الجمعة، 10 يونيو 2011


أصيل ( 6 - ؟ ) .. خالد يوسف

............................
                          
                      
      تنتابك الحيرة وأنت تعالج بعض الشخصيات , اذ تكون بطبيعتها عصية على التصنيف . وتتميز تلك الشخصيات بالثراء , لكنه ثراء الغابات الاستوائية , حيث التنوع الحيوى المذهل , وحيث العشوائية هى أداة الطبيعة لتحقيق النظام . ومن تلك الشخصيات النادرة .. خالد يوسف . فأنت لا تستطيع أن تحسبه على الشعراء رغم أنه ينظم الشعر . وهو ناقد جيد , كان بامكانه امتلاك ناصية النقد فى الأسكندرية بغض النظر عن التخصص , ولكنه لن يعترف لك بأنه ناقد . وهو مترجم , يحدثك عن ترجماته فيشوقك , لكنك لن ترى منها الا نتفا ( لا تبل ريق ) . وهو أفضل ناحت للمصطلحات , ولو أنى قمت بتسجيل ما نحته فى ندوات أصيل خلال سنوات من جمل وعبارات ومفردات , لكنت صنفت له معجما خاصا .
      كما أنه محلل لا يشق له غبار , ولكنك سوف تتردد طويلا قبل أن تتبنى تحليلاته . وهو - بعد – أحد المؤسسين لأصيل , لا يمكنك أن تمارى فى ذلك , لكنك لن تعثر على نشاط واحد يحمل بصمة خالد يوسف . وخير ما يقرب الى الأذهان علاقة خالد يوسف بأصيل هو أنها أشبه ما تكون بزواج المسيار .
      فأنت تعثر على خالد دائما فى سجل اجتماعات المؤسسين , لكنك ستراه قليلا فى ندوات القراءة والورشة . وهو أحد المشاركين بفعالية فى صياغة دستور أصيل ونهجها وخططها , لكنه لن يتولى عملا تنفيذيا . وفى اجتماعات التحضير لمجلة أصيل التى استغرقت أكثر من عشرين جلسة أسبوعية , سيكون واحدا من أفضل من طرحوا الأفكار . لكنه مثل الجميع , لم يناضل لاخراجها الى النور . ولمشروع مجلة أصيل حديث مستقل سيأتى لاحقا .
      واذا كانت أصيل قد افتقدت عنصرا بشدة فى أى مرحلة من مراحل تواجدها , فقد كان ذلك العنصر هو الناقد المتخصص . كنا جميعا على اختلاف الشرائح العمرية نقادا بالفطرة , بحكم انتمائنا الى الفئة التى أدركتها حُرفة الأدب , وكانت آراءنا تصطبغ بأذواقنا وميولنا الفنية اذ نمارس نقد الأعمال المطروحة للنقاش , فكان الشوق الى ناقد متخصص يمثل عاملا مشتركا فى معظم مناقشاتنا خلال اجتماعات المؤسسين .
      نجحنا فى أحايين كثيرة فى الاستعانة بأساتذة النقد الأدبى فى جامعة الأسكندرية . كالدكتور أبو الحسن سلام , والدكتور السعيد الورقى , ونجحنا فى مايشبه استقطاب الدكتور أحمد صبره ليكون أحد النقاد الدائمين , لكنه بعد ندوتين ناجحتين , سافر فى اعارة الى خارج البلاد , ففقدناه قبل أن نكسبه . فلجأنا كنمط دائم الى الاستعانة بالنقاد السكندريين الهواه , وكانوا فريقا من المجتهدين الذين لا يمكن انكار ماأضافوه سواء لأصيل أو بجهودهم فى مختلف محافل الثغر الأدبية بقصور الثقافة , أمثال الرائع رجب سعد السيد , والمجتهد كمال عماره , والشاعر محمود عبد الصمد , وآخرين .
      وبمقدار ماانشغلت أصيل بالعمل على توفير ناقد , بمقدار مانصبت شراكها وأعملت الحيلة فى سبيل اقتناص خالد يوسف فى دائرة النقد . وكان هناك فريق من أصيل كنت واحدا منه يرى فى خالد ناقدا بارعا , ومحللا أصيلا , وناحتا للمعانى , يملك القدرة على التوصيل والاقناع , يتمتع ( بلطشة ) مما يسمونه بالكاريزما وما نعرفه بالحضور . الا أنى أشهد أن خالد آنذاك والزئبق كانا من فصيل واحد . فهو لم يرفض , ولم يتوانى قط . بينما لم يحمل أبدا على عاتقه مسئولية الناقد المعتمد للجماعة . ولو أنى زعمت أن خالد يوسف لم يكن ركنا من أركان الجماعة والندوة , فانى أكون حينها متجاوزا للحقيقة , مفتئتا على واقع لا يمكن انكاره .

