لقــــــــــــاء
قصة قصيرة
محسن الطوخى
...................
طيف من الماضى بزغ بغتة فوق سطح الذاكرة . الوجه جد مختلف, والصوت. النظرة المثابرة فقط تحمل مذاق الأيام البعيدة . لابد انها كانت تطل من عينيه منذ البداية , منذ قدم نفسه بوجه مبتسم , لا علاقة له بوجه ذلك الصبى الوسيم الحيى , وقال : لن تتعرف على بسهولة .
لم يكن ثمة مكان فى ذاكرتى للوجه الباسم , والشعر الناعم رغم بدايات الشيب . أعرف أن على أن أجرد الوجه من تفاصيل السنين . أرفع تلك التجعيدة من تحت العينين , وأزيل الثنيات من زاويتي الفم , وأستر مقدمة الرأس ببعض الشعر . ابتسم وقال :
- قطار أبى قير .
لعلها كانت حين نطقها تطل بنزق , وربما زمت شفتيها بغضب . أعلم الآن أنها كانت طول الوقت هناك , تتعلق بالأهداب . ولما نطقها ضاقت الفجوة , وهو هناك على مسافة أشبار من وجهى , يستمتع بامارات الحيرة . وقطار أبى قير يرتع فى ذاكرتى , فيلملم كل فتافيت الحكايات . بدايات الصبا , العشق والهجر . لكن أى من أولئك الذين احتواهم العمر فى الزمن الغض لم يكن ليطابق الوجه المدور الوسيم وهو يدنو ويحفزنى . وهى , ماجرؤت على الظهور لتهبنى اشارة . مراوغة كعهدى بها وأنا أسطر اليها أشعار جبران , وأدبج لها من أشعارى الساذجة قصائد من مئات الأبيات . أجفف الأزهار وأدسها بين رسائلى . وهى تميل على كتفى فى مماشى المنتزه الخالية وتغنى لى ( بعيد عنك حياتى عذاب ) , فأصدقها . وفى الصباح تقبل الى محطة القطار وذراعها فى ذراعه.(عباس) فتى حيى , رصين , كهل فى الخامسة عشر . حين يحتدم الشجار بين فرق المدارس , أقذف اليه بحقيبتى , وأدخل المعمعة , أبحث عن كدمة فى الرأس , أو خدش يعلن أنى لم أتخلف عن العراك . وأعود , فيقدم لى الحقيبة ولا يقول شيئا . يرمقنى فقط بنفس الاعجاب الذى نرمق به الكبار وهم يتخاطفون البنات الأجمل . أضع ذراعى فى ذراعه , وأحيط خصرها بذراعى الحر , فتقول : أصر على مرافقتى الى المحطة . وتشير اليه بطرف ذقنها . فأضحك : ملاكك الحارس . تضحك بنزق وتداعب خصلة الشعر الناعمة التى تتهدل فوق جبينه , فلا يتكلم , يبتسم فقد بحياء صبية , وينظر مباشرة فى عينى بنفس الاعجاب الذى يتطلع به اليها , ولا يتركنا بقية اليوم . فقط عندما نتخاصر ونوغل فى أحراش البرتقال , يجلس بسكينة الى جوار حقائب الكراسات . وفى موعد انتهاء اليوم الدراسى يقول لى : سأرافقها الى بوالينو .
قطار أبى قير .. هذا العالم الزاخر .. أين أجدك فيه ؟ .. وأنت بالذات , استدارت الأنا ومحتك محوا , وأسقطتك حيث ترقد الأشياء الميتة .
ابتسم كالمحرض وقال : شارع بوالينو .
وانبثقت ليلى كالنور , تقفز وتصفق بسرور مثلما فعلت فى ذلك اليوم البعيد . فوق جزيرة نلسن , النوارس تحلق وتنقض ولا ظل حتى لرضيع . انطلقت تصفق بحبور , كأن العالم كور فى قبضة واستقر فى كفيها .. شارع بوالينو ..بالساعات قبالة الشباك المغلق , أثر وشاية . أعرف أنها هناك , وأنها ترانى من خلف الشيش . وأعرف أنك هناك فى مكان ما , أشعر بك ولا أراك .
هل بدا كل ذلك فى عينى عندما انفرجتا على اتساعهما وهتف لسانى قبل أن أدركه : ( عباس ) .. وابتسمت أنت بظفر . ولم أعثر فيك على الصبى الوسيم الحيى . لكنى رأيتها تطل من عينيك بنزقها القديم ... ( عباس ) .. وعدت أقف على عتبة الحياة التى خلفتها ورائى من ربع قرن . القميص ( لينو الشوربجى ) على اللحم فى برد يناير , وقطار أبى قير يلفظ ما بجوفه من صبية وصبايا , تلتقطها عيناى وسط الزحام , ننتحى جانبا , ونفترق على موعد , وتنادى قبل أن تمضى : ( عباس ) , فتناولها أنت الحقيبة , وأدس ذراعى فى ذراعك , وأنظر فى عينيك الجميلتين , وصمتك الغامض .
وعندما قلت ( شارع بوالينو ) .. وهتف لسانى ( عباس ) ..سمعت فى أذنى غطيط القطارات , وصخب البيع والشراء , والشباك المغلق , وجزيرة نلسن , وأحراش البرتقال , وهاهى ليلى تطل من عينيك , تصفق بمرح . ولما تناثرت فى المكان نتف الذكريات , شددت على يدى وابتعدت , وسؤال حائر يحوم ويحوم , دون أن يطرح نفسه .
محسن الطوخى
-------------------------------------------