أن يستجمع آخر حفنة تبقت لديه من الشجاعة، وهو يشعر في الوقت نفسه أن العرق يتصبب منه بصورة فظيعة. – أنا، يا صاحب المعالي، لم اجرؤ على ازعاج معاليكم إلا الآن، السكرتيرين يعني ... لا يعتمد عليهم ...
فقال ذو الشخصية الهامة:
ماذا، ماذا، ماذا؟ من أين جئت بهذه الجرأة؟ من أين جئت بهذه الأفكار؟ ما هذا التمرد الذي انتشر بين الشباب ضد الرؤساء والكبار؟
ويبدو أن الشخصية الهامة لم يلاحظ أن اكاكي اكاكيفتش قد جاوز الخمسين. وبالتالي فلو كان من الممكن اعتباره شابا فلا يعدو ذلك الا أن يكون أمراً نسبيا أي بالنسبة لمن هم في السبعين.
أتدري لمن تقول هذا الكلام؟ هل تفهم أمام من تقف؟ هل تفهم ذلك؟ هل تفهم ذلك؟ انني أسألك.
وهنا دق بقدمه رافعا صوته إلى طبقة عالية إلى درجة أنه حتى لو كان الواقف أمامه شخصا غير اكاكي اكاكيفتش لأصابه الرعب. أما اكاكي اكاكيفتش فقد صعق وترنح، واهتز بدنه كله، ولم يتمكن أبدا من الوقوف. ولولا أن الحراس هرعوا راكضين واسندوه لانهار على الأرض. وحملوه من الغرفة، وهو بلا حراك تقريبا. أما الشخصية الهامة، وقد أرضاه أن تأثير كلماته فاق حتى توقعاته، وانتشى من فكرة أن كلمته قد تفقد الانسان وعيه، فنظر بطرف عينه إلى صديقه ليعرف كيف ينظر إلى ما حدث، فرأى باحساس لا يخلو من المتعة أن صديقه في حالة من القلق البالغ. بل وبدأ يشعر بالخوف.
لم يذكر اكاكي اكاكيفتش مطلقا كيف نزل على الدرج وخرج الى الشارع. ولم يكن يحس لا بيديه ولا بساقيه. لم يحدث له في حياته أن نهره جنرال بهذا العنف. وعلاوة على ذلك جنرال ليس رئيسه. فسار في العاصفة الثلجية التي كانت تعربد في الشوارع فاغرا فاه، وهو يتخبط بين الأرصفة. وهبت عليه الريح، كما العادة في بطرسبورغ، من الجهات الأربع كلها ومن جميع الحواري. وعلى الفور أصيب من البرد بورم في زوره، وعندما وصل إلى البيت لم يكن في وسعه حتى أن يتفوه بكلمة. وتورم بدنه كله، فرقد في الفراش. إلى هذه الدرجة يكون التعنيف قويا أحيانا! وفي اليوم التالي أصيب بحمى شديدة. وبفضل مساعدة جو بطرسبورغ الرحيم سار المرض بأسرع من المتوقع، وعندما جاء الطبيب، فجس نبضه، لم يجد ما يشير به سوى الكمادات، وذلك فقط حتى لا يبقى المريض بدون عناية الطب الخيرة. وعلى العموم فقد أعلن الطبيب ساعتها أن نهايته المؤكدة ستحل بعد يوم ونصف. وبعد ذلك قال لربة الدار: "أما أنت، يا سيدتي، فلا تضيعي الوقت وجهزي له من الان تابوتا من خشب الصنوبر، لأن خشب البلوط سكون غاليا بالنسبة له". فهل سمع اكاكي اكاكيفتش هذه الكلمات المشؤومة، واذا سمعها فهل كان لها عليه تأثير مذهل، وهل شعر بالأسى على حياته الشقية.. نحن لا نعرف عن ذلك شيئاً لأن اكاكي اكاكيفتش كان طوال الوقت يهذي في غيبوبة الحمى. وتوالت على ذهنه الرؤى بلا انقطاع، كل رؤيا اغرب من سابقتها: فمرة يرى الخياط بتروفتش، فيوصيه بتفصيل معطف بفخاخ للصوص الذين كانوا يبدون له طوال الوقت تحت السرير، فكان يدعو ربة الدار كل لحظة لتنتشل لصا حتى من تحت البطانية. وتارة كان يسأل لماذا يعلقون قبوطه القديم أمامه، فلديه معطف جديد. وتارة يخيل إليه أن يقف أمام الجنرال يصغي إلى تعنيفه وهو يقول : "آسف، يا صاحب المعالي". وتارة، وأخيرا، كان يسب متفوها بأفظع الكلمات حتى أن ربة الدار العجوز كانت ترسم علامة الصليب ، اذ لم تسمع منه قبلا كلمات كهذه ابدا، خاصة وأن هذه الكلمات كانت تأتي مباشرة بعد عبارة "يا صاحب المعالي". وبعد ذلك كان يهذي بأشياء لا معنى لها تماما. فلم يكن يفهم منها شيء. الأمر الوحيد الذي كان يبدو واضحا ان هذه الكلمات والأفكار المشوشة كانت تدور حول المعطف فقط. وأخيرا لفظ اكاكي اكاكيفتش المسكين آخر أنفاسه. ولم توصد غرفته أو ممتلكاته بالأختام لأنه أولا: لم يكن هناك ورثة، وثانيا : لم يتبق لديه من الميراث إلا القليل. وخلت بطرسبورغ من اكاكي اكاكيفتش وكأنما لم يكن موجودا فيها ابدا. اختفى وغاب ذلك المخلوق الذي لم يكن له من يحميه والذي لم يكن عزيزا على أحد ولا شيقا بالنسبة لأحد والذي لم يجذب إليه انتباه حتى عالم الطبيعة الذي لا يدع ذبابة عادية دون أن يغرس فيها دبوسا ويفحصها تحت المجهر.. ذلك المخلوق الذي تحمل باذعان سخريات الكتبة الموظفين والذي واراه التراب دونما علة خارقة. ولكنه مع ذلك ولو قبيل نهاية عمره زاره ضيف جميل في صورة معطف بعث الحيوية ولو للحظة في تلك الحياة البائسة. ذلك المخلوق الذي دهمته فيما بعد الكارثة القاسية كما دهمت القياصرة والحكام.. وبعد بضعة أيام من وفاته أرسلوا حارسا من الادارة إلى شقته ليأمره بالحضور فورا، فالرئيس يطلبه. ولكن كان على الحارس أن يعود صفر اليدين قائلا أنه لا يستطيع بعد الآن أن يأتي. وعلى هذا السؤال "لماذا؟" أجاب بالكلمات التالية: "هكذا، فقد مات ودفن منذ أربعة أيام". وهكذا علموا في الادارة بوفاة اكاكي اكاكيفتش، وفي اليوم التالي كان يجلس في مكانه موظف جديد، أطول منه قامة بكثير، يكتب الحروف بخط ليس باستقامة اكاكي اكاكيفتش، بل بميل وانحراف أكثر.
ولكن من كان يتصور أن هذا ليس كل شيء عن اكاكي اكاكيفتش وأنه كان مقدرا له أن يعيش عدة أيام صاخبة بعد وفاته، وكأنما مكافأة له على حياته التي لم ينتبه إليها أحد؟ ولكن هذا ما حدث، وها هي روايتنا البائسة تنتهي فجأة نهاية خيالية. فقد انتشرت في بطرسبورغ فجأة شائعات تقول بأنه عند جسر "كالينكين" وفيما وراءه بكثير يظهر في الليالي ميت في صورة موظف يبحث عن معطف مسروق، وبحجة هذا المعطف المسروق ينتزع كافة المعاطف من على جميع الاكتاف غير آبه باللقب أو الرتبة، سواء كانت بياقات من فراء القطط أو السمور أو مبطنة بالقطن أو معاطف فراء من جلد الثعالب أو الدببة، وباختصار كافة أنواع الفراء والجلود التي ابتكرها البشر ليستروا بها أنفسهم. وقد رأى أحد موظفي الادارات بعيني ذلك الميت وغرف فيه على الفور اكاكي اكاكيفتش. بيد أن ذلك أصابه بفزع شديد حتى أنه ولى هاربا بكل قواه، ولهذا لم يتمكن من التدقيق جيداَ، بل رآه فقط، وهو يلوح له من بعيد باصبعه مهددا. وصدرت الأوامر للشرطة بالقبض على الميت بأية وسيلة حيا او ميتا ومعاقبته أقسى العقاب ليكون عبرة للآخرين، وكادوا أن يفلحوا في ذلك. ولكننا مع ذلك تركنا عنا تماما تلك الشخصية الهامة والذي يكاد أن يكون في الحقيقة سبب الاتجاه الخيالي الذي سارت فيه هذه القصة، الحقيقية تماما على أية حال. ان واجب العدالة يتطلب منا قبل كل شيء أن نقول أن الشخصية الهامة سرعان ما أحس بنوع من الأسف بعد انصراف اكاكي اكاكيفتش المسكين الذي نزل به ذلك التعنيف القاسي. فلم يكن الاحساس بالشفقة غريبا عليه، وكان قلبه قادرا على ابداء كثير من المشاعر الطيبة، على الرغم من أن رتبته كانت تعوقه كثيرا عن البوح بها. فما ان خرج زميله الزائر من غرفة مكتبه حتى انصرف تفكيره إلى اكاكي اكاكيفتش المسكين. ومنذ تلك اللحظة كان يتخيل كل يوم تقريبا اكاكي اكاكيفتش الشاحب الذي لم يتحمل تعنيفه الصارم. واقلقه التفكير فيه إلى درجة أنه قرر بعد أسبوع أن يرسل إليه موظفا ليعرف أحواله وهل يستطيع حقا أن يساعده بطريقة ما. وعندما ابلغوا أن اكاكي اكاكيفتش قد عاجله الموت مصابا بالحمى اعتراه الذهول، وسمع صوت ضميره يؤنبه وظل طول اليوم معتل المزاج. واراد أن يسرى عن نفسه بصورة ما وينسى ذلك الانطباع المقبض، فتوجه ليقضي المساء عند أحد زملائه الذي وجد عنده جماعة محترمة، والأهم من ذلك أن الجميع هناك كانوا من نفس الرتبة تقريبا، فلم يكن ثمة شيء يقيد تصرفاته، وكان لذلك تأثير مدهش على حالته النفسية، فانطلق واصبح لطيفا في حديثه، ولبقا، وباختصار قضى المساء على نحو طيب للغاية. وعلى العشاء شرب كأسي شمبانيا، تلك الوسيلة المؤثرة تأثيرا لا بأس به فيما يخص المرح كما هو معروف. ومنحته الشمبانيا ميلا إلى شتى أنواع المفاجآت، وبالتحديد فقد قرر ألا يعود إلى المنزل، بل يمضي إلى سيدة معروفة تدعى كارولينا ايفانوفنا، وهي سيدة فيما يبدو من أصل ألماني، كان يكن لها مشاعر صداقة محضة، ومن الجدير بالذكر أن الشخصية الهامة كان رجلا قد جاوز الشباب وزوجا طيبا ورب أسرة محترما. وكان ابناه، وأحدهما يعمل عنده في الادارة، وابنته اللطيفة البالغة ستة عشر عاما وذات الأنف الأعقف قليلا، ولكنه أنف جميل، كانا يقبلان عليه كل يوم ليلثما يده , أما قرينته، وهي امرأة لا تزال نضرة، بل وحتى ليس فيها ما يعيب، فكانت تعطيه يدها أولا ليلثمها ثم تقلبها على الوجه الآخر لتقبل يده هو. ولكن الشخصية الهامة الذي كان على أية حال راضيا تماما عن الملاطفات العائلية المنزلية، وجد من اللائق أن تكون له صاحبة للعلاقات الودية في القسم الآخر من المدينة. ولم تكن هذه الصاحبة أفضل أو أصغر سنا من زوجته، ولكن مثل هذه الألغاز توجد في الدنيا، وليس من شأننا أن نناقشها. وهكذا هبط الشخصية الهامة على الدرج واستقل الزحافة وقال للحوذي: "إلى كارولينا ايفانوفنا"، أما هو فتغطى بالمعطف الدافئ في جلسة وثيرة للغاية وبقى في ذلك الوضع اللطيف. وتذكر وهو في غاية الرضا كل اللحظات المرحة في الأمسية التي قضاها، وكل الكلمات التي أثارت ضحكات تلك المجموعة الصغيرة، وردد كثيرا منها بصوت خافت، فوجدها جميعا مضحكة كما كانت، ولذلك فليس من الغريب ان يضحك هو نفسه من كل قلبه. ومع ذلك كانت تنغص عليه احيانا ريح حارة متقطعة تهب فجأة من حيث لا يعلم الا الله ولسبب لا يدريه أحد، فتلهب وجهه وتلقي عليه بقطع من الثلج وتنشر كما الشراع ياقة المعطف أو تلقي بها فجأة بقوة رهيبة على رأسه، فتكلفه عناء لا ينتهي في محاولة التخلص منها. وفجأة أحس الشخصية الهامة بأحد ما يمسك بياقة معطفه بقوة. وعندما التفت رأى رجلا قصير القامة في معطف رسمي قديم مهترئ، فعرف فيه لرعبه اكاكي اكاكيفتش. كان وجه الموظف شاحبا بلون الثلج، وبدا ميتا تماما. ولكن رعب الشخصية الهامة فاق كل الحديد عندما رأى فم الميت يتلوى منفرجا وتهب منه عليه رائحة القبور الرهيبة ويلفظ هذه الكلمات: "آه! ها أنت ذا أخيرا! أخيرا أنا، يعني، أمسكت بك من ياقتك! معطفك بالذات هو ما أحتاج إليه! لم تسع لاسترداد معطفي، بل وعنفتني. حسنا. هات الآن معطفك!" وكاد الشخصية الهامة المسكين أن يموت . أحس برعب شديد إلى درجة أنه بدأ يخشى، وليس دون مبرر، من أن تكون قد اصابته نوبة نفسية. وأسرع إلى نزع معطفه بنفسه عن كتفيه وصرخ في الحوذي بصوت غير طبيعي : "اسرع إلى بيت بكل قواك!". وعندما سمع الحوذي نبرة الصوت التي لا تتردد عادة إلا في المواقف الحاسمة، وبل وتصاحبها حركات أكثر فعالية، دفن رأسه بين كتفيه تحوطا، ولوح بالسوط واندفع بالعربة كالسهم وبعد ست دقائق أو أكثر قليلا كان الشخصية الهامة أمام مدخل بيته. وصل شاحبا، مفزوعا وبلا معطف إلى بيته بدلا من ان يصل إلى كارولينا ايفانوفنا، وجر ساقيه كيفما اتفق حتى وصل إلى غرفته، وقضى ليلته في اضطراب شديد حتى أن ابنته قالت له في صباح اليوم التالي، وهم يتناولون الشاي: "أنت اليوم شاحب جدا يا بابا" ولكن بابا لزم الصمت. ولم يخبر أحداً بما حدث له وأين كان وإلى أين كان ينوي الذهاب. لقد ترك هذا الحادث أثرا قويا في نفسه. بل انه أصبح نادرا عن ذي قبل ما يقول لمرؤوسيه: "كيف تجرؤ، هل تفهم أمام من أنت"، وحتى اذا قالها فما كان يفعل الا بعد أن يستمع اولا الى شرح الموضوع. ولكن الأمر الأجدر بالملاحظة انه منذ تلك الساعة كف الميت الموظف تماما عن الظهور، اذ يبدو أن أحدا ما ينتزع المعاطف من على الاكتاف. ولكن كثيرا من رجال الأعمال الحريصين لم يريدوا أبدا أن يركنوا إلى الطمأنينة وراحوا يرددون بأن الميت الموظف ما زال يظهر في أطراف المدينة البعيدة. وبالفعل فقد رأى أحد رجال الدرك في حي "كولومنسكي" بعينيه شبحا يظهر من خلف أحد المنازل. بيد أنه لم يتمكن من ايقاف الشبح، بل سار خلفه في الظلام إلى أن التفت الشبح خلفه أخيرا وتوقف وسأله: "ماذا تريد؟" وأظهر له قبضة لا تجد لها مثيلا لدى الأحياء. فقال الدركي: "لا شيء" وعاد أدراجه من فوره. بيد أن الشبح مع ذلك كان أطول بكثير ويحمل شوارب هائلة، ومضى متجهاً كما بدا نحو جسر :اوبوخوف"، ثم اختفى تماما في ظلام الليل                                                                                  