الخميس، 9 يونيو 2011


قفص الطيور                                 قصة قصيرة   \   محسن الطوخى
..............                                  ...........           

     يتصدر المجلس والسيجارة فى ركن فمه . البيجاما المقلمة تحت المعطف الداكن .. الطاقية الصوف ..وجهه الهضيم يكتسى بعلامات الجد وهو يحدق فى أوراق اللعب :
- العب يامحترم ..لن ننتظرك حتى الفجر .
تتطلع اليه العيون متحفزة , تتساقط أوراق اللعب فوق المائدة الخشبية , يفرقع بالكارت منتشيا : آس سبيد .
يلملم الأوراق ويدسها أمامه مكشرا عن أنيابه فى مرح , يداعبه فؤاد ذو الشارب الزغبى :
- خسارة مواهبك تهدر فى هذا التيه .
يصيح بصوت أجش : قل للغجر .
يتفجر الضحك من حناجر تتوق للملحة .  يتابع فؤاد :
-لا يعرف قدرك سواى .
- ذلك أن الطيور على أشكالها تقع .
تتقافز عيناه فوق الوجوه وهو يتمتم متفكها : كلكم أولادى .
يلتقط الورق فيتأهبون لمعاودة اللعب , تكتسى الوجوه للحظة بجد حقيقى . رمى فؤاد الورق من يده .
- مللنا اللعب ... أرنا نياشينك .
توقف .. تفرس فى العيون بسرعة منتهيا بعينى فؤاد :
- النياشين لا يحصل عليها الا الحمقى من أمثالك .
لم يكن من الضرورى أن يكون ما يقوله مضحكا ليضج الآخرون بالضحك .
- لقد شاهدتموها عشرات المرات .
- أنسيت أن بيننا وجها جديدا ؟
كانا يقصدوننى .. اتجهت صوبى عشر عيون .
- أعرف ما تقولونه عنى فى خلوتكم ياأولاد الأبالسة .
     أعتدل وهو يضحك بطيبة . كنت ألتقى به للمرة الأولى , رغم أنى أعرفه منذ زمن بعيد , اذ يعرفه القاصى والدانى من أبناء المهنة . أتاحت لى وظيفتى كمفتش أن أتجول فى العديد من الوحدات العسكرية  , وأن ألتقى بأشخاص كثيرين يجدون الدافع لكى يرفهوا عنى , ويجعلوا اقامتى فى كثير من الأماكن الموحشة طبيعية الى أقصى حد ممكن , فتوفرت لى أمسيات طيبة , مليئة بالحكايات والنوادر . ونادرا ما ضمتنى أمسية دون أن يأتى ذكر السيد الضارب .                        صباح اليوم عنما ولجت بوابة المعسكر موفدا لبضعة أيام أشرف فيها على مستوى الرماية , كنت أتوق فى المقام الأول الى الالتقاء به , أول مااعترانى حينما أشاروا اليه , وتقدم فعانقنى , كانت الدهشة . كنت قد كونت صورة لشخص مفتول العضلات , بارز الصدر , مفرط فى ضخامته . تصورت بعين الخيال شاربا كثا متهدلا , وفما ساخرا , ونظرة ثاقبة . عندم احتضننى ببساطة أحتويته بذراعى فغاص بحجمه الضئيل فى صدرى , تطلعت الى وجهه الناحل ورأسه الصغير الأصلع , واحتوتنى نظرته الطيبة فذابت دهشتى فى غمرة الاحساس بالارتياح . تطوع فقادنى الى الاستراحة التى خصصت لى و قال وهو يجرب الصنبور الجاف  
- عسى ألا تفجع فينا .. لقد حاولنا أن نجهز لك مكانا يليق .  قلت متوددا : انهما ليلتين لا غير .
قال : ستأتى عربة الماء فلا تحمل هما .. تستطيع ان أردت أن تشاركنى الصومعة .. لكنك لن تجدها أفضل حالا.

