أصيل (3 - ؟ ) ... أنور جعفر
منزل أنور جعفر . شقة عادية بالعقار رقم 6, شارع شادى عبد السلام , بميامى . يشملك لحظة دخولك شعور عام بالنظافة , والنظام , والذوق الرفيع . هى سمات ترجع بالتأكيد الى سيدة المنزل . سيدة نوبية دقيقة الجسم والتكوين , تتمتع بوجه تشع منه السماحة والألفة .
النظام والهدؤ والارستقراطية فى السلوك , هم روح هذه السيدة الفاضلة تسرى فى المكان , وتسرى بالتأكيد فى أنور نفسه , وكان اذاك على مشارف الستين , يستقبل القادم بحفاوة لدى الباب , بعد لحظة من انفراج الشراعة , وابتسامته المبسوطة تملأ وجهه. يخطو الضيف خطوتين لا أكثر ليجد نفسه فى الصالون عبر الصالة .
عندما عرفت طريقى الى الصالون , لم يكن يضم غير عدد قليل من أدباء ومثقفى اللأسكندريه . أذكر منهم مصطفى نصر , ود. مصطفى عبد الشافى , وعبد العزيز عبد الشافى , وأحمد مبارك , وأحمد فضل شبلول . وربما خلطت الذاكرة بين من حضروا الصالون وبين من انضموا لاحقا فى مرحلة المقاهى الا أن ذلك لا يغير من جوهر الأمور .
كنت خلال خدمتى الطويلة فى الجيش قد هجرت الأدب مرغما , أقرأ بنهم فى جميع الموضوعات , لكنها قراءة غير موجهه لا تضبطها خطة ما . أرتقت القراءة المكثفة بذوقى ومداركى لكنها لم تشكل نمطا أو اتجاها فكريا . وكنت معزولا عن الصرعات الأدبية الحديثة التى كانت تمور بها الحياة الثقافية فى الثمانينيات , فسقطت فى بحر لجى من مصطلحات لم أكن على دراية بها . تيار الوعى , والبنيوية , والشكلانية , وسريالية الشعر والتصوير ¸ وجودية سارتر وعبثية بيكيت وكامى , فاقبلت على مجلة فصول التى كانت فى ذاك الوقت تحتفى بنشر المقالات النقدية عن تلك الاتجاهات ورحت اجوب شارع النبى دانيال ( ايام عزه ) فألتقط كل كتاب يتناول النقد الأدبى , وبدأت فى تكوين مكتبتى الخاصة التى سطا عليها الكثيرون ابان حقبتى الرومانسية التى كانت فى سبيلها الى التآكل . وهذا يفسر لى الآن السبب الذى من أجله أننى عندما التقيت بأنور جعفر فكأنما عثرت على ضالتى . ربما كان السبب الأهم هو أنه كان من الأصالة بحيث يدرك كم الزيف والضحالة عند اولئك الذين جرفوا الوسط الأدبى فى اتجاه اللامعقول , وكل فنون الحداثة , حتى باتت الواقعية سبة لصاحبها . فارتبطت به وداومت على حضور صالونه الجمعة من كل أسبوع . وأعتقد أن أنور بدوره قد ارتاح لصفاتى الشخصية أكثر مما اقتنع بموهبتى الأدبية . فقربنى اليه , ولا أعرف أنه باح بمكنون صدره لأحد سواى . فتوثقت صداقتنا على مدار عشر سنوات , نما فيها الصالون كطفل يحبو ويشب , وتزايد ضيوفه بمن انضموا اليه حتى لم يعد يتسع لمزيد , كما ثقل عبء تقديم المشروبات على سيدة المنزل دون أن تبدى تبرما . ولا أذكر من الذى طرح فكرة عقد الصالون خارج المنزل . لكنها على أى حال لم تكن فكرة أنور جعفر .
وفى الشتاء , أواخر عام 88 بدأنا نرتاد المقاهى لنعقد ندوتنا . لم يكن للندوة بعد اسم , ولم يكن لها خطة , كنا ننخرط فى مناقشة قضية أدبية , أو اصدار حديث , أو يطرح أحد الحاضرين أحدث أعماله فنتبادل فيه الاراء . ثم نفترق فى الهزيع الأخير من الليل , فأعود متثاقلا وقد امتلأ رأسى بعشرات الموضوعات . تلك كانت مدرستى . اذ أنفق الأسبوع بين الندوة والأخرى فى النبش على أرصفة النبى دانيال والمكتبات العامة والخاصة , أرجع الى أصول الموضوعات فأدرسها بنهم الجائع الى المعرفة . فهل استطعت أن أعوض ما فاتنى فى عشرين عاما بياتا شتويا اجباريا ؟ . لا أعتقد أنى أفلحت . كل ما أفلحت فيه هو ازالة بعض الصدأ أعاننى على المساهمة بالدور الذى قدر لى فى تأسيس ورعاية جماعة أصيل الأدبية .
غادرنا أذن صالون أنور جعفر , لكن الصالون حافظ على تماسكه وانتظامه متنقلا بين مجموعة من المقاهى بدءا من ميامى , فسيدى بشر , فالمنشية , حتى انتهى بنا المطاف فى المقهى التجارية . كان يدفعنا الى الانتقال من مقهى الى سواه ضيق المساحة والصخب الذى يطغى على أصوات المتحدثين . وكان مقهى التجارية نموزجيا حيث وفر موقعه موردا ثريا للشباب من كل التوجهات والميول والمشارب .
صار للندوة سحرها الخاص , فكنا ننهى أعمال الندوة فننتقل للمتابعة بشكل أكثر تحررا فى البوابين أو نجمة ميامى بشارع اسكندر ابراهيم . وكان العمود الفقرى للندوة فى تلك الفترة هو أنور جعفر نفسه , بحضوره الفريد , وتلقائيته , وبساطته , وتواضعه الجم . بالاضافة الى ثقافته الموسوعية . وأزعم أن الكثيرين من المبتدئين قد تم صقلهم فى تلك الندوة . ونراهم الآن يملأون أرجاء الأسكندرية صخبا , يملكون آفاقا واسعة , وجرأة على عرض أفكارهم , انما اكتسبوها فى أصيل . وربما أن ما تفردت به الندوة انما يكمن فى احتضانها للجميع , واحتفائها بكل التوجهات . ولم يكن الهواه ليجدوا أدنى حرج فى عرض أعمالهم واجتهاداتهم فيجدوا الرعاية بلا مجاملة ولا استعلاء . وانى لأرى من حولى الكثيرين ممن أقبلوا
على الندوة لديهم الموهبة ولا يملكون الجرأة . نهلوا وارتووا ثم انطلقوا مشرعين أجنحتهم فارتقوا , ونسوا أن يلتفتوا برؤسهم الى الوراء فيتذكروا أصيل .
استمر انعقاد الندوة على مقاهى الآسكندرية ما يربو على سنوات ثلاث , حتى قدر لها أن تستقر بشكل مؤقت كاستضافة فى النادى النوبى العام . تلك الاستضافة التى استغرقت عمر الندوة كله . ولهذا حديث آخر .