تمت
نيقولاى جوجول من آباء الأدب الروسى 1809-1852 . من أشهر مؤلفاته رواية النفوس الميتة . وقصته القصيرة المعطف . ومسرحيته المفتش العام .



مقطع من رواية ( فى البحث عن الزمن المفقود )

 للكاتب الفرنسى مارسيل بروست .. ترجمة الأستاذ محمد محمد السنباطى .
.......................................

[ عدت الى منزلى فى أحد أيام الشتاء , ورأتنى أمى مصابا بالبرد فاقترحت أن تقدم لى على غير عادتى قليل من الشاى . رفضت لأول وهلة . ثم غيرت رأيى بغير ما سبب معلوم . فأرسلت أمى فى طلب واحدة من ذلك الجاتوه الصغير المنقوش المسمى : مادلين الصغيرة . التى تبدوا وكأنها أحكم صنعها بين مصراعى صدَفة سان جاك , مخددين . بعد قليل , وبطريقة آلية , وأنا مثقل بنهار كئيب , ومرتقب لغد أكأب , رفعت إلى شفتى ملعقة من الشاى وقد تركت قطعة صغيرة من الجاتوه تذوب فيه , وإذ لمس الجاتوه فمى إجتاحتنى رعدة , وتيقظت حواسى تماما لما يحدث داخلى من عجب عجاب , فرحة غامضة , معزولة , لا أدرى لها سببا , زلزلتنى . صارت صروف الحياة بلا أهمية . ونكباته غير مؤذية , وملأتنى بجوهر ثمين ولك أن تقول أن ذلك الجوهر لم يكن داخلى , بل كان أنا , لم أعد أشعر من ساعتها أننى بين بين , أو أنى عارض طارىء , أو أنى من الفانين . فمن أين جاءتنى تلك الفرحة الكاسحة . خالجنى شعور أنها مرتبطة بنكهة الشاى والجاتوه . لكنها تجاوز تلك النكهه بمراحل غير محددة . ومن المؤكد أن الطبيعة هنا ليست واحدة . فمن أين جاءت وماذا تعنى ؟ وأين أطالها ؟ جرعة أخرى تناولتها فلم أجد أكثر مما وجدت فى أول مرة . والثالثة تجيئنى أقل من سابقتها . إنه وقت الإمتناع . تأثير الجرعة يتناقص . الحقيقة التى أنشدها ليست فيما أتجرع بل داخلى أنا . قام بإيقاظها داخلى وإن كان لا يعرفها . ويمكنه أن يكررها بلا عدد ولكن بقوة آخذة فى النقصان . لا تفسير لها عندى . تمنيت لو طلبتها مرة ووجدتها على قوتها الكاملة , ورهن إشارتى . وحالا . ووصولا لتوضيح حاسم . أضع الفنجان وأستدير ناحية عقلى . عليه ن يجد لى تفسيرا . ولكن كيف ؟ . بلبلة خطيرة . كل المرات التى يحس الفكر فيها أنه يتخطى ذاته . عندما يكون هو الباحث , ليس فقط بل المبدع . انه فى قبالة شىء لم يتحقق بعد . وأنه وحده من يستطيع تحقيقه ثم إدخاله لدائرة الضؤ . أعود فأتساءل ماذا تكون تلك الحالة المجهولة التى لا تخضع لأى برهان منطقى ولكن لبداهة غبطتها . ولحقيقتها التى لا تصمد أمامها غيرها من الحقائق . أحاول أن أعيد إظهارها . يقهقرنى الفكر الى حيث تناولت ملعقتى الأولى من الشاى . أجد نفس الحالة دون مزيد من الوضوح . أطلب من عقلى بذل جهد إضافى . واسترجاع الإحساس الهارب مرة أخرى . ولكى لا يفتر شىء الحماسة التى سيحاول بزخمها الإمساك بها مرة ثانية . رحت أزيل العقبات , وغرائب الأفكار . وأحصن أذنى وانتباهى ضد ضوضاء الحجرة المجاورة . لكنى وقد أحسست بفكرى يطال التعب وليس النجاح رحت أضطره على النقيض أن يأخذ طريق اللهو الذى كنت أبخل عليه به . وأن يفكر فى أمر آخر . وأن يهىء ذاته لمحاولة سامية . ثم مرة أخرى , أضع الخلاء أمامه . وأضع فى مواجهته نكهة تلك الجرعة الأولى . الحديثة لا تزال . وأحس بشىء كأنما يخلع وتاده فى العمق الهائل . لا أدرى من يكون . لكنه بطيئا يعلو . أسمع ضجيج المسافات التى يقطعها . بالتأكيد فإن الذى يخفق فى حناياى . ينبغى أن يكون الصورة , الذكرى البصرية , والتى بارتباطها بذلك الطعم , تحاول أن تلحق به , حتاى . لكنها تتجادل فى البعيد النائى , شديد الغموض , وبالكاد ألمح توهجا محايدا تختلط فيه زوبعة من الألوان لا يمكن فصل درجاتها و مقلقة , فلا أستطيع أن أميز لها هيئة , ولا أن أطلب منها , وهى المترجم الوحيد المتاح , أن تترجم لى شهادة رفيقها العمرى الملازم لها , شهادة النكهة , وأن تخبرنى ملابسات ومواعيد ثورانها . فهل يمكن أن تتصاعد حتى سطح وعيى البيّن تلك الذكرى وتلك اللحظة القديمة التى استثارتها جاذبية لحظة مطابقة لها تماما وأتية من بعيد بأن راحت تغريها وترفعها وتدفعها فى حناياى ؟ لا علم لى . الآن لا أكاد أحس شيئا . لقد توقفت وربما نزلت . من يدرى إذا كانت ستعاود الصعود فى ليلتها ؟ عشر مرات أحاول أن أجعلها تبدأ وأدفعها نحو ذلك . وفى كل مرة فإن نقيصة الجبن الذى يثبط منا العزائم ويبعدنا عن المرامى الصعبة . ينصحنى أن أتجنب هذا , وحين أرتشف الشاى , لا أفكر إلا فى متاعبى اليومية العارضة ورغبات غدى التى أجترها بلا ألم . وفجأة تنبثق الذكرى . الطعم كان لقطعة جاتوه المادلين الصغيرة , والوقت كان أحد صباحات الآحاد فى كمبراى ( فأنا لم أخرج فى ذلك اليوم قبل ساعة القداس ) . وعندما ذهبت الى حجرة عمتى ليونى لأقول لها : يوم سعيد , وقدمتها لى بعد غمسها فى الشاى أو التليو . رؤيتى لقطعة المادلين الصغيرة لم تذكرنى بشىء قبل أن أتذوقها , فكثيرا مارأيتها على رفوف محلات الجاتوه ولم آكلها , ثم أنه لم يتبق فى الذاكرة شىء من تلك التكوينات التى هجرتها فراحت أباديد وتملكها خدر النعاس فلم تعد قادرة على الإنتشار الذى يدفعها الى طريق الوعى ( ومن تلك التكوينات صَدَفَة الحلوى الصغيرة الشهوانية تحت تخدداتها الصارمة الورعة ) . وهكذا فإنه عندما لا يتبقى شىء من الماضى القديم بعد موت الكائنات ودمار الجمادات , فإنهما وحدهما : الرائحة والنكهة ( وهما الواهنتان الضعيفتان وإن كانتا المعمرتان اللاماديتان المثابرتان المخلصتان ) ولفترة طويلة تظلان كما الأرواح فوق أطلال كل ماعداهما . يتذكران وينتظران ويأملان , وقد حملت قطرتهما الدقيقة الرقيقة البناء الشاسع للذكرى . ]
( طبق الأصل ) 