..........

     لم تكن هناك مبالغة فى اطلاق اسم الصومعة على استراحة الضارب . الدرجات الحجرية التسع التى تهبطها . والباب الخشبى الضيق . والشكل البيضاوى . والقضبان الحديدية لأغطية الرأس التى تحمل سقف الملجأ الميدانى . وحتى الوجه الشاحب الضامر الذى ينظر اليك ببساطة . قال وهو يعتدل بجسده , قابضا بأصابعه على أوراق اللعب :
- أعرف ماذا يقولون عنلى فى  ادارتكم الرديئة .
نظرت اليه مستفهما ,
- يقولون أن لدى أرباعا ثلاثة ضاربة .
ضحكت قائلا : انهم لا يعرفونك جيدا .
قال بجدية : صدقت .. هذا دليل على فراستك .. فلو أنهم يعرفوننى جيدا لأدركوا أن الأربعة جميعهم  ( ضاربين ) .
     دوت عاصفة من الضحك ارتجت لها الجدران . القى بأوراق اللعب ونهض فساد الصمت . صمت مفتعل مشحون بالبهجة الخالصة , لا علاقة بينه وبين العالم الآخر الذى يقبع مكفهرا مقبضا فوق الصومعة .
     خطا خطوتين وأزاح ستارا واختفى وراءه , ثم لم يلبث أن أقبل يحمل بين يديه حقيبة ذات كسوة مخملية خضراء . اكتشفت من وجوه الر فاق أن علامات الجد التى تكسو وجه الضارب حقيقية , قال : بعدها ستنصرفون .
      استوى جالسا ورفع الغطاء , كانت هناك عوضا عن النياشين والأنواط , مجموعة من الشظايا المعدنية متفاوتة الأحجام والأشكال . احتلت الحواف قطع دقيقة فى حجم المصات , تلتها مجموعة من أحجام أكبر , أما كبراهن فقد استوت فى مركز المساحة الخضراء , شظية فى حجم عصفور الكناريا , سوداء مستدقة الأطراف , مكسوه بالنتؤات , كأنها حيوان بحرى صغير . أشار أحدهم الى الشظيات الحمصية قائلا : تلك هى العصافير .
رد فؤاد موضحا : العصافير .. هى تلك الطيور الدقيقة الرقيقة التى استخرجت من جسد الضارب نفسه .
قال ثالث وهو يتحسس بأصابعه مجموعة أخرى : أما تلك الحدآت .. فمن أجساد أخرى .
قال الضارب : تعرفون القواعد .
علق أحدهم : عليكم أن تختاروا واحدة .
أردف الضارب : بعدها ستنصرفون .
قال فؤاد : سيحظى ضيفنا بشرف الاختيار .
اتجهت العيون الى متسائلة ومحفزة . قفزت الى الكلمات الى لسانى قبل أن أعقله -  سأختار العنقاء . 
انفجر الضارب مقهقها فى سعادة حقيقية , وهو يلكم صدرى : أحسنت .
عقب فؤاد قائلا : تلك القطعة تخص المتهور .
     ساد الصمت وبدأ الضارب يروى .. تقلصت أمعائى وهو يصور كيف توقف القصف للحظة وساد الهدؤ , وقفز المتهور – هكذا أسماه – خارج حفرته ينفض الغبار عن وجهه وشعره , فى نفس اللحظة – هكذا أضاف – صفرت دانة .. رأيتها مقبلة .. كما أعرف أن المتهور رآها .. ليس من الأمور المتيسرة لكل شخص رؤية دانة مقبلة .. هذا شىء تتعلمه فى الميدان , عندما تعتمد حياتك على ترجمتك السريعة للأصوات , وتعتاد عيناك مفردات الضؤ فى الصحراء المفتوحة , هل رأيت الخوف فى  تلك اللحظة على وجه المتهور ؟ .. عشت سنوات معه يراودنى حلم آثم , أن أرى تعبير الخوف فى وجهه , أن يشوب  صوته تلك الرعشة التى تنبىء عن تصدع القلب . انفجرت الدانة على مسافة قريبة , ومرت العنقاء . رفع عينيه فى تلك اللحظة الى" وهو يصور بيده كيف مرت الشظية فى أحشاء المتهور من البطن , فخرجت من الظهر . خيم صمت ثقيل قبل أن يستطرد -  كانت هوايته المفضلة أن يتسلل من بيننا , يحمل هاتفه الميدانى ويقول :
-هل تريدون شيئا من هناك ياأولاد ؟
ونعرف نحن ماهو ( الهناك ) .. لم أكن لأفعل مايفعله المتهور . أحمل نفسى وأذهب مختارا الى الجانب الآخر , وأسير فوق الأرض الملغومة بين تحصينات اليهود , وأكمن حيث خطوط الهواتف , أعرى بأسنانى الأسلاك الباردة , وأقبع بالساعات أسترق السمع . ولما لا يجيب المتهور الا الصمت يقول لنا : لديهم هناك نساء فاتنات , سآتيكم بواحدة .
ويبتلعه الظلام , يتلاشى وقع أقدامه , أما نحن فننساه حتى يعود .