الأربعاء، 18 يوليو 2012


قراءة فى المجموعة القصصية بعنوان ( أفق بلا حدود )
 للكاتبة غادة عيد
.....................................
غادة عيد كاتبة مفرطة الحساسية , تتميز بمعجم خاص تنتح منه ألفاظها , تنتقى موضوعاتها بوجدان أنثى شرقية بكل أشواقها المكبوتة , وأحلامها المحاصرة . وهى من الكاتبات اللائى حصرن إبداعاتهن فى قالب القصة القصيرة جدا .
والمجموعة المطروحة تتألف من أربعة أقاصيص تدور كلها حول موضوعات تتصل اتصالا مباشرا بالعالم القريب جدا من وجدان الأنثى , فالقصة الأولى بعنوان ( أفق بلا حدود ) تدور حول الحبيب وجدلية العلاقة الأزلية التى يحاول الرجل فيها فرض عالمه المتسع اتساع الكون , بينما تتوق المرأة الى التمحور حول بؤرة تجسد أشواقها , وتدور الأقصوصة الثانية التى لم تعطها عنوانا , وسأسميها ( مجون الجسد العارى ) , تدور حول ماء الإغتسال .. والإغتسال هو أحد الطقوس الحميمة للأنثى والموروث الشعبى يدخر ثروة  من الحكايات وأغانى الفولكلور التى تجعل من الحمام أيقونة من أيقونات عالم الأنثى الزاخر بالإيحاءات . كما يحمل التاريخ فى كل العصور ذكرى للحمامات فى مخادع الحريم والتى كثيرا ماصارت مسرحا للمؤامرات والحيل التى تضع نهايات مأساوية لقصص العشق . وتمثل الوسادة محور الأقصوصة الثالثة بعنوان ( وسادتى بيضاء ). والعنوان فى الأقصوصة جزء من السياق لأنه يصنع التضاد مع وسادة الأم التى أصبح لونها مصفرا من أثر البكاء , أما الأقصوصة الرابعة والأخيرة فهى حوار شفيف مابين القرط الذهبى وجيد الحسناء المعلق بأذنها .
سنتناول فى الفقرة التالية أولى الأقاصيص ( أفق بلا حدود ) بقراءة تحليلية نتلمس فيها تكنيك غادة فى انتاج القصة القصيرة جدا , وهو تكنيك نلاحظ أنه يتكرر فى غالب أعمالها .
والملاحظ أن غادة تدرك جيدا حدود وامكانيات القالب القصصى الذى تتعامل معه , فلا تتجاوزها ولو بقيد أنملة , فى الوقت الذى تفجر فيه الطاقات الإبداعية للقالب الى حدوده القصوى محدثة الأثر الإنفعالى المطلوب بلا زيادة ولا نقصان .
والقصة لا تتجاوز مائة وعشر كلمات رغم كونها أكبر قصص المجموعة , لكنها على قصرها تحمل شحنة موقوتة من المشاعر المتفجرة .
تبدأ الأقصوصة بجملة محورية .. ( ألبسنى رداءه ) فى إشارة الى مايمكن اعتبارة الحبيب المهيمن  .. ثم تبدأ فى الإرتحال فى موجات متتابعة فى الزمان والمكان مستخدمة مجموعة من الأفعال فى جدلية مابين الفعل  ( الماضى ) ..ورد الفعل ( المضارع غالبا ) كما يلى :
الفعل :  حملنى  /  جذبنى  /  طاف بى  /  غاص بى . وهى مجموعة أفعال تمهيدية تتصف كلها بمحدودية مجال الحركة .
رد الفعل :    إقتربت ألتقط إحدى اللآلىء . المضارع يوحى بالمقاومة . والجملة عموما بانصراف الذهن عن مجال الحركة .
ثم تعود دورة أخرى من الفعل وردة الفعل .
الفعل :  سبح بى  / سافر الى ..    الأفعال هنا تتميز باتساع مجال الحركة فى المكان فى تصعيد واضح للصراع .
رد الفعل :  هفا قلبى الى غدير بلادى . الفعل هفا يؤكد انصراف الذهن عن البلاد الغريبة والتشبث بالموطن رغم غرابة المغريات .
ثم تأتى دورة ثالثة وأخيرة من الأفعال وردود الفعل تؤكد تصميم الشخصية على التمسك بعالمها الخاص .
الفعل :  حملنى  / رمى بى   .  عودة الى الفعل الأول ( حملنى ) .. ثم للمرة الأولى فعل يتضمن المفارقة المادية ( رمى بى ) .
رد الفعل : تدور رأسى  / أتهاوى  /  أتعلق بالحرف .. عودة الى المضارع تأكيدا للمفارقة النفسية , وترسيخا للأزمة .
ثم تأتى الخاتمة :: ( قذفنى بعيدا ) .. وهو فعل يتضمن تأكيدا للمفارقة المادية والنفسية ..( خلع عنى رداءه ) .. عودة لإغلاق الدائرة التى بدأت بألبسنى رداءه .. ( ألقانى فى أفق بلا حدود ) . وهى نهاية متوافقة مع طبيعة الجدل الدائر على مدار عملية القص .. والأفق بلا حدود يفتح باب الدلالة . فقد يكون بل حدود بما يعنى الضياع والتيه .. وقد يحمل معنى تعدد الخيارات  .
فى الفقرة التالية سنتابع القراءة فى محاولة لتطبيق الإطار الذى اتفق عليه النقاد ليحتوى السمات التى تحدد كون العمل الأدبى قصة قصيرة جدا . لنرى مدى توافق الأقصوصة مع هذا الإطار .
1 – اللغة والصياغات التى استخدمتها غادة عيد تراوح وتمازج مابين النثر والشعر .. الصياغة نثرية لكنها مرصعة بالصور الشعرية .. ( حملنى على أعناق الحرف ) .. طاف بى جنبات بحره ) .ز هف قلبى الى غدير بلادى ) .
بالإضافة الى غلبة الطابع الغنائى الفردى على السرد باستخدام جمل قصيرة كثيفة توحى ولا تصرح .ز ( أتعلق بالحرف المائل نحوى ) .
2- الدلالة المنفتحة فالأقصوصة تعرض محنة أنثى مابين الإنتماء والإغتراب بصور تقرب المعنى وتنقل الشعور والإحساس , ولا تسمى مواقف أو تنقل أحداثا , مايفتح أفق التلقى الى العديد من الدلالات الممكنة والمتاحة .
3- الحضور القوى للراوى ( الشخصية المحورية ) بحيث تصبح جميع عناصر ثانوية بما فيها الرداء وصاحبه , ويقتصر دور باقى عناصر العمل على إبراز الإنتقالات الانفعالية للشخصية المحورية .
4- يبقى العنصر الأهم من بين جميع العناصر وهو غلبة وشيوع الجمل الفعلية على الجمل الوصفية , والاعتناء بالحدث على حساب الانفعالات .. وهو العنصر الذى نرى أن غادة قد أخلت به بعض الإخلال الأمر الذى أدى الى بعض الترهل فى النص .
نلاحظ أن النص الذى لا يتجاوز 110 كلمة قد تضمن 22 فعلا بما يقترب من الربع . وهذا ما حقق للنص زخمه وتدافعه فى اتجاه البؤرة , لكن يلاحظ أيضا شيوع الجمل الوصفية التى ماكان للنص أن يختل فى حال عدم وجودها . مثال : ( لآلىء منثورة هنا وهناك , شطوط بعيدة , وأرصفة مهجورة ) أيضا .. ( فيلة تتهادى تغمرنى بالفرحة ) . أيضا ..( عبث ومجون , حب وجنون , حرية بلا قيد ) .. نرى أن تكرار الجمل الوصفية أضعف التيار المتدفق للقص .. وأضاف عبئا بدلا من أن ينمى التصاعد فى اتجاه النهاية , فى الوقت الذى لم تضف الجمل المشار اليها أى قيمة للنص حيث أنه متضمنه فى السياق .
فى النهاية أرى أن لغادة إسهاما لا يمكن إغفاله فى مضمار هذا الفن الذى فرض نفسه على الساحة الأدبية فى مصر والعالم .. والذى صنع آلياته وجمالياته . وربما تصبح غاده عيد - مع بعض العناية بالصياغات من الناحية اللغوية – من رائدات هذا الفن الرفيع , فن القصة القصيرة جدا .
                                                   محسن الطوخى
                                                  19 / 6 / 2012

*********************************************


قصص قصيرة جدا 
بقلم : غادة عيد
......................................
(1)

أفق بلا حدود .
........................