..........

      تتقلص أمعائى وأنا أكاد أرى العنقاء تمخر الأحشاء الطرية . أما الأمعاء الدامية فتبرز وسط لمعان أسنان الضارب , وهو يضحك ويقسم أنه لم ير الخوف مرة واحدة فى وجه المتهور حتى وهو يموت . عاد صوته الأجش يقول : بعد انتهاء المعارك أصبح مادار فى تلك البقعة يسمى بمعركة الشهيد سعد . كان سعد بطلا حقيقيا . كأنما كانت هناك صخرة فى مكان القلب منه . أنا لم أكن لأفعل أبدا ما كان يفعله .
     عندما نهض الضباط الصغار فى وقت متأخر تثاقلت أنا تحت وطأة رغبة عجزت طول الوقت عن التعبير عنها . بادرنى قائلا : تريد أن تبقى .
قلت وأنا لا أعنى ماأقول : الفجر على الأبواب .  قال : ربما لتشاهد الصومعة .  لم أعلق بينما استطرد : سوف تراها ولكن على الأولاد أن يرحلوا . 
كان آخر واحد منهم قد شد على يدى ومضى , أطل فى أثرهم وقال يحدث نفسه : أولاد طيبون .
قادنى وهو يزيح الستار : هذا ركنى الخاص .
كانت جدران الصومعة المقعرة مكسوة بأرفف بدائية الصنع عامرة بالكتب . أدار فتيل المصباح فاتسعت مساحة اللهب دون أن يضيف ذلك شيئا الى اضائة المكان . قلت :
- لا يستطيع مرحك أن يخفى شجنك .
دار ببصره فطاف بالكتب المتراصة . بدا المقعد الوحيد باردا موحشا أسفل المصباح فى نهاية الممر الضيق الذى يفصل الفراش الميدانى البسيط عن الجدار . دار حول نفسه قائلا :
- تستطيع أن تجلب مقعدا من الخارج .
- لن أبقى طويلا .. فقط دعنى ألقى نظرة على نياشينك .
- لقد رأيتها لتوك .
- أعنى النياشين التى منحتها فى الحرب .. النياشين الحقيقية .
- النياشين الحقيقية .
رددها لنفسه مبتسما كأنما يستمتع بوقع الكلمات .
- النياشين الحقيقية لا يمنحها لك أحد . أنت تحصل عليها هناك . تخوض الحرب فتحصل على واحدة – أشار الى الشظيات – فاذا بقيت حيا . لم يعد لأى شىء آخر قيمة .
- تعنى أنك لم تحصل على أية نياشين ؟
- أمامك ياصديقى كل مالدى من تراث شخصى .
- أنا لم أخض التجربة , لكنى أعتقد أنه من الغبن ألا يكافأ الانسان فى مقابل البلاء الحسن . هناك دائما المغانم والامتيازات .
كان ينظر الى فقط .. قلت مترددا : لابد أن الأمر يترك فى النفس بعض المرارة .
قال وهو ينظر فى عينى مباشرة : ليست هناك أهمية لما تعتقده أنت أو أنا , جوهر المسألة هو حياتك , تفقدها أو تحتفظ بها لقاء أشياء لا تدخل فى حساباتك . القضية العامة تتحول فى الميدان سواء شئت أم أبيت الى قضية غاية فى الخصوصية .. أن تظل حيا , فاذا علمت أن الله هناك ينظر فسوف تمتلىء بشىء واحد .. هو الدهشة , ولن يبقى حقيقيا الا ما يحتويه قفص الطيور . أشار مرة أخرى الى الشظيات الراقدة فى صندوقها المخملى .
     سادت فترة من الصمت , لم أكن أجد ماأصل به الحوار دون أن أكون مباشرا بطريقة تجعل منى ضيفا وقحا .. واصل حديثه :الحرب نشاط مثلها مثل باقى الأنشطة . أنت تذهب الى هناك لأنك منذ البداية لم تختر نشاطا آخر وعندما تقسم على الطاعة فقد أصبحت رهينة , ويكون من سؤ طالعك حينئذ أن تفترض سلفا أن المقدمات تؤدى بالضرورة الى النتائج , كما أنك لا تستطيع أن توجه اللوم الى أولئك الذين لديهم المهارة لجذب الانتباه الى أدائهم الخاص فهم أيضا يقومون بواجباتهم على خير وجه , بل انهم يفقدون حياتهم فى سبيل التمسك بشبر واحد من الأرض .. الانسان هو الانسان , موثق بقدره فى الحرب كما فى السلم .. تماما كما تكافىء ذلك الذى يأخذ بيد امرأة عجوز فى الطريق العام .. هل يعنى ذلك أنه الوحيد الذى يمتلىء قلبه بالشفقة ؟.. كلنا تأخذنا الشفقة بالنساء العجائز . ولكن المسألة منذالذى يعثر على امرأته العجوز فى الوقت المناسب .
سألته مداعبا : وأنت ما شأن امرأتك العجوز ؟
ضحك وهو يقول : لم أكن أبدا ذا باع مع النساء .
قلت : حتى االنساء العجائز ؟
- العجائز منهن بالذات .
وأغرق فى الضحك . . كان الليل قد أوغل , قاومت رغبتى فى البقاء وشددت على يده مودعا , وعندما كنت أهم بارتقاء الدرجات الحجرية صاعدا الى سطح الأرض سمعته يقول بوداعة : العنقاء .. انها لى .
     كنت لا أزال أقبض عليها بشدة , تناولها وهو يبتسم .. فى الخارج كانت السماء مرصعة بنجوم كثيرة . بحثت عن النجم القطبى . فقد كان هو الذى سيقودنى شمالا الى الاستراحة التى خصصت لاقامتى .

 الرسم المصاحب بريشة الفنان \ ياسر عبد القوى

الثلاثاء، 7 يونيو 2011



أصيل ( 5 - ؟ )   ... السيد عبد الرحيم أدريس

...........................


      ربما كان الدافع وراء البحث عن 

شعار واسم للندوة , هو الهاجس الذى 

ظل يراود الجماعة . يطفو حينا على 

سطح الوعى , ويغيب أحيانا , لكنه 

هاجس حى على الدوام . وهو الخشية من 

اقتران الندوة فى الأذهان بالنادى النوبى . 

رغم أن واقع الحال كان أبعد من أن يثير

 مثل تلك الحساسية . ويستحق الاستاذ الفاضل السيد أدريس , رئيس النادى آنذاك , 

كل التقدير . مصرى متفتح , يعرف قدر المثقفين , ويؤمن بدور الأدب والفن

باعتبارهما من أهم مقومات بناء الانسان . ولقد استحق احترامى الكامل , واحترام 

كل من عرفه من جماعة أصيل , عرفانا لمدى تقديره للدور الذى كانت تلعبه الجماعة .

 ومن الواضح أن تعليماته وأوامره لاداريى النادى كانت واضحة تماما , بتقديم كافة 

المعاونة من ناحية , ولتجنب التدخل فى أعمال وأنشطة الندوة من جانب آخر .