ألبسنى ردائه حملنى على أعناق الحرف المضطرب كموج البحر الثائر,جذبنى نحو الأعماق ,طاف بى جنبات بحره الواسع,لآلئ منثوره هنا وهناك,شطوط بعيده , وأرصفة مهجوره,غاص بى نحو الأعماق ,أقتربت التقط إحدى اللآلئ سبح بى بعيدا ,سافر الى بلاد غريبة ,موطن جديد لم تطأه قدماى , هفى قلبى الى غدير بلادى,حملنى بحكاياه الطويله الى بلاد الهند ,فيله تتهادى تغمرنى الفرحه,رمى بى الى أقاصى النوبه,حملتنى الكلمات الى نهر النيل,عبثا حاولت الوصول الى مركبى,قذفتنى الامواج نحو الهادى بسفنه العملاقه ,الى بلاد السفور,عبث ومجون , حب وجنون,حريه بلا قيد ,تدور راسى أتهاوى أتعلق بالحرف المائل نحوى,قذفنى بعيدا, خلع عنى ردائه, ألقانى فى أفق بلا حدود .


(2)



مجون الجسد العارى .
................................

سلمت الجسد المنهك لذرات الماء الكثيف التى تنهدل على رأسها ,تمنت أن تغتسل من ذنوبها, تتساقط مع حبات الماء المنسابه ,نظرت اليه فى ذهول وكأنها ترتمى بين أحضانه طالبته أن يزداد أنهمارة فوق كتفيها العاريتين, أن يحمل ما بهما من مجون ,أن يعرى ما بهما من آثام ,أن ينتفض كجمر النار ليحرق شوقها العارم الى عبثه ,الى خمره, الى سكون جسده المتقد ,ضن عليها, توسلت اليه أن ينهمر , أنسحب من بين أصابعها رويدا وتركها تغوص فى مجون الجسد العارى .


(3)



وسادتى بيضاء
........................

أشتهى لونها الابيض , تشتاق عيونى لتراه لترتاح عليها ,من عناء يوم طويل, تجذبنى اليها كمغناطيس ,لا تترك لى الاختيار بل تجبرنى على الولوج اليها, والاستمتاع بنعومتها وسحرها الفتان,ترمينى بسكرات النعاس ,فتحملنى على بساطها المسحور الى عالم الأحلام,تحكى لى عما فاتنى من روايات جدتى,وأحلام أخوتى الصغار , ودموع امى فى ليالى الشتاء الطويل, وكيف أصبح لونها مصفرا من أثر بكائها , وهجران أبى لمخدعه بعد حوار المال المرير, تضحكنى أحيانا وتؤلمنى كثيرا, تعدنى بنوم هادئ , وتؤرقنى الليل كله, تتلون بالوان فرحى , ودموع حزنى بنشوتى وندمى بصفائى وعتمتى


(4)


قرط ذهبى .
..................

قرط ذهبى,يتدلى فى أذنها فيزيد أشراقة وجهها ,وهجا يعكس براءة الطفل بداخلها, يشتكى من حركتها الدئوبه, والتفات رأسها يمينا ويسارا ,ينشد الراحة على خديها وفوق رقبتها المرمر دون أهتزاز ,يرهقه كثرة النظر اليه,فينحنى مختفيا بين خصلات شعرها ,تداعبه نسمات الهواء يتطاير فيبتسم معلنا عن بريق يأخذ اللب ,ثم يعود يسترق النظرات بين خصلاتها السوداء تفتش عنة بأبهامها ,يضوى مع أنعكاس قرص الشمس ,تتلاقى العيون فيخفت شعاعه خشية أن يلامسه أبهام الأخر .
,

                                                                                                          غادة عيد


قراءة فى القصة القصيرة: ( بحيرة )
للأديبة حرية سليمان .
بقلم : محسن الطوخى
.......................................
عاشقة البحيرة . رغم أنها – البحيرة – قد ابتلعت أقرب الناس اليها . رفيق الدرب ..أخذته عشقا . ( لكنها كانت تحبك .. وحتى عندما أسرتك لم تعذب روحك ...... ) .. أو أخذته بذنب اللآخرين .
الراوية تحمل غصة تجاه  البحيرة لكنها لا تكف عن عشقها كما عشقت يونس . وكلاهما كان يمنح نفسه للآخر بلا حدود ( كنت تضاجعها يوميا فتلد لك صباحا غلاما جميلا كانتشاءات الربيع ).. وما انتظارها الدائم لامتلاء البحيرة . وما تشوفها لعودته وانتظارها مجيئه الا تعبيرا عن هذا العشق  . وشغفها لعودة الحياة – المياه -  اليها بعد الجفاف الذى طال أمده . كأنما بات يونس والبحيرة قرينان فى ذهنها .
وما تفاصيل غرق يونس التى سجلتها الكاتبة على لسان الراوية  ببراعة نادرة بمشاهد تدب فيها الحياة . ولغة جريئة لاهثة  . الا تفاصيل انسحاب البحيرة وجفاف مائها . وانحسار العلاقة الثلاثية فى واقع القص . الثنائية فى ادراك الراوية .. حيث سنرى الى أى حد توحد يونس والبحيرة فى كيان واحد لديها .
والقصة تتضمن محتوى أخلاقى سربلته الكاتبة بالغموض ( أما هم فقد احترفوا الكذب فذهبوا وما عادوا .. ) . . البيئة التى تدور فيها الحوادث بيئة ساحلية تشبه بيئة القرى والمراكز التى تحتضن البحيرات السبخة على سواحل المتوسط .. الخير فيها وفيرا  ( لم يكن الطعام حتى بمشكلة ) .. لكن البشر – ربما – لم يكونوا شاكرين للنعمة . ( يتبادلون السجائر والنكات والطاولات ) .. فبدأ الرجال يذهبون بلا عوده .  تبتلعهم البحيرة .. وذلك مما يتواءم مع ثقافة البسطاء الذين يرجعون كوارث الطبيعة الى أسباب تتعلق بالعقاب على مايرتكبه البشر من آثام . لكن يونس وحده يعود . منكمشا كعجوز . لا يميزه الا استحالة أن يكون أحدا غيره . ينقر مابين فراغات الشعر . رغم الزمن الذى مر . ورغم فقدان البصر . اذ كانت تتمتع بالبصيرة النافذة ( أخبرتهم بعودة مطر . وعاد . ورحيل جمال . ورحل ..... الخ ).  فعودة يونس اذن هى ايذان بانتهاء المحنة وعودة البحيرة للبوح من جديد .
أما القصة الموازية لرحلة جفاف البحيرة .. تلك القصة التى جمعت الراوية بيونس فهى قصة مترعة بالشفافية والجمال .. هى قصة رباط العشق الحر .. والعلاقة تحسها علاقة نفسية وجدانية أكثر منها علاقة حسية .. يونس الذى يشارك الراوية التخاطر .. والذى تميزه بالحلقة الحمراء ثبتها بقدمه اليسرى ..ذلك العشق الذى التحم بالبحيرة فلا تستطيع الا ان تستحضرها فى ذهنك عندما تقول الراوية ( ثلاثتنا ) .. والكاتبة ملكت القدرة على أخذ القارىء من ناصيته وغمر ساقيه فى الماء ليشعر بقشور الأسماك تخمش ساقه ويتذوق طعم الماء المالح من ركلات يونس .. ويستشعر نعومة الطمى تحت قدميه .. ويدهش لمهارة النوارس اذ تقتنص فرائسها . ويعاين بنفسه يونس تبتلعه البحيرة ولوعة الراوية اذ تحدق فى المجداف الوحيد الطافى .. وقد الجمها القدر الصاعق . اذ تتحقق نبؤتها فى لحظة عنفوان وتأجج المشاعر .
القصة مترعة بالجمال والشفافية . تتضمن جوا أسطوريا يتناسب مع بيئة البحيرات بموروثاتها الشعبية التى تشكل وجدان قاطنيها .. استخدمت الكاتبة عناصر البيئة مضفورة بالموروث لتجعل المكان حاضرا بقوة بجميع خصائصه .. كجنية البحر التى تعشق المختارين وتستدرجهم ليقعوا أسرى العشق . ثم تأخذهم بلا عودة . أيضا الايمان بالتخاطر . وانتظار عودة الموتى يحملون البشارات . اضافة الى الموروث الشعبى الذى يؤمن بقدرة البعض على توقع الغيب .. ( مكشوف عنهم الحجاب ).. ضفرت الكاتبة الموروث الشعبى بعناصر البيئة المحلية كشباك الصيادين .. وقوارب الصيد والنوارس بعيونها الصقرية  . الأمر الذى جعل المكان بمثابة شخصية مستقلة متفردة من شخوص القصة .. ( وصارت علامتنا المائية التى تميز ثلاثتنا ) . حتى عندما تشير اليه الراوية فى مطلع القص فانها تستخدم تعبيرا يشى بالحميمية والتشخيص . ( تلك الزرقاء ) . هذا الحضور القوى للمكان مكن وعى المتلقى من استقبال بؤرة القص . ذلك الحدث الاستثنائى الا وهو مجىء يونس من الموت باعتباره من عناصر الواقع .
استخدمت الكاتبة لغة شاعرية محملة بالايحاءات .. أعطت ابعادا أكثر اتساعا لفضاء النص .. وساهمت الى حد كبير فى تجسيد الجو شبه الأسطورى الذى يقترب من أساليب الواقعية السحرية . لاحظ العبارات التالية وما تحمله من ايحاءات وتضمينات :
-         الدوامات الندية من الذكريات .
-         وكالنزناز يباغت غفوتى .
-         ينقر مخابىء الذاكرة .
-         رحل متسربا بين جدائل تلك الزرقاء .
-         أصر أن يكون فصلا جديدا من فصول البوح .
-         تركتنى وتسربت كما الحلم للداخل .
تلك اللغة الشفيفة الموحية . فى اطار تكنيك يراوح ويبادل بين أساليب القص أعطى القصة قدرة على التدفق الى وعى المتلقى المشارك بالأحداث وكأن روح المكان قد تلبسته . فالكاتبة القديرة تنتقل بسلاسة ونعومة مابين ضمير الغائب فى عموم السرد . وضمير المخاطب فى مناجاة مع طيف يونس الذى يتساوى فى قوة حضوره مع الواقع .
كما انتقلت الراوية فى الزمن فبدأت من بؤرة الحدث . طرقات طيف يونس على سطح الوجدان .. وتهيؤها لملاقاته بعبائتها الزرقاء والرقعة والكشاف لهدايته الى الطريق . ثم انتقلت الى أزمان أقدم لتروى أسطورة التلاحم الساحرة بين ثلاثتهم . يونس والبحيرة وهى .. وليسمتع المتلقى ببوح البحيرة .
                                                     محسن الطوخى

*******************************************


            بقلم: حرية سليمان

قصة قصيرة بعنوان ....( بحيرة .. )

لسنوات متصلة ظل يأتينى برغم استحالة العودة .. واستحالة رؤيتى له من جديد لفقدانى البصرولكنه بالفعل تغيركثيرا.. ثقلت حركته ، اختلف صوته ، انكمش كعجوز مثلى تماما ، وهذا ما أدركته حين ضممته لصدرى ، يمكننى تحسس عظامه كما يمكنه فعل المثل معى ، صرنا أقرب لهيكلين عظميين نمارس رياضة نفسية من نوع ما ، لم يعد يميزه الا استحالة أن يكون أحدا غيره ، من سواه يأتى بتلك الظروف ، من تراه يرسل هذا الصوت وتلك الدوامات الندية من الذكريات ، كان الخوف من فقدانه هو الشيطان الذى يزورنى ليلا وكالنزناز يباغت غفوتى ويبطل صلاتى ويفسد تسبيحى ويحيلنى ماجنة بانتظار توبة ويستحيل هاجسا ينقر مخابئ الذاكرة الوهنة فيستدعى تلك الصورة للزمن الذى رحل متسربا بين جدائل تلك الزرقاء الهادئة التى طالت غفوتها ورقادها وتنتظر الآن قبلة حياة ، أصر أن يكون فصلا جديدا من فصول البوح برغم جفافها وانتظار ما ستهبه بعد انتهاء صومها إن قدرت لها الحياة بكل صبر وأناة برغم تمزق النسيج المتقاطع للِشباك المتوسدة جدران البيوت والمفترشة الممرات الساكنة والأحجار الجيرية بين الطرقات ، أى خيط جرئ الآن يقدر على لملمة أجزاءها وقد تفرقت وتباعدت واهترأت كنسيج متحلل ، وصار كل فتق فيها بطول ذراع وعمق ذراعين ،ولكن برغم جفاف الصورة وشحوبها إلا أن صيحته تشق دوما وحشة السكون و تبارك ولادة الخيوط الأولى للفجر فتعود لى الروح من جديد فأنفض غبارا ثقيلا لزجا عن نفسى وأعربد فى الفراغ المتسع للحجرة بحثا عن عباءة سماوية بلونها لأرتديها و قطعة قماش بيضاء لأشير له بها وكشاف ضوئى ان فكر مرة بالمجئ مبكرا على غير المعتاد .

مسرعة أدس نفسى بعباءتى الزرقاء ، حافية أقطع الحجرة ، أحرر المزلاج ، أركض باتجاه الخارج وأتنفس ، أشير له تارة برقعة القماش البيضاء أو أرسل تلك الومضات المتتابعة بشكل دائرى باتجاه عقارب الساعة أحيانا وأحيانا عكسها ، لأتفاجأ به فوق رأسى ينقرمابين فراغات الشعر ، كان لزاما على أن أصدق بأنه عاد وأنه قادر دوما على الرجوع وقتما شاء .. برغم انعدام قدرتى على تتبعه كما بالماضى كفتاة عشرينية جموحة على حافة زورق مستعيدة توزانى بلحظات ، كانت تلك الحلقة الحمراء مايميزه عنهم جميعا أيامها ، ثبتها( يونس) بطرف قدمه اليسرى ، وصارت علامتنا المائية التى تميزثلاثتنا عن غيرنا من الباحثين عن أنفسهم بالغيروالموقنين بفكرة التخاطر أو التلاحم أو الاستنساخ أو أياَ كان المسمى .. والآن لم يعد منهم سواه وصارت الحلقة كخاتم زواج يربطنا أبداً .


وجدتنى أجدف بقارب فى بحر من رمال ، أجدف فتعلو ، أجدف فتعلو، يكشر عن أنيابه بموجة غاضبة تصر على ابتلاعه وتفعل ، فيعود يظهر ثم تلتهمه من جديد ويظهر ثم تعلو لتلتهمه ويعود أخيراً لا يظهر، كان المجداف على السطح هو الإشارة الوحيدة المتبقية لقارب ما كان هنا واختفى ، لا إشارة لكائن حى نافق أو بانتظار الموت ، قلت له يومها سيحل الجفاف ، نظر إلىّ وتهكم ، قلت : لا تعرف رؤاى ، أخبرتهم بعودة (مطر ) وعاد ورحيل (جمال) ورحل ، أخبرتهم بولادة( خاطر) ووُلد وموت (ياسين) ومات ، أخبرتهم بجنون (سعاد ) وجنت وزواج (غرام) فتزوجت، أخبرتهم عن جنية سيأسرك جمالها وقد كان ، ألم تخبرنى بأنها عشقتك لثمان سنوات متصلة بعدها ، كنت تضاجعها يوميا فتلد لك صباحا غلاما جميلا كانتشاءات الربيع ، كنت تضحك منى ، سألتنى وقتها وماذا بعد فوجمت ، أظنك أدركت أنك ستفارقنى ، وفارقت .