       كانت القاعة التى خصصت للندوة عبارة عن منتدى لشباب النادى , يمارسون 

فيه الهوايات والسمر , وكانت تحتوى بالأضافة الى طاولتين للبنج بونج على جهاز

 تلفزيون عتيق مرفوع على حامل مثبت بالجدار , وبعض المناضد تعتليها طاولات

 الزهر ولوحات الشطرنج .

     كان ( ناجى ) عامل البوفيه منذ عصر الجمعة المخصص أسبوعيا لعقد الندوة , 

يضم طاولتى البنج بونج , ويفرد مفرشا أخضر اللون يغطيهما معا , ويصف

 المقاعد , ويرفع من القاعة كل أدوات التسلية فيحولها الى قاعة مؤتمرات بمعاونة 

الأعضاء المبكرين . ثم يواظب على تقديم المشروبات . وكنت تشعر وهو يدفع الباب

 برفق اثناء انعقاد الندوة , ويتحرك بحرص كأنما على أطراف أصابعه , يوزع 

الأكواب فى صمت  ثم يتسلل مغادرا فى هدؤ , الى أى حد يدرك ذلك الرجل البسيط 

قيمة النشاط الذى يدور فى القاعة .

وعلى امتداد سنوات لم يخرق أحدهم خصوصية الندوة , ولم يتدخل أحد من موظفى

 النادى أو أدارييه فى أعمالها . وكنا نملك أن نناقش كل الموضوعات , ونحطم جميع

 التابوهات دون أن يحفل بنا أحد . فيضاجع الموتى السماء بعامود السوارى , فى

 قصيدة ياسر عبد القوى ( الرأس البرونزى ) , وينشد عبد الرحمن عبد المولى ( 

الشاعر المفقود ) قصائده فى هجو العرب وانتهاكهم أذ يشاركون فى تطويق العراق

 تمهيدا لطحنه , ويرصد أنور جعفر بدايات المد الوهابى فيكتب دماء على تل الزمار

 ¸ويلقى حجاج قصته القصيرة ( ليس مع العبيط ) , ويناقش المرحوم محمود حنفى

 روايته ( ظل عائشة ) حول هزيمة الوطن ,يخترق فيها المحظور السياسى والدينى

 معا . وتنصت القاعة لشهدان الغرباوى وهى تلقى أشعارها متجاوزة كل الحدود
 .
غاية الأمر أن علاقة أشبه بالتكافل قد نشأت بين أصيل وبين النادى النوبى , برعاية

 الرجل الأصيل السيد أدريس . كان النادى يوفر قاعة دائمة واستقرارا تاما للأدباء .

 بينما كانت الندوة تغطى نشاطا ثقافيا هو من صميم أنشطة نادى اجتماعى . فكنا لا

 نعترض على تضمين فعاليات الندوة ضمن سجلات النادى كنشاط ثقافى يدعم مجلس

 الادارة . كما كنا نوجه الدعوات للندوات العامة باسم رئيس النادى . أذكر فى هذا

 المقام أن عن للجماعة أن تستضيف فى أحدى ندواتها عام 93 الأديب نعيم تكلا 

كاشارة الى انفتاحها واحتفائها بكافة التوجهات وللتدليل على قبول الآخر مهما كانت 

توجهاتة فى اطار الأدب والفن . ولم يكن لدى الوسط الثقافى حينها استعداد لتقبل

 أعمال نعيم التى تدور حول يهود مصريين أجبروا على الرحيل من مصر تاركين 

ذكريات وحيوات وصداقات . وجهنا الدعوة اذن لنعيم لحضور أحدى الندوات . ورغم

 أنه لم يزد عن المشاركة فى فعاليات الندوة الا أن موجة من الأقاويل والشكوك ثارت

 لأسابيع فى مناخ يعلى من قيم الانغلاق ( ربما كان مقدمات لما آلت اليه الأحوال 

اليوم )  . ولم يكن يشغلنا كجماعة الا ماقد يكون من تأثير ذلك على أدارة النادى .

 وأذكر أننى حين استطلعت رأى السيد أدريس أن ابتسم بود وقال : زوبعة فى فنجان

 ستنتهى .. لا تهتم .

وفر السيد أدريس أذن ملاذا آمنا للندوة . ووفرت له الندوة نشاطا مشرفا طالما افتخر 

به .