غائمة كانت هى الشمس يومها ولم أجد بى رغبة فى اقتفاء أثرها ، ربما كانت هى من يفعل ذلك فتتجنبنى ، لم تصدر ماينبئ عن شروق مميز منذ زمن بعيد ، كانت قديما كعروس بليلة الحناء ، مشتعلة الوجنتين دافئة المشاعر موحية بقبلة ، كانوا هم الآخرون يتندرون ، ويتصعلكون بالنواصى متفكهين بعد أسبوع حافل بالبحيرة .. يتبادلون السجائر والنكات والطاولاتلم نتعود الجفاف ولا ندرة الأسماك ، لم يكن الطعام حتى بمشكلة ، يمكنك أن تتخذ قاربا من تلك القوارب المسترخية بعيدا بالشاطئ والذهاب هناك ولن يسألك أحدهم عن وجهتك ولا حتى لمن هذا القارب ، جدف لأى عمق كان ، أو فلتبق على الحافة ، كنا نشعر حركتها بالأسفل تتحرك بين أقدامنا ، تندفع وتتداخل فتخمشنا قشورها وزعانفها ، كم كانت أعدادها كبيرة وهى تهرب بكل اتجاه ، كنا نذهب معا ، أمسكت يدى يومها ، أحسست بدفء القاع ونعومة الطمى وانحساره تحت قدمى ، اقتدتنى مسافة كبيرة للداخل ، كان يحلق فوقنا ، أتذكر تلك النظرة الثاقبة بعينيه واندفاعه نحوها ، اظنه اختفى لثانية وعاد وقد امتلأت حوصلته ، أتذكر نظرتك لى وانت تدندن ذاك اللحن اليونانى لزوربا ، قبلتنى ، تركتنى وتسربت كما الحلم للداخل ، مازال لحنك يداعبنى ، منحتنى ركلات قدميك بعض القطرات بين شفتى بينما انخرطت ضاحكا واندفعت للداخل من جديد ، بدت ملامح البحيرة ممتدة كما السماء يعانقها خط الأفق ، يعكس بريقا فضيا مثيرا ، ظهرت رأسك من بعيد ككرة تسبح تطفو فوق الماء ، كنت أناديك ، كان يحلق فوقك ، كنا نتتبعك ، لكن ماعدت ، وعاد هو ..

عندما بدأوا يخرجون ثم لا يعودون قلت لك أنها غاضبة ، اختفى الرجال ولم تعد النسوة يفتحن الأبواب ، احترفن غلقها بالمزاليج ، كن يتلكأن حين نقرعها لنسأل عن من خرج ولم يعد ، كن يخفين الطاولات ويتجنبن الشواء والحديث والابتسام وكل شئ ، صارت الريح تصفر مرسلة صخبها بلا انتهاء ، تضاجع الأبواب والشبابيك يوميا بنهم وتنفذ عبر مسام الِشباك ممزقة أحلامها بالاحتواء ، أخبرتك أنه الجفاف آت، لكنها كانت تحبك وحتى عندما أسرتك لم تعذب روحك وأطلقتها بسلام ، كنت حبيبها وفقط ، أما هم فقد احترفوا الكذب فذهبوا وما عادوا ، ليتها عرفت ذلك فأعادتك لى ولم تأخذك بذنبهم ، كان هذا موسمها الأخير لأنها بعدها صمتت للأبد .                                         27/5/2012 

نشرت فى حديث العالم بتاريخ 5 يونيو 2012





سوسن

قصة قصيرة

محسن الطوخى
.................

     كل ماقيل عن سوسن لم ينجح إلا فى دفعه إلى اعتراض سبيلها . حتى عنما ترك دراسة الطب وتحول إلى دراسة الآداب , أقنع نفسه بأن ذلك لم يكن بسبب سوسن ,  إنما لنفوره من مشهد الدم . ولما لمحها بردائها البسيط , وجدائل شعرها الفاحم فى أروقة الكلية , ظن أن الحصول عليها بات وشيكا . لكن التردد الجم خطواته . ليس فقط بسبب ما أشيع عنها , لكن لأنه بطبيعته كان ميالا للعزلة , عزوفا عن فتح قلبه للآخرين .
     فى اللقاء الأول , سقط فى عينين ليس لهما قرار . إبتسمت له ابتسامة , قدر أنها ليست ابتسامة عابرة . وعندما تناول يدها الصغيرة الماهرة , همست أناملها أنه سوف تجمعهما قصة من عدة فصول . إستردت يدها بلطف , فكأنما علق بيده شيء من ملمسها . حين استدارت ومضت , قالت هيئتها : أنا فتاة خطرة .. لا تقترب .
................
     لن تتخيل أبدا العوالم التى سوف تلجها , والناس الذين ستقابلهم مع سوسن . سوف تستدرجك بنعومة لترى مالم تكن تتوقعه . وعندما تحتويك , ويتسلل عبير شعرها الطازج إلى حواسك , ستفسر نظرات الناس التى طالما حرت فيها , وستدرك كل الأشياء المبهمة التى حلقت حولك فى أزمان سابقة . وكأن ألف عين تنبت لك , وألف أنف . وعندما تنال القبلة الأولى , لن تهنأ بالعيش بعدها , حيث أنك لن تستطيع أن تبتعد ولن تستطيع أن تقترب أكثر . ستحافظ بالكاد على مسافة الالتصاق .
.................
     - هل التقينا من قبل ؟
كانت هى بصوتها العذب التى ألقت السؤال .
ما برحت تلح على خياله منذ تفرقت بهما السبل  . تحركا بعفوية بعيدا عن تيار الحركة بالميدان الصاخب . لابد أن عينيه لمعتا ببريق الشغف وهو يقول : أنت سوسن .
لم يعد هناك مجال للتردد الذى أقصاه عنها طوال زمن الدراسة . كانت الابتسامة المشجعة تملأ صفحة وجهها .
...............
     فى كل مساء كانت سوسن تصحبه إلى عالمها , ومعارفها الكثيرين . بدا عالم غير حقيقى ,  كتلك العوالم التى تقبع فى بطون الكتب . لمح فى زاويتى عينيها اعجابا , ماكانت لتسمح بأن يبدو صريحا . وشيئا فشيئا فقد الزمن خواصه . تداخلت الأزمنة التى لم يكن فيها لسوسن وجود بتلك التى عرفها فيها . ثم تعلم كيف يغار على سوسن , وكيف يشتبك فى عراك , ويلهث فى سبيل الفوز ببريق الإعجاب . ثم بدأت الأشياء تبدو كما لو كانت تتجلى للمرة الأولى . وعندما قدر أن أعمارا كثيرة مثل عمره لن تكون كافية لالقاء النظرة الأولى على كل تلك الأشياء المتجددة , بدأ يفكر فى سوسن  بأسى , اذ لن يكون من السهل  - بعد - أن يكون لصيقا بها , فسوسن لن تمنحك الفرصة أبدا لأن تنظر بعيدا .
     لم تكن لحسن الحظ من أولئك النساء اللائى يفْرِطْن فى التمسك بحب قضى . وكانت على درجة من الفهم بحيث لم يكن من السهل جرح مشاعرها .
قيل أنها دائما ماكانت تجد السلوى فى حب جديد . بل قيل أيضا أن الرغبة التى تدفع  الرجال لهجرها , ماهى فى الحقيقة الا رغبة سوسن نفسها .





كونترالتو                                                         قصة قصيرة : 
محسن الطوخى
..........
إحتجت لدقائق كى ألتقط أنفاسى , لم يعد من السهل ارتقاء خمسة طوابق , للكهولة أحكام لا يمكن تجاهلها , أحدث الباب الخشبى صريراً ورأيت رأفت يغيب بين ذراعى الشيخ , وقفت متردداً حتى حان دورى فقَبضَ على كفى بحميمية أزالت الوحشة واحتوتنى طيبته وسماحته , قادنا بقامته نصف المحنية إلى الغرفة الوحيدة عبر الردهة المعتمة التى راقبتنا من أركانها ستة عيون طفولية لا أثر فيها للدهشة . إعتلى الشيخُ فراشاً فقيراً منخفضا يتصدرُ المكان ويشغل معظم فراغ الغرفة فى حين اتخذتُ ورأفت مجلسينا , انشغلتُ بتأمل الحوائط الغفل من الطلاء , والأثاث المتهالك , والشيخ نفسه بردائه المنزلى البسيط . عندما دعانى رأفت إلى مرافقته للقاء الشيخ تصورت رجلاً معمماً , لم أفطن إلى أن الشيخَ لقباً لا مهنة , إنتبهت إلى دعاء حينما وجه إليها الشيخُ دعابة على سبيل التعريف , كانت مكومة على نفسها فى الركن القصى للفوتيه , ضئيلة , منشغلة بتأمل أظافرها , تبادلنا كلماتَ مجاملةٍ ثم توارت عندما اشتبكتُ مع الشيخ فى جدل حول الأحداث الجارية . قاطعنا رأفت : هل اجتمعنا لنفسد الأمسية بالجدل السياسى ؟ , نظر الشيخ الى الفتاة وهمس : لتخرجنا دعاء من هذا الهم . , تمنعتْ قليلاً ثم لانت وشبح ابتسامة باهتة حيية يطوف بشفتيها , أشار إلىَّ الشيخ : هلا ناولتنى العود ؟ . إنتبهت إلى أنى كنت أتكىءُ عليه ظناً منى أنه امتدادٌ لمسند الفوتيه المتهالك , تناوله بابتسامة واسعة وفض عنه غلافاً قماشيا بلون الفوتيه , إعتدلت دعاء , إحتضن الرجل استدارة العود كأنما يحنو على حبيبةٍ , أقامت دعاء ظهرها , جرت أصابعُ الشيخِ بضرباتٍ عشوائية على الأوتار يضبط المقامات , وبنظرة خاطفة , وإيمائةٍ من الفتاة كأنما اتفقا على المقطوعة , إنساب اللحن بينما أغفى الرجل مغمضاً عينيه منفصلا عن المكان , لم أنتبه لدعاء , ولم أتوقع أكثر من المتعةِ التى سرت فى خاطرى على وقع ضربات الريشة الرشيقة بين أصابع العواد , عبقت الغرفة بغتة بزخمٍ شجىْ ألغى ثقل جسدى فخلصْتُ لثوانٍ من المقعد الضيق , وتحَررَتْ ركبتىَ المغروستان فى الحافة  الموزايكو  للمنضدة العتيقة التى صفت فوقها أكواب الشراب , ثم عاد كل شىء كما كان , لم أفطن لما حدث إلا عندما عادت دعاء تصاحب اللحن بترنيمات تمهيدية تُجاوبُ بها الإيقاع . أشاعتْ طبقة الكونترالتو العميقة الدافئة موجة من السحر غمرت المكان وراحت تنحسر على مهل من خلال مسام الروح , كأنها إنما كانت تؤهلنى للسباحة عبر الأثير حالما انسابت دعاء تشدو .. ( إن كنت ناسى .. أفكرك ) .. كانت دعاء حينذاك تشغل فراغ الغرفة , وكنت أرى رأفت والشيخ , ودعاء نفسها من مكان قصى خارج الزمن , إستعدت اللحن مرارا , تألقت دعاء وسَطَا وهجُها على المكان , وعندما تأهبتُ للمغادرةِ لم أكن أرى إلا بسمتها الصبوحة وجدائلها السرخسية , وألق عينيها , لم يكن لشىء سواها مكان فى مجال البصر .
................
الأسكندرية 
8/6/2012

الأحد، 11 مارس 2012

قصة قصيرة


 لقــــــــــــاء

  قصة قصيرة
  محسن الطوخى
...................

طيف من الماضى بزغ بغتة فوق سطح الذاكرة . الوجه جد مختلف, والصوت. النظرة المثابرة فقط تحمل مذاق الأيام البعيدة .  لابد انها كانت تطل من عينيه منذ البداية , منذ قدم نفسه بوجه مبتسم , لا علاقة له بوجه ذلك الصبى الوسيم الحيى , وقال : لن تتعرف على بسهولة .
لم يكن ثمة مكان فى ذاكرتى للوجه الباسم , والشعر الناعم رغم بدايات الشيب . أعرف أن على أن أجرد الوجه من تفاصيل السنين . أرفع تلك التجعيدة من تحت العينين , وأزيل الثنيات من زاويتي الفم , وأستر مقدمة الرأس ببعض الشعر . ابتسم وقال :
-        قطار أبى قير .
لعلها كانت حين نطقها تطل بنزق  , وربما زمت شفتيها بغضب . أعلم الآن أنها كانت طول الوقت هناك , تتعلق بالأهداب . ولما نطقها ضاقت الفجوة , وهو هناك على مسافة أشبار من وجهى , يستمتع بامارات الحيرة . وقطار أبى قير يرتع فى ذاكرتى , فيلملم كل فتافيت الحكايات . بدايات الصبا , العشق والهجر . لكن أى من أولئك الذين احتواهم العمر فى الزمن الغض لم يكن ليطابق الوجه المدور الوسيم وهو يدنو ويحفزنى . وهى , ماجرؤت على الظهور لتهبنى اشارة . مراوغة كعهدى بها وأنا أسطر اليها أشعار جبران , وأدبج لها من أشعارى الساذجة قصائد من مئات الأبيات . أجفف الأزهار وأدسها بين رسائلى . وهى تميل على كتفى فى مماشى المنتزه الخالية وتغنى لى ( بعيد عنك حياتى عذاب ) , فأصدقها . وفى الصباح تقبل الى محطة القطار وذراعها فى ذراعه.(عباس) فتى حيى , رصين , كهل فى الخامسة عشر . حين يحتدم الشجار بين فرق المدارس , أقذف اليه بحقيبتى , وأدخل المعمعة , أبحث عن كدمة فى الرأس , أو خدش يعلن أنى لم أتخلف عن العراك . وأعود , فيقدم لى الحقيبة ولا يقول شيئا . يرمقنى فقط بنفس الاعجاب الذى نرمق به الكبار وهم يتخاطفون البنات الأجمل . أضع ذراعى فى ذراعه , وأحيط خصرها بذراعى الحر , فتقول : أصر على مرافقتى الى المحطة . وتشير اليه بطرف ذقنها . فأضحك : ملاكك الحارس . تضحك بنزق وتداعب خصلة الشعر الناعمة التى تتهدل فوق جبينه , فلا يتكلم , يبتسم فقد بحياء صبية , وينظر مباشرة فى عينى بنفس الاعجاب الذى يتطلع به اليها , ولا يتركنا بقية اليوم . فقط عندما نتخاصر ونوغل فى أحراش البرتقال , يجلس بسكينة الى جوار حقائب الكراسات . وفى موعد انتهاء اليوم الدراسى يقول لى : سأرافقها الى بوالينو .
قطار أبى قير .. هذا العالم الزاخر .. أين أجدك فيه ؟ .. وأنت بالذات , استدارت الأنا ومحتك محوا , وأسقطتك حيث ترقد الأشياء الميتة .
ابتسم كالمحرض وقال : شارع بوالينو .
وانبثقت ليلى كالنور , تقفز وتصفق بسرور مثلما فعلت فى ذلك اليوم البعيد . فوق جزيرة نلسن , النوارس تحلق وتنقض ولا ظل حتى لرضيع . انطلقت تصفق بحبور , كأن العالم كور فى قبضة واستقر فى كفيها .. شارع بوالينو ..بالساعات قبالة الشباك المغلق , أثر وشاية . أعرف أنها هناك , وأنها ترانى من خلف الشيش . وأعرف أنك هناك فى مكان ما , أشعر بك ولا أراك .
هل بدا كل ذلك فى عينى عندما انفرجتا على اتساعهما وهتف لسانى قبل أن أدركه : ( عباس ) .. وابتسمت أنت بظفر . ولم أعثر فيك على الصبى الوسيم الحيى . لكنى رأيتها تطل من عينيك بنزقها القديم ... ( عباس ) .. وعدت أقف على عتبة الحياة التى خلفتها ورائى من ربع قرن . القميص ( لينو الشوربجى ) على اللحم فى برد يناير , وقطار أبى قير يلفظ ما بجوفه من صبية وصبايا , تلتقطها عيناى وسط الزحام , ننتحى جانبا , ونفترق على موعد , وتنادى قبل أن تمضى : ( عباس ) , فتناولها أنت الحقيبة , وأدس ذراعى فى ذراعك , وأنظر فى عينيك الجميلتين , وصمتك الغامض .
وعندما قلت ( شارع بوالينو ) .. وهتف لسانى ( عباس ) ..سمعت فى أذنى غطيط القطارات , وصخب البيع والشراء , والشباك المغلق , وجزيرة نلسن , وأحراش البرتقال , وهاهى ليلى تطل من عينيك , تصفق بمرح . ولما تناثرت فى المكان نتف الذكريات , شددت على يدى وابتعدت , وسؤال حائر يحوم ويحوم , دون أن يطرح نفسه .

                                                                                                            محسن الطوخى


                -------------------------------------------