السبت، 4 يونيو 2011





أصيل (4  - ? ) ...  أحمد نبيه

     ...................


نبت أحمد نبيه فى الندوة 


بتلقائية , كبذرة شجرة كامنة 

فى التربة تنتظر سقوط المطر . 

ليس جريا على عادة الأشجار , 

تنموحثيثا . بل نبت دوحة 

وارفة فكأنما خرج من جراب 

ساحر .

حدث ذلك فى نهايات عام 

1990 , عندما حطت الندوة 

على مقر ثابت فى النادى النوبى العام الذى أتاح لها نقلة نوعية بالغة الأهمية . فلم 

تكن الندوة فى مرحلة المقاهى الا امتدادا لصالون أنور جعفر . وهو نفسه مافتىء 

يتعامل مع الحضور باعتبارهم ضيوفه , فلم يكن أحدنا ليجرؤ على تسديد ثمن

 المشروبات فى أى مقهى أرتدناه .

ويظهر اسم أحمد نبيه منذ أول تسجيل للندوات باعتباره أحد المؤسسين للجماعة , 

التى ستبحث لنفسها فيما بعد عن اسم وشعار وخطة عمل .

كان هناك منذ الليلة الأولى التى دخلنا فيها الى النادى النوبى , نبتسم للوجوه 

الشابة السمراء , ونتحسس مواقع أقدامنا . عرفته كشاعر رغم أنى لم أر له الا 

قصيدة يتيمة تدور على ما أذكر عن القدس الأسيرة . لكنه مفكر من طراز فريد , 

مثقف موسوعى . ومنذ اللقاء الأول صار واحدا من المؤسسين فلم تنقطع علاقته 

بالجماعة قط .

لا أنسى دوره وحماسته فى تجربة كتاب أصيل التى أنتجت رواية , وديوان شعر ,

 ومجموعتين قصصيتين , وكيف شارك أحمد نبيه فى الاعداد والتجهيز وتولى

 مسئولية الاشراف على طاقم التوزيع الداخلى فى الأسكندرية , فى الوقت الذى تولت 

فيه أخبار اليوم التوزيع فى عموم القطر , فكان العدد الذى تم توزيعه فى الداخل

 عشرة أضعاف ماوزعته دار الأخبار فى محافظات مصر . والواقع أن الكثير من 

طموحات أصيل فى النشر لم يتحقق لأسباب ربما يسمح المقام بذكرها فيما بعد .

كما يظهر اسم أحمد نبيه فى سجل الاشتراكات الشهرية كواحد من أكثر المساهمين 

انتظاما فى تمويل الجماعة التى كانت تعتمد على المؤسسين فى فى الانفاق على

 انشطتها المختلفة . ولأوجه الصرف على تلك الأنشطة حديث مستقل .

وربما يحسب لأحمد نبيه كونه العضو الأكثر فعالية على امتداد عمر أصيل فى 

الاجتماعات الخاصة بالمؤسسين , وكانت أسبوعية مستقلة عن ندوة الجمعة , 

بغرض وضع الخطوط العامة والسياسات وحل المشكلات الطارئة , ومناقشة 

الاصدرات . 

أما البصمة الأكثر وضوحا لنبيه فهى مساهماته وفعالياته فى ندوة الجمعة الأسبوعية 

التى خصصت لتناول أعمال أعمال الأدباء من شعر , وقصة , وكافة فنون الكتابة ,

 والتى كانت بمثابة ورشة أصيل وعماد نشاطها الأساسي . وقليلون هم الذين 

يملكون القدرة على النقد والتحليل على البديهة بمجرد الاستماع الى العمل الآدبى

 مقرؤا. وكان نبيه واحد من أولئك .

وقد تميز الى جواره الشاعر المشاغب خالد يوسف . ولعل كليهما يوافياننى

 بشهادتيهما عن تلك الفترة لتكونا جزءا من هذا السياق .

وأحمد نبيه بعد من اللأشخاص المعدودين الذين لم تنقطع صلتى بهم منذ تركت

 الندوة فى 1996 . والحوار معه ممتع . يحدثك فيمتعك فى السياسة والأدب 

والاقتصاد والتاريخ . وهو ليس كغيره نتاجا لأصيل . وانما أصيل من منتجاته .